في مكة
دخلنا مكة لا أدري متى، بعد العشاء أو بعد المغرب، في الظلام والسلام؛ فما في الوسع أن يعتمد المرء في الحجاز على ألوان النهار والليل لمعرفة الوقت، أو يركن إلى الشمس أو حتى إلى القمر، وقد انتهيت بعد ثلاثة أيام إلى إساءة الظن بالشمس والإيقان باختلال دورتها. وهل كان في مقدوري أن أكذِّب ما أجمعت عليه ساعات الحجاز الجديدة وأن أصدق هذه الشمس القديمة وحدها، ولم تكن ساعتي على يدي فقد تركتها مع ثيابي لما لففت نفسي في مشامل الإحرام، فلا عجب إذا كان الأمر قد اختلط عليَّ فلم أعد أميز بين النهار والليل.
بعد العشاء إذن أو بعد المغرب — كما تشاء فكله ليل — شارفنا مكة فنفخ السائق في بوقه تنبيهًا وزجرًا للناس عن الاحتشاد في طريقه، وفتحت أنا الشباك لأنظر فلم تأخذ عيني شيئًا، حتى رمال الطريق وصخور الجبال لفها الظلام في شملته، فاضطجعت وقلت إن لي شأنًا غير شأن أصحابي، هم يدخلون مكة دخول الغريب عنها فمن حقهم أن يتطلعوا ويشرفوا وينظروا ويتأملوا — إذا وسعهم ذلك — ولكني أنا ابن هذه البلاد، بل ابن هذه البلاد، بل ابن مكة بالذات؛ فإن جدتي لأمي مكية زوَّجوها وهي بنت عشرين سنة رجلًا فحلًا من أهل المدينة فنشزت فطلقوها منه ثم احتملوها إلى مصر بعد وفاة أبيها وخراب بيتها وتجارته فتزوجت جدي، ثم إن أبي مازني مثلي، وقد انحدرت إليه هذه «المازنية» ثم إلى بعده على نحو ما انحدرت إلينا «الآدمية»، وهذا كله مفسَّر في «صندوق الدنيا» فيرجع إليه من شاء من طلاب هذه الأنساب العريقة.
وقد أسلفت القول على قبر حواء جدتي العليا ولست أكتم القارئ أني تأثرت جدًّا وأن الدمع غلبني حين ألفيت نفسي — أنا الغريب البعيد عن وطني وأهلي وأصحابي وعن كل من يُعنى بي أو يكترث لي — واقفًا أمام قبر جدتي! وصحيح أن القرابة بعيدة ولكنها على كل حال من رحمي، أو أنا على الأصح من رحمها، ولم يخالجني ظل من الشك في أن هذا قبرها على التحقيق؛ فقد حن الدَّمُ في عروقي إليها، وكان حنينه بالغريزة التي لا تخطئ، ولن يكذب الدم فإنه ليس بماء، وشعرت بأن مَعِين حبي البنوي لها قد جاش واضطربت أعمق أعماقه وطغى وفاض من مقلتيَّ فاستندت إلى حديد الباب وأسبلت الدمع. نعم بكيت أسفًا؛ لأن جدتي لم يطُل بها العمر حتى تراني، كلا. ومما ضاعف أسفي أني أنا أيضًا لم يفسح الله في أجلي حتى كنت أراها، فماتت قبل أن يخطر لأبويَّ أن يجيئا بي ببضعة آلاف من السنين، كان من السهل أن تطوى ولم تكن الدنيا تخسر شيئًا لو أنها لم تكر عليها. بضعة آلاف فقط كان يمكن اختصارها أو اختزالها على نحوٍ ما، لتتمكن الجدة والحفيد من التعانق وشفاء غلة الشوق المتبادل! ولكن على المرء أن يحتمل متاعب الحياة وأن يتجلد على صروف الأيام. ولعل ما صارت إليه جدتي المسكينة المحرومة هو الخير، ولو أنها عاشت إلى اليوم ولم تمت، لما أتيحت لنا فرصة للخروج إلى الحياة، وفي هذا بعض العزاء لنا.
ورأيتني أتلفَّت — بقلبي فقط — وأنا داخل مكة كأنما أبحث عن بني مازن أهلي وعشيرتي، واشتقت أن أعانق القبيلة كلها بكل ما فيها حتى الخيام والجمال والخيل والسيوف والرماح، وأن أضمها إلى صدري وأن أريح رأسي على صدرها وأن أذرف دموع الفرح بلقائها بعد طول النوى وبُعد الشُّقَّة، وعجبت كيف لم يخرج منها لاستقبالي والترحيب بي، وساورتني المخاوف عليها، وأشفقت أن يكون ابن السعود قد رماها «بتصبيحة»! فإن قومي — عفا الله عنهم — من ذوي المروءات، ولست أعرفهم أطاقوا قط أن يدعوا مسافرًا مثقلًا بالأحمال رازحًا تحت الأعباء، وابن السعود يكره هذا التخفيف عن الناس، ويؤثر أن يدعهم ينوءون بما عليهم وما معهم، ولا يجيز هذا الضرب من التعاون.
ولما صارت بيننا وبين مكة خطوات قال واحد: «ألا تفتحون النوافذ؟»
قلت: «لماذا؟»
قال: «قد يكون هناك جند لتحيتكم فيحسن أن تبرزوا في التحية.»
فقلت وأنا أرتد إلى الوراء وقد أحسست أن وجهي صار كالجمرة وإن كانت المرآة التي أمام السائق لم ترني شيئًا، لأنها بعيدة عني ومنحرفة أيضا: «عفوًا يا سيدي. لا تخجلوا تواضعنا! أرجو. ألح … اصرفوا الناس عنَّا …»
وكنت أريد أن أقول كلامًا آخر ولكني نسيته لأن صيحة مزعجة انطلقت وسكت آذاننا على أثرها قعقعة سلاح، فخفت وسمعت أسناني تخبط وهي تصطدم. ثم ملكت نفسي وأسعفني الظلام فابتسمت لما علمت أن هذه تحية يتلقانا بها الجيش على باب مكة.
وانطلق البوق يرد الناس عن الطريق، ومضى السائق اللعين يخطف بسيارته كأنه يفر بها من الموت، ولا يمهلنا حتى نتأمل الناس المحتشدين على الجانبين والدكاكين المضاءة بمصابيح البترول — أو الزيت فما أدري — والطريق طويل يشق مكة من بابها إلى آخر الكعبة ومن ورائها إلى السوق، وقد قطعناه بالسيارة في سبع دقائق، ثم وقفت بنا أمام دار الضيافة على «المسعى بين الصفا والمروة» وأمام باب السلام، فنزلنا وأقبل علينا ناس كثيرون يُسلِّمون علينا، فقلت: هذه فرصة، ولعل بعض قومي بينهم أتوا مستخفين. فملت عليهم، أو على الأصح شببت إليهم وتعلقت بأعناقهم، طوقتهم بذراعي وساقي أيضًا — ذراعاي حول أعناقهم وساقاي حول خصورهم — وأهويت عليهم أقبِّلهم وألثِم أفواههم وخدودهم وأنوفهم وآذانهم ورءوسهم، وكان كل منهم يتلقى مظاهر شوقي بما تستحقه وتستوجبه من السرور والجلَد ثم يحطني على السلم.
وملنا إلى غرفة رحيبة نصفها ميضأة، والنصف الأخر تصعد إليه بدرجتين وهو مفروش ومُعَدٌّ للجلوس وفي وسطه مكتب عليه تليفون، فهممنا بالجلوس، فقيل بل توضَّئوا لتطوفوا وتسعَوْا وتتحللوا من الإحرام؛ فإن سمو الأمير ينتظركم. فتلفتُّ حولي ثم إلى الدرجتين ورحت أفكر في طريقة محترمة لهبوطهما فلم يفتح الله عليَّ بحيلة، وكان إخواني في خلال ذلك سبقوني إلى الوضوء فدنوت من حرف الدرجة، ورأيت عبدًا طويلًا فأشرت إليه فدنا مني، فانحنيت من مرقبي العالي كأني أريد أن أهمس في أذنه شيئًا ثم غافلته وتعلقت به ودُرت وتركت نفسي أنحدر على هذا العمود الآدمي إلى الأرض بسلام.
وقدم لي أحد العبيد «قبقابًا» فنظرت إليه ثم هززت رأسي وسألته: «ما هذا؟»
قال: «قبقاب للوضوء.»
قلت: «ولكن كيف ألبسه؟»
قال: «اخلع نعليك وأدخل هذا بين أصبعيك.»
و«هذا» عبارة عن أسطوانة دقيقة كمن الخشب المنجور عمودية على سطح القبقاب، يُدخلها المرء بين أصبعيه ثم يذهب يزحف أو يجر القبقاب على الأرض ولا يرفعه عنها لئلَّا تفلت الأسطوانة من بين الأصبعين؛ إذ لا سير من الجلد له يمسك ظهر الرِّجل، فقلت: بل الحفى خير من هذا. وقعدت أتوضأ.
وللحرم عدة أبواب، ينحدر منها المرء إلى صحن رحيب جدًّا يدور بالكعبة، كصحن الأزهر إلا أنه أوسع كثيرًا، وأرضه رمل حصى، ولكنه حول الكعبة مبلط، وكذلك ما بين الأبواب وهذا المطاف. وقد تسلَّمَنا شيخ المطوِّفين ومضى بنا إلى مقام إبراهيم — جدي أيضًا — عليه السلام ووقف بنا وصَفَّنا بين المقام وزمزم وقال: صلوا ركعتين. ففعلنا ثم نهضنا وبدأ الطواف، وشرع في العمل، وكنت أتمنى لو تريَّث قليلًا — دقائقَ فقط — لأنظر إلى الكعبة في الليل على ضوء الكهرباء، ولكنه لم يعبأ بذلك وطوى ذراعيه إلى صدره كأنه يتهيأ للجري، وتلك هي الهرولة، ومضى يدعو ونحن نقول وراءه، وكنت وأنا أهرول موزَّع النفْس، عيني إلى الكعبة وإلى الطائفين مثلنا وهم جماعات جماعات وكل جماعة تهرول وراء مطوِّفها، وأذني إلى هذا الشيخ المطوف الذي كان يأبى إلا أن ينطق عبارات الدعاء بأقصى ما يستطيع من البطء والوضوح وبأكثر ما يسعه من اللحن أيضًا، كأنما حسِبَنَا بعض الجاويين أو الهنود، ولم يدرِ — سامحه الله — أنَّا … ولكن المفاخرة لا تليق. غير أن لحنه كان يمزق أذني ويفسد عليَّ تبتُّلي في الطواف، وقد أذكرني جماعة «التراجمة» في مصر الذين يحشون رءوس السائحين وزائري الآثار المصرية بالأغاليط التاريخية والسخافات الفاضحة، وكما عالت مصر مشكل التراجمة والأدِلَّاء بإنشاء مدرسة لهم، كذلك أنشأت لهم الحكومة السعودية معهدًا لتخريج المطوِّفين، وحسنًا فعلت؛ فإن من رأينا من المطوفين أعاجم.
ووَدِدْتُ لو أتيح لي أن أتمهل عند الحجر الأسود فإنه عجيب، ولكن الزحام كان شديدًا، ولسنا بأحق من سوانا بذاك، وهو أسود فاحم ووضَّاء مشرق، وحوله إطار بيضاوي من الفضة، والمرء يحتاج حين يُقبِّله أن يُدخل وجهه فيه لأنه — أي الحجر — مجوف. وأحسب أن ألسنة مئات الملايين من الخلق قد لحسته وأكلته، أو لا أدري، لعله كان هكذا أبدًا، وقد قلت وأنا أفعل ما فعلت الملايين قبلي وما ستفعل الملايين بعدي، كما قال عمر بن الخطاب: «اللهم أني أعلم أن هذا الحجر لا يضر ولا ينفع ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبله ما فعلت.»
والركن اليماني حجر آخر في زاوية كزاوية الحجر الأسود، ولكنه أشبه بحجر الصوان أو الجرانيت سوى أنه إلى الخضرة أميل، ومن عجيب أمره أنه يبدو للطائف على بعد متر أو اثنين كأنه من المعدن أو الفضة. وقد نازعتني نفسي مرارًا أن أترك الصف وأتخلَّى عن المطوف وأدنو منه لأتأمله، فلما أذِن لنا المطوف أن نفعل في الطواف السابع كنت أسبَقَ الإخوان إليه.
والحق أقول إني أحس أن طوافي هذا لم يُحسب لي في عداد الحسنات التي يسجلها أحد الملَكين، فقد أفسده المطوِّف بلحنه كما أسلفت القول في ذلك، وكنت أنا من ناحية أخرى أرد عيني بجهد واضح عن التطلُّع والنظر فيما حولي، وهكذا خرج كل من إخواني بقصر أو قصور في الجنة وخرجت أنا كما دخلت وليس لي سوى مشملين على بدني احتفظت بهما للذكرى. فلا بد إذن من عمرة أخرى أو حجة أعوِّض بها ما فاتني.
وقد اشتهيت وأنا ألمس الحجر الأسود أن أقتطع منه قطعة أحملها معي وأعود بها، فقد خيل إليَّ أنه عنبر متجمد لا حجر، وجمحت بي هذه الشهوة حتى لأنستني أن ليس على بدني سوى مشامل الإحرام فذهبت أتحسس لعل معي مبراة أو شيئًا يصلح للقطع، ثم أفقت والتفتُّ وإذا بأحد أصحابي يمد يده بالمنديل يمسح به الحجر، فعجبت من أين جاء بالمنديل وكيف حمله وأين خبأه، وقد كانت يداه فارغتين، وتأملته وإذا بالخبيث يلبس تحت المشامل ثيابه الصوفية.
وقد قلت له لما عدنا إلى دار الضيافة: «هات جنيهًا يا سيدي. جنيهًا ذهبًا.»
فحملق في وجهي وقال: «لماذا؟»
قلت: «جنيهًا نشتري به ذا القرنين.»
قال: «ذا القرنين؟ لست أفهم.»
قلت: «خروفًا ذا قرنين طويلين متلويين نطلقه عليك فينطحك بهما ثم نذبحه ونطعم الفقراء لحمه.»
قال: «ولكن لماذا؟»
قلت: «جزاء وفاقًا بما زورت على الله يا خبيث! أتلبس ثياب الصوف تحت المشامل مغالطًا ربك في قلب الحرم المقدس، ثم تتجاهل وتحاول أن تهرب من الفدية؟! هاتِ لنا ذا القرنين عجِّل!»
ولكنه لم يزد على أن قال: «أوه!» وضحك.
وملنا إلى زمزم وهي بئر في الحرم عليها بناء له باب، فسَقَوْنا منها ماءً غير سائغ، ودخلنا البناء لنغسل رءوسنا ولا أدري لماذا، واقترح بعضهم علينا أن نستحم بمائها فلم نر لهذا موجبًا؛ فإن ماءها بارد وجو مكة في الليل غير دافئ، وعلى فَمِ البئر سور من الحديد عالٍ أقامته الحكومة لأن بعض الحجاج يحلو لهم أن يلقوا بأنفسهم في البئر ليغرقوا ويموتوا شهداء على ظنهم ويذهبوا من قاعها إلى الجنة مباشرة بأخصر طريق.
وخرجنا لنسعى بين الصفا والمروة، وهو طريق بينهما مهدته الحكومة السعودية وعبَّدته ورصفته تسهيلًا للسعي، وطوله نحو كيلو أو أقل، ولا بد من قطعه سبع مرات، فلما شرعنا نسعى جاءنا البشير من قبل الأمير أن في وسعكم أن تسعوا بالسيارة إذا كان التعب قد أدرككم. فرفعت يدي بالدعاء لسموه وابتهلت إلى الله أن يطيل عمره وأن يلهمه دائمًا — على الأقل ونحن في الحجاز — مثل هذا التيسير على الناس، وعدوت إلى السيارة فصاح بي الدليل الذي يسعى بنا أو معنا على الأصح: «إلى أين؟»
قلت: «إلى السيارة. يا صابر تعالَ بسرعة.»
ولكن صابرًا سائقنا كان ملكيًّا أكثر من الملك؛ فقد أبى لنا أن نسعى بالسيارة وقال إن هذا لا يجوز، وإن المسعى غاصٌّ بالساعين وبالنساء والرجال والأطفال؛ فليس ما تبغون من الإنسانية في شيء. فخجلنا وتركنا السيارة بعد أن استوينا فيها. وأصارح القارئ بأني لعنت «صابرًا» هذا في سري، وإن كنت لم يسعني إلا احترامه، وهو شاب في العشرين من عمره حدَّثنا في الطريق أنه مصري الأصل وأن لأسرته نحو مائة عام في الحجاز، وقد كان على أيام الحسين أحد رجال فرقة الموسيقى الحربية، ولكنه الآن سائق سيارة في شركة القناعة، وأبرز صفات هذا الشاب الجرأة والاستقلال مع الأدب الوافر، وحديثه ممتع وفي لغته فصاحة وفي صوته عذوبة وفي عينيه حلاوة، ولو كان الغناء مباحًا لكان الأرجح أن نسمع منه شدوًا مطربًا، وقد كان يخاطب كبراء الحجاز في جدة ومكة وفي الطريق بينهما مخاطبة الند للند، ويشعل أمامهم سيجارته ويذهب يدخن ويناقشهم ويحاجُّهم ويعترض على بعض ما يقولون ويدلي بالصواب في رأيه كأنه ند لهم، وكانوا هم يتقبَّلون منه ذلك ولا يرون فيه شذوذًا، ولا يبدو عليهم أثر الدهشة أو الامتعاض؛ فالأمر إذن مألوف.
ولكنه حنبلي مستبد، أبى لنا أن نسعى بالسيارة، فلما أصر رسل الأمير وألحوا، ترك السيارة وأبى أن يسوقها فتولاها غيره، وأحسب صابرًا قد حقدها علينا وأسَرَّها لنا؛ فقد تخلى عنَّا بعد أن عدنا إلى جدة، وعلى أن هناك حاقدًا غيره هو زكي باشا؛ سعى على قدميه مع بقية إخواننا وسعينا نحن بالسيارة فجعل بعدها يشنِّع علينا ويشهِّر بنا — مازحًا — في كل خطبة له، بل جعل يتَّخذ من ذلك دليلًا على أن الإسلام لا ينافي التقدم ومظاهر المدنية الحديثة، وما كان هذا الدليل ينقصه ولكنها الرغبة في التشهير بضعفنا وإعيائنا والمباهاة بقوته وجلَده على الرغم من سنه.
وقصصنا شعرات من رءوسنا ولبسنا ثيابنا، أما أنا فأخطأت وقصصت الشعرات بعد ارتداء الثياب ولم أتنبَّه إلى خطئي إلا بعد أن صرت في نصف ثيابي، فكتمت الأمر، وفي مرجوِّي ألَّا يفطن إليه الملَك الموكل بي، ولا أدري أيهما ولكن هذا الاختلاف على الاختصاص شأن يعني الملكين وحدهما ولا دخل لي فيه، ولست مكلفًا أن أفضه، غير أن أحد زملائي أبى إلا أن يلاحظ ذلك ويرفع به عقيرته ويصبح مسجلًا عليَّ هذه المخالفة، فأحسست بالملكين جميعًا يتحركان وينتزعان الريش من جناحيهما لتدوين هذه الملاحظة، فكظمت غيظي وقلت وأنا أتكلف الابتسام: «يا سيدي إن العمرة فسدت كلها من قبل ذلك، وقد اعتزمت أن أعوض ما فاتني في وقت آخر.»
ثم التفتُّ إلى يساري وقلت بصوت عالٍ لكاتب السيئات: «وعلى أن الذنب في خطئي راجع لغيري: إلى المطوِّف أولًا ثم إليكم، فقد كان واجبًا على العارف يُعلِم الجاهل.»
واسترحت بعد أن أدليت بحجتي وشرحت عذري وحركت كتفي اليمنى تنبيهًا لمسجل الحسنات.
•••
وقَصْرُ الملك في طرف من المدينة، وهو طويل عريض، مبني بالآجُر، وله جناح جديد هو الذي دخلناه، وفي فنائه حديقة صغيرة، وقد استقبلَنا الجيش على الباب وحيَّانا لا أدري كيف؛ فلست إخصائيًّا في حركاته، وصعدنا إلى حجرة عظيمة، طولُها — على ما أقدِّر — لا أقل من خمسة عشر مترًا في نحو عشرة أمتار، مفروشة ببساط من المخمل، وعلى مدارها مقاعد عالية شبيهة «بالكنب» المصري، ومكسوة «باليوت» والمخمل، وكذلك «براقع» الستائر وفي وسطها صف من العمد يحمل سقفها، والجدران مكلَّسة، وكان الأمير جالسًا في الصدر فنهض لاستقبالنا، فسلمنا وجلسنا وجاءت القهوة، ومن بعدها الشاهي أو الشاي.
والأمير في الرابعة والعشرين من عمره، وهو نائب الملك في الحجاز، كما أن أخاه الأكبر الأمير سعود — ولي العهد — نائب الملك في نجد، وثيابه ثوب أبيض «كالجلابية» المصرية فوقها سترة «جاكتة» رمادية عليها العباءة السوداء وهي رقيقة النسج شفافة، وعلى رأسه «الحرام» والعقال. وهو قسيم وسيم حلو النظرة عذب الابتسامة وديع، ولكن نظرته حين يصمت تبدو حزينة، وفي تقوُّس شفتيه وذقنه مرارة لا تخلو من تصميم، أما القوة فآيتها أنفه الأقنى وجبينه العريض. وأغرب ما في وجهه اجتماع اللِّين والصلابة والرقة والقوة، واختلاط ذلك كله وتسرُّب بعضه في بعض، وهو أنطق وجه رأيته بجميع هذه المعاني، غير أن المرء لا يسعه إلا أن يشعر أن هناك زاوية وراء هذا المحيا الناطق يُغيِّب فيها الأمير خواطره وآراءه الخاصة ويحجبها عن العيون الفاحصة. وقد كنت أتوقع — قياسًا على ما شهدت في جدة — أن يكون قصر الملك أفخم رياشًا وأفخر أثاثًا، فإذا به يمتاز بالنظافة التامة والبساطة الكاملة، أما الأبهة فقد تركها لمن شاء من شعبه.
-
شوربة بالبزاليه
-
دجاج رستو بالبوريه
-
بامية
-
حلا كريمة بالكاكاو
-
بريك
-
دجاج بالكري
-
باذنجان أسود بالزيت
-
حلا كيك بالمشمش
-
رز بالشعرية
-
فاكهة
وقد علمنا من سموه أن الخضر تزرع في وادي فاطمة — وسيجيء ذكره — من مثل البامية والملوخية والباذنجان والخرشوف وما إلى ذلك، وفي الوادي فواكه كالموز والليمون الحلو فضلًا عن الملح، وقد كان سموه يذكر ذلك بلهجة المباهاة، ولفتنا بصفة خاصة إلى الباذنجان، ولكني لم أستمرئه لأنه غليظ سميك الجلد غير سائغ الطعم.
ولا أطيل على القارئ، ذهبنا بعد الطعام إلى حجرة أخرى للجلوس، مؤثَّثَة على طراز حجرة الاستقبال الكبرى، ولكني استغربت أن أرى فيها دولابًا مما يُتَّخَذ للثياب، وأديرت علينا القهوة وأكواب الشاي، واشتهينا أن ندخن، ولكن التأدُّب منعنا، والناس لا يدخِّنون في حضرة الأمير أو كبار النجديين لأن الدخان مكروه عندهم، وكان الليل قد انتصف فاستأذنَّا في الانصراف، ولو أنَّا كنَّا انتظرنا حتى يصرفنا هو لبِتنا إلى الصباح، فما مما يليق عندهم أن يصرف الرجل ضيفه، ولم نكد ننطلق بالسيارة حتى أشعلنا السجاير.
ومن غريب عاداتهم أن الضيف لا ينام على فراش اتخذه واحد قبله، فإذا ذهب ضيف فُكَّت المراتب والوسائد والأغطية وأعيد تنجيدها لمن عسى أن ينزل من الضيوف، وقد لفتنا إلى هذا أنَّا رأينا كل ما على الأسِرَّة جديدًا لا شك في ذلك، فسألنا فعلمنا ما رويتُ، وقيل لنا: سترون المنجد غدًا يدخل وأنتم خارجون. وأقسم ما نمت على فراش أوثر من هذا ولا أمتع، ولقد راهنت واحدًا على أنه محشو بالريش فخسرت الرهان وتبين أنه قطن جيد مندوف لا أكثر.
ولما فتحت الحقيبة لأخرج ثياب النوم وجدت أني نسيتها في جدة، فقلت: لا بأس، قليل من التقشف ينفع المترف، وبحسبي بعض ما عليَّ من الثياب.
وأخذني النوم وأنا أفكر في الأمير وفي انتظاره إيانا في قصر جلالة الملك ثلاث ساعات من غير أن يمَل أو يتأفَّف، بل من غير أن نشعر نحن بالحاجة إلى الاعتذار له.
لا أدري ماذا أصابني في مكة، فقد كنت أحس أن عفريتًا من الجن ركبني، وبلغ من شدة إلحاح هذا الشعور أني أراني أقف في الطريق وأثبت قدمي في الأرض مباعِدًا بينهما وأرفع إحدى ذراعيَّ إلى ما وراء كتفي كمن يريد أن يسند شيئًا ثم أرفع كتفي وأحطهما كأني أريد أن أرد ما فوقهما إلى الاتزان والاعتدال كما يفعل من يحمل طفلًا أو غير ذلك، فذكرت قصة السندباد البحري الذي ركبه ما ركبني، فلم يزل مستقرًّا على كتفيه حتى سقاه السندباد البحري خمرًا أدارت رأسه وراخت أعصابه وفككت أوصاله فطرحه عنه. ولقد تمنيت لو أتيح لي أن أسقي عفريتي كأسًا من الوسكي أو حتى من الزيت لأتخلص من ثقل هذا الكابوس؛ ولكنا كُنَّا في مكة ولا سبيل فيها إلى شرابٍ غير ماء زمزم، وهو ماء قد يَغشى النَّفْسَ ولكنه لا يُسكِر.
على أني لم أقطع الأمل، وكيف أقطعه وهذا العفريت على كتفي قد لصق بهما وصار كأنه امتداد لهما؟ وكيف أطرح حمله الثقيل عن عاتقي بغير الوسكي أضحك به عليه وأزلزل كتفي تحته؟ ففحصت الوجوه التي حولي وتفرست فيها مليًّا ثم اخترت وجهًا كالمنتفخ فيه عينان باطن أجفانهما المحمر كأنه مقلوب، وقلت له: «يا صاحبي أني أشيم الخير من وجنتيك، وآنس الرشد من عينيك …»
فقاطعني: «عفوًا سيدي …»
قلت: «لا داعي لهذا التواضع؛ فإن الأمر بَيِّنٌ ولا يشك في ذلك إلا أعمى، فهل لك في معاونتي؟»
ففرك كفيه جذلًا وتهدَّلت شفتاه الغليظتان وانشقتا عن أسنان طويلة سوداء، وقال وهو يحني رأسه قليلًا: «مرني يا سيدي نحن هنا خدامكم.»
فوضعت كفي على كتفه وقلت: «أستغفر الله. إن الأمر بسيط على ما أظن لا يحتاج إلا إلى خادم واحد يعرف كيف يصرف العفاريت عن الناس.»
فحملق في وجهي كأنه لا يفهم فمضيت في كلامي وقلت: «إن لنا في مصر طريقة مجربة نصرف بها العفاريت إذا ركبت الناس، وقد أخذناها عن السندباد البحري، أظنك تعرفه؟ لا بد أنك سمعت به، إنه ذلك التاجر البغدادي الشهير … آه لا تعرفه؟ عجيب هذا! إذن ما طريقتكم أنتم؟»
فتلعثم وقال: «طريقتنا؟ طريقتنا؟ هل يريد السيد المازني أن يقول إنه يعتقد أن العفاريت تركب الناس؟»
قلت بضجر: «طبعًا. طبعًا إن العفاريت مذكورة في القرآن، أفلا تؤمن بالقرآن؟ على أن المسألة لا تحتمل الخلاف؛ فإن الواقع من الأمر أن على كتفي الآن عفريتًا وأنا أريد أن أصرفه فما أستطيع أن أظل أحتمله في غُدُوِّي ورواحي هكذا! ثم إني أريد أن أدخل الكعبة غدًا فكيف أدخلها بعفريت؟ ألم تفهم؟ إن العفريت يود أن يغتنم هذه الفرصة — فرصة وجودنا وكوننا ضيوف الأمير والسماح لنا، بدخول الكعبة بغير تفتيش — فيدخل معي، أعني مستخفيًا على كتفيَّ، وهذا لا يجوز، ولست أرى أن أساعده على ذلك. أفهمت الآن؟»
فضحك الخنزير؛ أعني الرجل الذي توسمت منه الخير، وظنني أمزح، وقال: «يا رجل، والله لقد حسبتك جادًّا.»
فغاظني ذلك ولكني كظمت غيظي وقلت بابتسامة متكلفة: «لقد أخطأت، اسمع: قد يكون عفريتي مؤمنًا أو لا يكون لا أدري؛ لذلك أريد أن أصرفه، فهل لك أن تعينني؟ أجب بلا أو نعم. وعسى أن لا تخيِّب أملي فيك.»
فعاد اللعين يضحك، وأحسبه أحَب أن يجاريني فيما ظنه مزاحًا مني فقال: «وما هي طريقة السندكار البحري التي تتبعونها في مصر؟»
فتشجعت وقلت بلهجة الجِدِّ المُرِّ: «نسقيه كأسًا أو اثنتين فيسكر فنلقيه ونستريح منه. طريقة عملية، بل هي أضمن طريقة لأن قوة الإسكار في الخمر حقيقة علمية؛ ولهذا نهى الشرع عنها.»
فأرسلها ضحكة مجلجلة تجاوبت بأصدائها الحجرة فأسرعت فوضعت يدي على فمه وبودي لو أكتم أنفاسه، فقال بعد أن تخلص مني: «واللهِ يا أهل مصر إنكم لظرفاء.»
فقلت «العفو، هذا بعض ما عندكم، على أن في الوقت متسعًا لتقارض الثناء فهاتِ لعفريتي كأسًا.»
فابتسم وقال: «كيف تسقيه وأنت لا تراه؟»
فقلت: «إني أعرف الطريق إلى فمه؛ فإن بيننا الآن اتصالًا لا تدركه أنت. فهاتها أولًا والباقي عليَّ.»
ولكنه لم يفعل؛ لأنه ظن لبلاهته أني أستدرجه إلى الاعتراف بأن في مكة خمرًا، وقد رأيته بعد ذلك فعجبت أين غابت سمات الخير وكيف استسرَّت مخايل الرشد التي كنت أجتليها في وجهه؟
وقد سلط زكي باشا نفسه علينا بعد ذلك في الفجر أو قبيله بدقائق وكنا نيامًا، كما لا أحتاج أن أقول، وكان عفريتي قد انصرف عني في الهزيع الأخير من الليل، انصرف على يأس كبير، وكان في حجرتنا ستة أَسِرَّةٍ على صفين، والباقون منا في حجرات أخرى، وكان سريري بجانب النافذة بحيث يسعني بأيسر مجهود أن أطل من الشباك على الحرم، واتفق أني كنت أحلم بالعفاريت وأراني كأني أسقيها خمرًا وأعابثها وهي تترنح فأدغدغ لها خصورها تارة، وأشعل السجاير من عيونها طورًا، وأجرها من ذيولها وأديرها حولي، وهكذا وإذا بصوت ممدود مزعج يوقظني من سباتي ويبدد أحلامي اللذيذة ويطير خيالاتي الممتعة، ففتحت عيني متضجرًا، فإذا شبح ضخم يبدو من وراء الكلة فقلت لنفسي: «يا للفضيحة! أيسطى علينا في دار الضيافة؟» وابتسمت مطمئنًّا فقد تركنا ما معنا من النقود في جدة، وتناومت لأرى آخر هذه الحكاية، فانبعث من الشبح صوت غليظ مديد فرفعت رأسي مقدار قيراط فإذا به زكي باشا يبدو في عباءته شيئًا عظيمًا جدًّا، ولم يعجبني أن يوقظني في فحمة الليل فحوَّلت وجهي عنه فمد يده وصاح: «قم!»
وأشرت إليه أن لا، فعاد يصيح: «أقول لك قم.»
فصحت بأعلى صوت أستطيعه: «وأنا أقول لك لا، فاذهب عني.»
فقال: «قم لنصلي الفجر في الحرم، منظر لذيذ لا يصح أن يفوتك.»
فقلت: «إذا كان المنظر هو كل ما نبغي، فاذهبوا أنتم فإن منظركم من النافذة سيكون أمتع لي، ويمكنكم أن تضعوا علامة على ظهوركم لأعرفكم بها.»
وأحسبه لم يسمع أو لم يحفل ما أقول فقد مَدَّ يده من تحت الكلة وراح يشد اللحاف ويعريني وهو يقول: «قم. قم. قم.»
فصحت به وأنا أجذب اللحاف لأتغطى: «لا. لا. لا.»
فمضى عني إلى الباقين واحدًا واحدًا ونسي أنه أيقظهم جميعًا حين أيقظني.
وتوضأنا ودخلنا الحرم، وفُتِحَتْ لنا الكعبة وبابُها عالٍ والصعود إليه بسلم خشبي متحرك، يوضع عند الحاجة ويُرفَع بعد ذلك، وهو من النوع الذي كان يُتَّخَذ في المساجد المصرية ليرقاه الخادم ليبلغ الأسرجة فيضيئها أو ينظفها، وذلك قبل اتخاذ الكهرباء. وتناول يدي سادن الكعبة وأنا على آخر درجة فكدت أقع وأهوي؛ ذلك أني كنت أصعد على يدي ورجلي كما تفعل القردة، ولما استويت واقفًا طوقني بذراعيه وغمر وجهي بلحيته البيضاء الطويلة وكنت أنا أيضًا قد أرخيت لحيتي، وكانت بيضاء كذلك، ولكنها قصيرة فأسفت لأني لم أرسلها قبل رحلة الحجاز ببضعة شهور، إذن لاستطعت أن أقابل سادن الكعبة مقابلة الند للند، وأن أشُكَّه بلحيتي كما شكني بلحيته، على أن لحيتي على قصرها أفادتني في الحجاز وبوأتني مقامًا ملحوظًا ومركزًا ممتازًا، وأكسبتني وقارًا ليس لي، وجعلت لي سمتًا وأبهة لا عهد لي بهما.
وكان الناس يحفون بي ويهرعون إليَّ ويكبرونني من أجلها، ويجثون على يدي فأجذبها وأقول: «أستغفر الله. تؤ. تؤ. تؤ. بارك الله فيكم.» ويعنون بي ويمنعونني أن أمشي إلى حيث السيارة لأن من كان في مثل سني، وكانت له مثل لحيتي البيضاء لا يليق أن يجشم مشقة، أو يكلف تعبًا. فلو أن الغيد في الحجاز سافرات لبكيت ولقلت متوجعًا كما قال ابن الرومي:
ولكنهن هناك محجبات؛ فلا أسف ولا بكاء. وإني لحقيق بحمد الله وشكره على أن بيَّض وجهي ولم يُسَوِّدْه كوجوه زملائي؛ أعني الذين كانت لحاهم سوداء، وقد أسِفت وأنا هناك على عمري الذي أضعته في الاشتغال بالأدب، وأنفقته في هذا العبث الذي لا يُجدي؛ فإن لحية واحدة بيضاء ترجَح هناك بمائة كتاب من خير ما أنتجت العقول، ولو كنت أعرف هذا من قبلُ لجعلت وُكدِي لا الكتابة والتأليف، كلا؛ فإن هذا كله عبث بل معالجة لحيتي لتشيب.
ومشى بي السادن خطوات ثم وقف بي ورفع يديه، وراح يدعو وأنا وراءه، وعيني إلى لحيته النشيطة التي كانت تتحرك مع الكلام، وأقسم لقد نفستها عليه؛ حتى لقد خطر لي أن أنزعها عن وجهه وألبسها بدلًا منه.
وقال بعد أن فرغ: «صلِّ هنا ركعتين.»
قلت: «أين القبلة؟»
قال: «لا قِبلة هنا، كل مكان قِبلة.»
قلت: «فهل أصلي دائرًا حول نفسي كالكرة الأرضية؟ إن هذا صعب فأرني كيف أصنع.»
فلم يفهم وقال: «نصلي ركعتين في كل اتجاه.»
فاتجه لي رأيان أردت أن أستفتي فيهما.
ولكني لم أجد من يفتي، أو على الأصح لم أتوسم في وجوه من حولي قدرة على الإفتاء، فأطعت وصليت.
والكعبة من الداخل حجرة واسعة خالية يحمل سقفها عُمُدٌ غليظة من خشب زكي الرائحة، وهي مكسوَّة. ولكن الجزء الأسفل من جدرانها مُعَرًّى، وعليه ألواح من الرخام حُفِرَتْ فيها كتابات بخطوط شتى ترجع إلى عصور مختلفة تذكُر أسماء من أصلحوها أو رمَّموها أو زادوا عليها شيئًا أو فعلوا غير ذلك، وبعض الكتابة كالطلاسم لا يُقرَأ. وقد تعقبني رجل يشرح ما على الجدران، وكان من الجلي أن شرحه خطأ وأن الاختراع فيه أكثر من العلم، فسألته وأشرت إلى لوح رديء الخط: «ما هذا؟»
فقال: «هذا يا سيدي … هذا … أظنه خط … أ … أ.»
فقلت أستعجله: «خط من؟»
فدنا من اللوح وتأمله من قريب ثم رفع رأسه وقال: «نعم. المنتصر بالله المستنصر … إيه؟ نعم هو بعينه لقد عرفته.»
فقلت: «آه عرفت خطه؟»
قال: «نعم.»
قلت: «إنه رديء.»
قال: «نعم غير واضح.»
قلت: «هل كان صديقك؟»
قال: «صديقي؟»
قلت: «لعله كان قريبك؟»
فحملق في وجهي ثم قال: «إنه قديم جدًّا.»
فسألته: «الخط أم الرجل؟»
فقال: «كلاهما.»
فقلت: «شيء جميل! وأين هو الآن؟»
فقال بلهجة المستغرب أو الذي بدأ يشك في عقل محدثه: «أين هو الآن؟ لقد مات منذ مئات من السنين.»
فسألته: «وهل كتب هذا بعد أن مات؟»
فجذبني أحد الزملاء فلم ألتفت إليه وقلت لدليلي: «أريد أن أبكي.»
وأخرجت المنديل ورفعته إلى عيني فأقبل عليَّ الرجل يسألني بلهفة: «ما السبب يا سيدي؟ لماذا البكاء؟»
فأجهشت وقلت بصوت متهدج من فرط التأثر: «أسفًا على المستنصر!»
فجعل يطيب خاطري ويؤكد لي أنه في وديعة الله وجنته. فقلت والدموع تنهمر من عيني: «ولكنه مسكين، فقد عمره كله.»
فأخذ يشكر لي عواطفي الرقيقة وشعوري الطيب فتسايلت عَبراتي على خدي وأنا أقول: «لو كان قد أدرك لما خسر عمره كله هكذا. مسكين!»
وانتحبت. فشدني زميلي وقال: «تعال يا شيخ!»
ولما عدت إلى مصر. أقبلت أمي عليَّ تسألني فقصصت عليها ما رأيت، ووصلت في وصفي إلى الكعبة فقالت: «هل دخلتها؟»
فقلت: «بلى، دخلناها بصفة خاصة.»
فقالت: «طوبى لك! لا تخبر أحدًا بما رأيت فيها، احذر.»
فسألتها عن السبب فقالت: «إن من يرى الكعبة من الداخل لا يقص على غيره ما يرى.»
قلت: «ولكنها خالية ولا شيء فيها. كانت أشبه بمخزن للأوثان في الجاهلية فأخلاها منها النبي عليه الصلاة والسلام.»
فقالت: «أيوه! خليك على كده. كل من سألك عنها تقول له لم أرَ شيئًا.»
فقلت: «ولكنها حقيقة خالية.»
قالت: «تمام مضبوط. بارك الله فيك.»
فقلت: «إني لا أكذب ولا أدعي: هي حقيقة كما أقول خالية.»
فقالت: «أيوه! تمام. أهو كده. الله يزيدك عقلًا.»
فأمسكت، ولم أدلي حيلة، وها أنا ذا أقول للقراء إن الكعبة لا شيء فيها فليصدقوا، وليكونوا كأمي، وليدعوا لي أو فليضنوا عليَّ بالدعاء، كما يشاءون.
•••
وقد كانت مصر ترسل إلى الكعبة في كل عام كسوة جميلة دقيقة الصنع، فكفت عن ذلك فخسرت مركزها الديني الممتاز وثناء العالم الإسلامي عليها وحمده لها وإعجابه بصناعتها، وتبطَّل من جراء ذلك صُنَّاعُ الكسوة المصريون الذين ورثوا هذا الفن عن آبائهم وانقطعوا له، وأنشأت الحكومة السعودية دارًا لصنع الكسوة جلبت لها الأساتذة من الهند ليتولَّوْا ذلك وليعلموا أبناء الحجاز. وقد زرنا هذه الدار ورأينا أنوالها ونماذج مما تُخرج من الحرائر الموشَّاة والمطرَّزة بالقصب والفضة، ومن السجاجيد وما إليها، وهكذا أفاد الحجاز صناعة جديدة وخسرت مصر صناعتها القديمة البديعة، وأصيب عمالها بالفاقة.
•••
ومن الممكن أن أقول — ومن الممكن أن يصدق القارئ — إن لحيتي طالت في خمس دقائق أضعاف ما تطول عادة في خمسة أيام، وإني لولا سوء الحظ لخرجت من الحرم صباح ذلك اليوم بلحية جليلة طولها على الأقل شبر. وسأروي للقارئ ما حدث، وأنا على يقين من أن مروءته ستدفعه إلى مشاطرتي ذلك الغم الذي انتابني لمَّا أفلتت من يدي تلك الفرصة الفضية.
وشرح ذلك أننا خرجنا من الكعبة أو نزلنا عل الأصح، ثم قعدنا بين الصفوف عند باب الصفا ننتظر مقدم الأمير لزيارة الكعبة وسماع الدعاء — على بابها — لجلالة والده بطول العمر ودوام النصر والتأييد وبأشياء أخرى كثيرة نسيتها الآن وأذهلني عنها ما وقع لي، وكان الجيش صفين في الطريق من دار الحكومة إلى الحرم، وتلاميذ المدارس صفوفًا في فنائه، وقيل: جاء الأمير. فنهضوا بنا إلى الباب، وأقبل سُمُوُّه وبين يديه وأمامه وعلى يمينه ويساره حاشيته وعبيده في ثيابهم المزركشة وفي أيديهم المباخر، فدفعونا إليه وفرَّقوا بنا الخلق إلى صفه فسِرْنا في موكبه ومنَّا من استطاع أن يكون إلى جانبه، وآخرون ردهم الزحام وراءه، حتى بلغنا الكعبة ووقفنا أمام بابها، فأَجَلْتُ عيني في هذا الحشد الهائل وأنا أتصبر على ما أحسه من الضغط الذي كاد يقصف لي ضلوعي، فرأيت الشفاه تلعب، فخفت أن يرى أحد شفتيَّ ساكنتين لا تضطربان بشيء، فقلت أحركهما بالفاتحة لعل الله ينقذني ببركتها من الأزم الذي أنا فيه. وأشهد أنها كانت أشد الفواتح التي قرأتها في حياتي بركة؛ ذلك أني ما كدت أتلو منها آية حتى ارتفع صوت بدعاء، ثم رأيت شابًّا — أو أنا أظنه ذلك — يرمي إلى الداعي بعباءة رقيقة النسج جميلة، فقلت لنفسي وأنا أحسد الداعي: والله إني لأحسن أن أدعو بخير من هذا وبأجدى منه على الأمير، ثم إني أرى دعائي مستجابًا أيضًا.
ولم أستطع أن أسترسل في هذه الخواطر؛ فقد قطعها عليَّ أن سادن الكعبة — وكان واقفًا في حاشيته، أو لعلهم أبناؤه وأحفاده في باب الكعبة، فوقنا — تقدم خطوة وبسط كفيه وانطلق هو أيضًا يدعو، فقلت لنفسي: سيجيء دوري إذن، فصبرًا يا مازني، وعسى أن يكون مع الشاب الكفاية من العباءات. وقارب الشيخ السادن ختام الدعاء فزل لسانه — والمرء، كما تعلم، بأصغريه: قلبه ولسانه لا بلحيته وقوامه — فدعا بطول النصر والتأييد، ولكن … للحكومة العثمانية!
فصحت: «يا خبر أسود!»
ولم أملك نفسي فقرصت ذراع جاري وأنا أظنه زميلًا لي، وأدرت إليه وجهي متوقعًا أن أقرأ في وجهه تأييد صيحتي فراعني:
- أولًا: أنه لم يكن زميلًا لي ولا رجلًا أعرفه أو أحب أن أعرفه.
- ثانيًا: أنه كان ينظر إليَّ شزرًا ووجهه من التقطيب كالإسفنجة.
- ثالثًا: أنه كان يعري ذراعه ويفحصه جيدًا، استعدادًا لملاكمتي كما توهمت، فخطوت إلى الأمام وتسللت بين الأرجل حتى حاذيت الأمير، ولا أكتم القارئ أني خفت؛ فقد أيقنت أن قرصتي كانت أوجع لهذا الجار من الدعاء للحكومة العثمانية، وأنا — كما لا يعلم القارئ وما يمكن أن يعلم بالتجربة — ماهر في القرص، ومزيتي أني أتناول «خيطًا» من الجلد بين لحم أصبعيَّ وأفركه بهما لا بأظافري كما يفعل الأغرار والبلهاء، فيكون لذلك كَيٌّ وشَيٌّ ولذع كلذع النار، فهذه فائدة خرج بها القراء من حيث لا يحتسبون.
وأيقنت وأنا واقف أن سادن الكعبة سيطير رأسه عن بدنه بضربة سيف، وما على الأمير إلا أن يغمز بعينه واحدًا من عبيده أو يومئ له بأصبع فإذا الرأس يتدحرج على السلم ويهوي عند أقدامنا، ولم تخالجني ذرة من الشك في أن هذا آخر عمر الرجل، ونسيت أن الحرم كل من فيه وما فيه آمِن، وقلت لنفسي: ما دام أن الرجل مقتول لا محالة، فمن الخسارة ولا شك أن تذهب لحيته مع رُوحه وهي ستُحلق له على كل حال بعد موته، فما يكون المرء في الجنة إلا أمرد. ورفعت عيني إلى وجه الأمير وقد وطنت نفسي أن أتقدم إليه بعد أن ألمح إشارة الإعدام، راجيًا أن يأذن في نزع لحيته واتخاذها لنفسي، وحولت عيني إلى الشيخ سادن الكعبة فإذا واحد وراءه يجذبه من كتفه.
فقلت: «آه! لقد حُمَّ أجلك يا مسكين! سيقودونك إلى الخارج ليقطعوا لك رأسك.»
ولكن السادن خيب أملي، ذلك أنِ التفتَ إلى من يجذبه ثم إلينا وقال مصححًا: «بطول النصر والتأييد للحكومة السعودية.»
ضاعت الفرصة، خسرتُ اللحية، وسأخرج إذن كما دخلت وليس على وجهي سوى هذه الشعرات القصيرة، وا أسفاه! وسيظل هذا الرجل بشبر من الشعر الشائك على مدار وجهه، على حين أمشي أنا بين الناس محرومًا كاسف البال! وما لحية يضن عليَّ بها الأمير؟ إن صاحبها لا يزيد بها كبرًا، ولا ينقص بغيرها عمره، وقد لبسها دهرًا طويلًا فحَسْبُه طول ما تمتع بها، ولن يضيره الآن وهو واقف على ساحل الحياة أن تُخلع عليَّ، أنا الذي ليس أحوج مني إلى مثلها.
وهبط قلبي، وتدلى على صدري، واسودَّت الدنيا في عيني، وتهضم وجهي، ونقص وزني، وتخاذلت رجلاي، فلو أفسح الناس لي مكانًا كافيًا لتهافت إلى الأرض وتهاويتُ كومًا مفككًا من العظام اليابسة والأعصاب المرهقة، وأدبر لحمُ خدي، وظل يُدبِر ويُدبِر حتى بلغ أصول الشعر ومنابِتَه فبرز معظم الشعر إلى الجذور.
ورفعت يدي إلى وجهي فإذا بي أُحِسُّ لحيتي قد طالت … من الهزال!
وانطلقت المدافع من قلعة بجاد فطار الحمام عن أكتافنا.
•••
وكَرَّ الأمير راجعًا فكررنا معه نتدافع ونتزاحم، ويستوقفنا رياض أفندي أمام الفوتغرافية فتتلمس رءوسنا فُرجة تظهر منها أمام العدسة، وأشب أنا القصير المسكين ثم أنحط يائسًا، حتى بلغنا الباب، وكنا قد دخلنا من غيره؛ فسبقنا الأمير إلى دار الحكومة، ووقفنا نحن ننتظر أن يجيئونا بأحذيتنا، فلما صارت فيها أقدامنا مضينا بين صفوف الجند إلى دار الحكومة، وراقني منظر الجنود في ثياب «الخاكي» وقلت: باقون لتحيتنا ولا شك؛ فقد مر الأمير. فجعلت أتلفَّت يمينًا ويسارًا وأرفع يدي بالسلام فسألني واحدًا: «على من تسلم؟»
قلت: «أريد تحية الجند يا أخي.»
فصاح بي: «أي جند يا أخي؟ ألا تخشى أن يعدُّوا هذا تهكمًا منك؟ أتريد أن توقعنا في ورطة؟»
فمنحته أعذب ابتساماتي وأرقها وأحفلها بالعطف والمرثية، وواصلت تحياتي وتسليماتي غير عابئ بهذه الغيرة.
وتوقعت أن تنفض الدار؛ فقد كانت غاصة لا موضع فيها لقدم، فلو رميت كرة صغيرة لظلت تتنقل من رأس إلى رأس دون أن تصل إلى الأرض، بل لكان الأرجح أن تصعد مع الناس إلى الطبقة العليا وأن تدخل على الأمير معهم.
وبعد لَأْيٍ ما بلغنا غرفة الاستقبال. وكان الأمير واقفًا في الصدر وحوله الكبراء والجند، والناس يتقدمون إليه ويصافحونه، فإذا كان من بينهم عظيم أو وجيه وضع — أي الوجيه — يده على كتفي الأمير وجذبه وقبَّل أنفه لأن الأنف أبرز شيء في الوجه، وقد وقف الأمير كما رأيناه، مقدمًا أنفه لمن شاء ومتلقيًا عليها قُبَلَ المهنئين ولثمات الداعين، فلما جاء دورنا ودِدت لو أنه كان أمامه كرسي! إذن لفزت أنا أيضًا بتقبيل أنفه ولجربت ذلك وعرفت سببه وتقصيت سره، ولكني كما تعرف، فاكتفيت بأن تقدمت إليه في تؤدة ووقار، ويسراي تمسح لحيتي تنبيهًا إليها ولفتًا لشيبها، ويمناي تمتد إلى يده وتقبض عليها.
والحق أقول: إن سلام النجديين لا يعجبني لأنه بارد لا حرارة فيه ولا رُوح، والواحد منهم — أميرًا كان أو غير أمير — يمد إليك كفًّا مفتوحة كأنها قطعة من الجبن الطري لا عظم فيها ولا أعصاب لها، فإذا تناولتها وقبضت عليها لم يبادلك ذلك بل ترك كفه لك تصنع بها ما تشاء، ثم يسحبها في فتور وضعف، فتخجل وتبرد الحرارة التي تناولت بها يده، ويجمد الدم في عروقك.
وانصرفنا عن الأمير بعد السلام عليه إلى غرفة أخرى ذهبوا بنا إليها، وهناك سقونا عصير الليمون، ثم ما لبثنا أن دعينا إلى الأمير فدخلنا وجلسنا وهنَّأناه مرة أخرى، وأديرت علينا القهوة النجدية، وأمرها عجيب؛ ذلك أنها خليط من البن والمري والحبهان ولا أدري ماذا أيضًا، وطعم البن يختفي بين هذه الأخلاط الحريفة، ويجيئونك بها في إبريق كبير من النحاس، يحمله الخادم في يسراه، وفي يمناه الفناجين الكبيرة بعضها في بعض، فيصب من الإبريق مقدار رشفة في الفنجانة ويقدمها لك فتقلب الفنجانة على فمك وتهزها لينحدر ما فيها بسرعة، فإذا راقتك القهوة مددت يدك بالفنجانة في صمت فيصب لك رشفة أخرى وهكذا، وإلا هززت الفنجانة فينصرف عنك.
وقد كنت وأنا في مجلس الأمير متعبًا وكان رأسي أحسه ثقيلًا، وخفت أن أنام أنا أو أهوِّم، فقلت أُنبِّه نفسي بالقهوة؛ فرجوت من الخادم أن يملأ لي الفنجانة فإن هذه الرشفات الضئيلة لا تصنع شيئًا ولكنه آثر عادته فذهب يصب لي رشفة بعد أخرى وأنا أناديه بعد كل واحدة وأرده إليَّ، ولا أناوله الفنجانة مخافة أن يذهب عني فلا يعود. فلما تكرر ذلك أربع مرات خطف الخادم الفنجانة وصاح وهو يمضي عني ضاحكًا «يا رجل!»
فقمت وراءه وأنا أقول: «ما هذا الكلام الفارغ؟! أريد قهوة حقيقية لا لونًا في الفنجانة! تعال هنا!»
فأسرع إليَّ واحد من الحاشية يسألني ما الخبر.
قلت: «الخبر أني أريد أن أشرب قهوة حقيقية، وهذا الرجل يضحك عليَّ ويقدم لي دهانًا في قعر الفنجانة لا يسيل ولا يصل إلى حلقي منه شيء، هذا هو الخبر. ثم هذا لساني (وأخرجته) بذمتك هل ترى عليه أثرًا للقهوة؟!»
فقال الرجل: «لا عليك. تعالَ يا هذا، أترع له الفنجانة.»
وقد كان.
وكَفُّوا بعد ذلك عن مخادعتي بلون القهوة وصاروا يجيئونني بها في كل مكان قهوة حقيقية لا شك فيها ولا في مقدارها ولا في طعمها ولا أثرها، ولكنها سرقت النوم من جفوني ففهمت لماذا يكتفون منها برشفة.
وعدنا إلى دار الضيافة لنستريح فأتفق أن لقيت في الطريق واحدًا لم أشك في أنه نجدي وكان فوق نجديته قصيرًا، فأقبلتُ عليه وقلت هذه فرصة، وقلت: «كيف حالك؟ إن شاء الله خير.»
وأهويت على كتفه فجذبتها على نحو ما رأيتهم يفعلون ومططت شفتي استعدادًا لتقبيل أنفه، ولكني لم أحسن قياس الأبعاد وعمل الحساب اللازم، وجاءت الجذبة أسرع وأشد مما ينبغي فوقع فمي على فمه واصطدم الأنفان.
فلما أفاق من دهشته، قلت له على سبيل الاعتذار وأنا أتلمظ وأمصمص بشفتي: «لا مؤاخذة! لقد أردت أن أقبل أنفك، ولكن التدريب ينقصني. على كل حال الخيرة في الواقع. السلام عليكم.»
وذهبت أعدو ولحقت بإخواني وهم يهمون بالعودة إليَّ وقد توهموا لبلاهتهم أننا اشتبكنا في مصارعة.