بين مكة والكندرة
اشتهيت وأنا جالس في «دار الضيافة»، أن أدخن «نرجيلة» أو «شيشة» كما يسمونها في مصر ولستُ من هواتها، ولكني افتقدت منظرها في مكة. وكنا في جدة كلما دخلنا في بيت يجيئوننا بعدد من هذه النراجيل على أشكال شَتَّى وحجوم مختلفة وألوان عدة، فمنها ما هو من الفضة أو المعدن المنقوش أو المطليِّ بالذهب، ومنها القصير والطويل، والذي فيه صنعة والساذج الغفل، والذي خرطومه من المخمل الأرجواني أو الأخضر، إلى آخر ذلك مما لا موجب للتقصي فيه. وأهل جدة يستعملون للنرجيلة طباقًا معالَجًا بالعنبر ومائة مادة أخرى لم أسمع بأسمائها من قبلُ، تجعل له أرجًا قويًّا وتترك المرء — على ما سمعتُ — يحلم.
ولم أفهم لماذا تكثر النراجيل في جدة ولا أثر لها في مكة، وخطر لي — على سبيل التعليل — أننا هنا ضيوف الحكومة، والحكومة لا تدخن ولا تسمح بالتدخين، على الأقل في حضرتها، وفي دُورِها. غير أني لم أسترِحْ إلى هذا التعليل وقلت إن الأعيان الذين يَحُفُّون بنا كان يسعهم أن يقترحوا علينا أن يجيئونا بواحدة؛ فإنا مصريون، وما لا يجوز للملكي جائز للمصري، ثم إنهم يدخنون السجاير فلِمَ لا يتَّخِذون النراجيل، وكله تدخين. وعلى ذكر السجاير أقول إن القوم في الحجاز لا يعرفون منها سوى صنف واحد رخيص رديء هو بعض ما يصنعه ويصدِّره إليهم «ماتوسيان»، وقد يكون في رخصه شك، ولكنه رديء على التحقيق، يتخذه السائق كما يتخذه الوجيه السري، فالديمقراطية كما ترى بخير هناك، وأبرز عناصرها وأقوى مظاهرها هو «ماتوسيان».
وأعود إلى ما استطردت عنه، أعني إلى النرجيلة، فأقول اشتقت أن أضطجع على واحدة من هذه الحشايا الوثيرة وأتكئ بكوعي على حسبانة صغيرة وأن أضع رِجْلًا على رِجْلٍ وأُدني خرطوم النرجيلة من شفتي وأرسل الدخان الكثيف إلى رئتي ومعدتي بل إلى أخمص قدمي، ثم أرده من فمي وأنفي وعيني وأذني وأنفجر بالسعال القوي كأن بركانًا انطلق من جوفي؛ وأظل بعد ذلك بضع دقائق والدخان يخرج من مسام بدني كلها كأني بيت من الخشب اندلعت في جوفه نار الحريق، كما رأيت أهل جدة يصنعون.
ولكني ضبطت نفسي ورضتها على الحرمان من هذه المتعة البريئة، كما رضت شيطاني على الكف على ابتغاء الويسكي، وآلمني ذلك — كما يسهل أن يدرك القارئ بغير عناء — فرأيتني أناجي نفسي وأعزيها بأن أهل جدة مدلَّلون على خلاف أهل مكة؛ هناك — أي في جدة — يجتلي المرء مظاهر الترف والنعمة، ويحس أن للقوم دلالًا على الحكومة — أو دالة إذا شئت — وأن الحكومة تُولِيهم من الرعاية والمجاملة والتسامح ما ليس له مشبه في مكة، وتطلق لهم في أمورٍ نصيبها منها في مكة التشدد. ولقد قضينا في جدة أيامًا لم نشعر في خلالها بأن للحكومة وطأة تُحَسُّ، ولكن أثر الحكومة ووجودها ملموسان في مكة في كل مكان.
وقد أكون أو لا أكون مبالغًا في هذا الذي عَزَّيْتُ به نفسي عن حرماني لذة النرجيلة، ولكني أعتقد أني غير مخطئ جدًّا فيما شعرتُ به من الفرق بين الحالتين في جدة ومكة من حيث سلطان الحكومة؛ فإن قائمقام جدة — أي حاكمها — تاجر، هو يجمع بين التجارة وبين أعمال وظيفته. وخليق بالمصري أن يعجب لهذا وأن يرى فيه شذوذًا عن المألوف في بلاده؛ حيث لا يُؤذَن للموظف أن يشتغل بالتجارة، ثم إن من الحقائق التاريخية أن الجيش السعودي دخل مكة بعد فتح الطائف من غير أن يتلبَّث أو يتلكَّأ، ولكنه لم يقتحم جدة بل أقام حولها وعلى مسافة بعيدة عنها يضرب عليها حصارًا خفيفا لينًا لا يمنع أن يتصل ما بينها وبين مكة، ولعله فعل ذلك حتى لا يقطع المؤن عن مكة، ولكن من المحقق أن الدافع الأول إلى إيثاره الحصار واجتنابه أن يحاول فتحها عنوة أن في جدة قنصليات أجنبية، وقد خشي السعوديون أن تصاب دُورُها أو أحد رجالها بسوء فتتذرع إحدى الدول بذلك وتتخذ منه مسوِّغًا لاحتلال جدة أو غير ذلك مما يجري مجراه، فبقي الجيش محيطًا بجدة شهورًا حتى نفد المال وانقطعت موارده عن الملك السابق علي بن الحسين، وتأخرت رواتب الجند وفشا عليه الأمر، فسلمت المدينة، وأبحر منها علي بن الحسين على بارجة بريطانية محتفظًا من كل ملكه الذي نزل عنه «بسيارته وسجاجيده وخيله»!
وكأني بوجود الأجانب في جدة قد جعل لها مع الأسف مركزًا خاصًّا، وبسط عليها ضربًا ملطفًا من الحماية العامة، وجعل الحكومة تتخذ حيالها مسلكًا هو في جمله ألين من مسلكها في البلاد الأخرى.
ويقيني أنه لو كانت الحكومة السعودية أقوى مما هي وأوفر عدة وأتم سلاحًا وأقدر على الدفاع عن شواطئها وثغورها لاختلف الحال وتغيَّر الموقف، ومن أجل ذلك يتوخى جلالة الملك ابن السعود السِّلْم ويُؤْثِرُهَا على الحرب والنزاع، وذلك ليتسنى له أن يصلح أموره ويرتب البيت، كما يقول الإفرنج، ويعالج مشاكله ويوطد حكومته ويقويها ويباشر ما لا مفر منه من وجوه الإصلاح على قدر ما تسمح بذلك موارده.
وقصدنا بعد أن استرحنا إلى وكالة المالية، ويتولاها نجدي قح، قال لي المستر فيلبي إنه من أمهر الرجال وأذكاهم وأحذقهم في سياسة المال، وغرفته بسيطة وفيها مكتب أجلس أنا في مصر إلى واحد أفخر منه وأجمل، وهناك تفضل سمو الأمير فرَدَّ لنا الزيارة وأذِن أن نُصَوَّرَ معه، ثم رغبت الحاشية أن تُصَوَّرَ هي أيضًا فكان لها ما أرادت. والنجديون يسمون الصورة الشمسية «العكس» ولا يرون في التصوير بأسًا ولا يكرهونه كما كنا نسمع.
وفي وكالة المالية أُلْقِيَتْ خطب ترحيب — لا أذكر الآن بمن على وجه التحقيق — وتهنئة للأمير وجلالة والده بلا أدنى ريب. وهناك أيضًا جيء باثنين من الحجازيين، هما موظفان في حكومته وعملهما طبع «طوابع البريد». فقدمهما الوكيل إلى سمو الأمير وأطلعه على نموذج من الطوابع التي عملت تذكارًا لهذا اليوم؛ يوم المبايعة.
وزرنا بعد ذلك المستشفى وهو رحيب يسع مائتي مريض، وبه أقسام شتى للجراحة والأمراض الباطنية، وأمراض النساء وغيرها، وفيه أطباء مصريون، وبئر أرتوازية حديثة تمده بما يحتاج إليه من الماء، ثم قصدنا إلى دار الكسوة التي أسلفتُ الكلام عليها، ومن ثَمَّ إلى التكية المصرية وهي تؤدي واجبًا إنسانيًّا جليلًا.
•••
وجاء وقت الغداء فتناولناه في دار الضيافة على الطراز الأوروبي أيضًا، ولَشد ما تمنيت لو نأكل مرة على الطريقة العربية أو البدوية، ولكنهم في الحجاز أَبَوْا ذلك علينا وضَنُّوا بمتعته، وأحسبهم توهَّموا أن إطعامنا على الطريقة العربية غير لائق، أو أن ذلك ينطوي إلى شيء من الاستخفاف بنا، أو هو ينافي ما يقتضيه واجب الإكرام.
ثم ذهبنا إلى السوق، وهو على المسعى، وقد كرهت أن أرى الدكاكين في بناء الحرم نفسه، ومِلْنا إلى حارة ضيقة شبيهة بخان الخليلي في مصر، وفيها كل ما في الخان، والتجار فيها خليط من أهل مكة والهنود والفرس وغيرهم، وأكثر ما في السوق هندي أو فارسي، ودخلنا دكان هندي طويل له مساعدان، فزاغت أبصارنا وضلت عيوننا بين الطرف المعروضة، وكان كل امرئ يتكلم ويطلب شيئًا ويسأل عن ثمنه، والمساعدان يقدمان ما نطلب ويحيلان من يسأل عن الثمن إلى الهندي الطويل، ولم يكن معي ولا مع زميل لي مال، فقد خلَّفْنا ما معنا في جدة، فاقترضنا من إخواننا، ولم تكن الأثمان معتدلة ولا الحساب بالنقود الحجازية بالذي يسهُل فهمه؛ ذلك أن الجنيه المصري يساوي عشرة ريالات حجازية، والريال عشرة قروش ونصفه خمسة وهكذا، ولكن الاطراد يقف هنا، فإذا ذهبت تحسب الجنيه بالقروش وجدته يساوي شيئًا عجيبًا: مائة قرش وبضعة قروش أخرى تكون تارة اثني عشر قرشًا وطورًا أربعة عشر، وما أظن به إلا أن قيمته بالقروش تضطرب تبعًا لحالة الجو، فما في مكة ولا في جدة بورصة، وإذا كانت القيمة ثابتة لا تتغير وكنت أن المخطئ فالذنب للتجار وليس لي، فقد كنت أجد قيمة الجنيه عند تاجر غيرها عند سواه، واتفق أني كنت أتوغل في السوق فألفيت القيمة تهبط بعد كل خطوتين قرشًا، فخفت إذا أنا مضيت في طريقٍ داخلًا في السوق ألَّا أدنو من آخره إلا وقد صار الجنيه قصاصة ورق كالمعاهدات الدولية، بل خِفت إذا أنا بلغت نهاية السوق أن أجِد أني أصبحت مدينًا! لذلك ارتددت بسرعة ووليت خارجًا — لا هاربًا — إلى أول السوق، وفي يدي جنيه منشور — مما اقترضت — ألوح به للتجار وأصيح رافعًا القيمة بعد كل بضع خطوات: «ألادو! ألاتريه! يا بلاش! بمائة وعشرين! ألادو! بمائة وخمسة وعشرين …»
فلو طال السوق لرجوت أن أفيد الغنى أو أشتري مكة كلها بجنيهي! ولكن التجار أشفقوا وخافوا مغبة هذا التقدم فوقفوا في وجهي يردونني إلى داخل السوق ويشورون في وجهي كما يفعل الناس ليصدوا جوادًا جامحًا! وتنبهت الحكومة إلى الخطر المحدق بعاصمتها فأقبل عليَّ واحد من كبار رجالها يقول: «لقد ركب الأمير فهلم لتلحق به.»
ولكني كنت مشغولًا بفرصة الغنى التي أتاحها لي ارتفاع قيمة الجنيه في أول السوق وانخفاضه عند آخرها، فلم أعبأ به ومضيت أصيح: «قبل أن نركب! ألادو ألاتريه! أبيع بمائة وأربعين! هل من مزايد؟ بمائة وخمسين!»
فجذبني الرجل وفي وجهه كل أمارات الفزع والارتياع وصاح بي: «يا أخي أجول لك: الأمير ركب! يجب أن تلحقوا به لأن المسافة طويلة.»
فأدركت أنه يريد أن يصرفني عن ربح حلال وقعتُ عليه بذكائي، فنحيته عني وانطلقت أعدو إلى أول السوق، ثم وقفت ألهث وقدرت في نفسي أن تكون القيمة قد بلغت عشرة آلاف قرش، وهممت باستئناف المناداة وإذا بالقوم يحتملونني ويضعونني في السيارة! وانطلق بها السائق كأنه يفر من الموت، فقعدت وأنا أقول لنفسي: «إن هذا ليس من الإنصاف في شيء! وسأظل ما حييت أطالب الحكومة الحجازية بما أضاعت عليَّ وبالتعويض أيضًا! ولن يضيع حق وراءه مطالب.» وغلبني النعاس في الطريق إلى جدة واستغنيت بالأحلام عن حقيقة ما فاتني، كدأبي أبدًا.
•••
والكندرة قصر على دقائق من جدة: وفيه نزل جلالة الملك عبد العزيز لمَّا سَلَّمَتْ، واستقبل أعيانها وممثلي الدول فيها قبل أن يدخل جدة في اليوم التالي، وفي هذا القصر أقيمت حفلة الشاي التي حضرها الأمير وسبقنا سموه إليها، ولا عجب؛ فإن سموه يركب الرولزرويس ولا يتلكأ في الأسواق ولا يريد الغنى من وراء اضطراب قيمة الجنيه بين التجار، ونحن نفعل ذلك — ولنا العذر — ونركب سيارة يأبى سائقها «صابر» أن يسرع بها لئلَّا يفسدها لأنها جديدة، ولأنه هو على ظرفه وفصاحته حنبلي جدًّا.
ولا حاجة بي أن أقول شيئًا عن الشاي فإنه ككل شاي، وقد شربناه واقفين، كل نحو عشرين إلى مائدة مثقلة بأباريق الشاي واللبن وألوان الفطائر واللمائز والولائق والرصائع. وكان ممثلو الدول يَحُفُّونَ بالأمير، والقائم بأعمال المفوضية البريطانية ووزير الروسيا المفوض يتنافسان على الحظوة عنده ويتسابقان إلى اكتساب وده، أما نحن الذين لم يكن لنا من عمل أهم في الحجاز سوى بطوننا. فقد آثرنا مائدة أخرى ليسعنا أن ندخن كما نشاء، وقد حمدنا لهذين الممثلين المتنافسين أنهما شغلا الأمير عنَّا بإلحاحهما عليه ومطاردتهما له.
ثم خرجنا لنشهد عرض الجيش في الفضاء الذي أمام القصر، ووقف سمو الأمير وأدنانا من صفه لتتيسر الرؤية، فمر المشاة النظاميون في ثياب الخاكي ومعهم أسلحتهم المختلفة، ثم تلاهم من سميتهم حينئذٍ الباشبزوق وأنا أعني بهم البدو، في ثيابهم الفضفاضة المختلفة الألوان، وكانوا على كونهم بدوًا يمشون صفوفًا منتظمة، وجاء بعدهم الفرسان ثم الهجانة صفوفًا متراصَّة لا تلتوي ولا تتعرج ولا تختلف كسوتها ولا يسبق جمل جملًا، وعليها «الرجاجيل» كما يسمون «الرجال» مثقلين بأدوات الكفاح، وأعقبت هؤلاء المدفعية بأنواعها من مدافع رشاشة وأخرى جبلية أو للميدان أو غير مما لا أحسن بيانه وتفصيله، فما أعرفني رأيت من أنواع السلاح إلا ما يَلعب به الأطفال في الأعياد، ولقد كنت في الحجاز كلما رأيت رجلًا مدججًا بالسلاح أدنو منه وأمد يدي؛ وقد هممت أن ألمس سلاحه وأتحسسه بكفي، فلولا الخوف من أن يظنوا بي أني أريد السرقة أو الخطف؛ لأمتعت نفسي بلمسه.
وأبصرنا من بعيد محملًا صغيرًا مقبلًا علينا فعجبت لهم كيف يَعُدون المحمل المصري صنمًا ثم يتخذون محملًا مثله؟! وأشار الأمير بيده إشارة خفيفة لم يدرك أحد مِنَّا وقتئذٍ معناها أو المراد بها، وحسبناها أمرًا بأن يكر الفرسان على نحو ما يفعلون في الحرب؛ فقد عادوا واحدًا في إثر واحد يخطفون الأرض بخيلهم ويتصايحون وقد رفعوا الرماح أو صوبوا البنادق أو شهروا السيوف، وأشهد أن مناظرهم كانت مزعجة وأصواتهم مفزعة، ولو رآهم القارئ وهم يَعْدُون بجيادهم ويطلقون البنادق من وراء ظهورهم ويطعنون الهواء بحرابهم وشعورهم منفوشة، لحسبهم بعض الجن.
وصفق الناس والتفت الأمير باسمًا ودار ليرجع فسألت واحدًا: «والمحمل؟ لماذا لم نره؟»
فقال: «لقد غاب.»
قلت: «غاب كيف؟»
قال: «لم يبق له أثر.»
قلت: «ماذا تعني؟»
قال: «أمر سموه به فأُبعِد.»
وعلمنا بعد ذلك أن سموه كره لنا أن نرى هذا المحمل بعد أن انقطع المحمل المصري، وكان أحد التجار قد صنعه وكساه من تلقاء نفسه فلما لمحه الأمير أومأ إلى حاشيته أن يردوه فأخطئُوا فَهم مراده فحملوا عليه وحطموه ومزقوه. فكأنه لم يكن!
إلى هذا الحد كان سمو الأمير دقيقًا في مجاملتنا ومراعاة إحساسنا؟!
•••
وقيل: اذكروا أنكم مدعوون إلى مأدبة عشاء في قصر الكندرة، وأن هذه المأدبة رسمية تقيمها وزارة الخارجية أو إدارتها؛ وأن سمو الأمير فيصل سيحضُرها، وأن ممثلي الدول الأجنبية سيشهدونها كذلك. فسألت عن موعد هذا العشاء فقالوا الساعة الثالثة بالحساب العربي؛ فتناولت ورقة وقلمًا وألقيت نظرة على ساعتي الإفرنجية وشرعت أحسب، ولا أكتم القارئ أني أخيب خلق الله في الحساب، ولقد غلطت وزارة المعارف (المصرية) مرة — منذ نحو عشرين سنة — فكلفتني أن أدرِّس هذا الحساب، فاعترضت واحتججت، فما أجدى عني اعتراضي شيئًا، فقصدت إلى «ناظر» المدرسة الخديوية التي نقلت إليها — وكان إنجليزيًّا — وقلت له: «إن وزارة معارفنا تعتقد أن كل امرئ يصلح لكل شيء، ولكني أعرف من نفسي أني لا أصلح لتعليم الرياضة عامة والحساب خاصة، وأصارحك أني لا أصدِّق أن واحدًا في واحد يساوي واحدًا.
هذا — كما يقول شاعر عربي — كلام له خبيء، معناه ليست لنا عقول.
وقد تكون أو لا تكون لنا عقول، هذه مسألة خلافية ندعها الآن، ولكن المحقق عندي أن العلوم الرياضية وفي جملتها هذا الحساب لا تدخل في دائرة عقلي، فهل لك في عوني على ما أريده؟»
فضحك وقال: «وماذا تبغي؟»
قلت: «تعفيني من التدريس للفرق العالية، وتقنع بأن تكل إليَّ تلاميذ الفرقة الأولى — أعني الحاصلين على الشهادة الابتدائية في هذا العام — ليتسنى لي أن أحفظ الدرس أولًا، ثم ألقيه عليهم؛ فنتعلم معًا، وفي خلال ذلك تبذل وساطتك لتردني مدرس ترجمة كما كنت.»
فسرته صراحتي ووعدني خيرًا، وشرعت في العمل، وكنت أحفظ الدرس جيدًا وأراجع زملائي ثم أدخل على التلاميذ وألقنهم ما حفظت، وقد وفقني الله في الهندسة والجبر، أما الحساب فأعوذ بالله منه! كنت أخطئ في كل مسألة أطرحها على التلاميذ، ولم أكن أكتمهم أني أجهل منهم وأن الذنب للوزارة وليس لي، وأن الوزارة هي المسئولة عن خلطي وتخبطي؛ وأُنصِف التلاميذ فأقول إنهم قبلوا عذري واغتفروا لي ضعفي وحَفُّونِي بعطفهم ولم يبخلوا عليَّ بإيضاح ما يشكل عليَّ، وبهدايتي إلى الصواب حين أضل، وكنَّا أحيانا — إذا استعصى عليهم إفهامي طريقة الحل — نمضي بضع دقائق في ندب سوء حظي وحظهم، وربما قال الواحد منهم وقد فاضت نفسه بالعطف عليَّ والمرثية لي: «كيف ترتكب الوزارة مثل هذا الخطأ الشنيع فتعهد إلى تدريس العلم إلى جاهل به؟»
فيحمر وجهي أو يصفر — لا أدري فما كانت أمامي مرآة — وأقول بلهجة الصابر على قضاء الله فيه: «أنا عارف؟ قل لها يا سيدي! الأمر لله والسلام.»
ولم ينقذني إلا مفتش إنجليزي جاء على عادته ليشرف على سير الدراسة، فعلمت أنه مع الناظر في غرفته، وكانت مجاورة للغرفة التي أنا فيها، فأوصيت الخادم — أو الفراش كما يسمونه — بأن يدعوه إليَّ حين يخرج، وفتحت الباب على مصراعيه، فلما دخل عليَّ رحبت به واحتفيت بمقدمه وسرت به إلى مقعدي ومكتبي؛ وهناك سلَّمته كراسة التحضير وكراسة الأسماء، وأصبع الطباشير وممسحة السبورة. وقلت له: «التلاميذ أمامك، ومعك كراساتي وأدواتي فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته.» وخرجت، فجرى ورائي وأدركني أمام غرفة الناظر وقال: «إن هذا جنون، فعد إلى فرقتك.»
فقلت: «جنون! وهل كنت تنتظر أن أظل عاقلًا؟ لقد صارحتكم مائة مرة بأني حمار؛ فماذا تريدون؟ إن لي ذمة، وذمتي لا تقبل أن أضيع على التلاميذ المساكين سنة من أعمارهم.»
قال: «ولكني أكدت لك أننا لا نجد مدرسًا للرياضة فيحل محلك. فانتظر حتى نجد واحدًا ثم نعيدك إلى الترجمة.»
فقلت: «كلا! تتولى أنت التدريس حتى تجدوا المدرس. وأنا مستعد أن أقوم عنك بمهمة التفتيش.»
فضحك، وضحك الناظر وكان قد خرج على صوتنا، ولا أطيل: أقنعاني بالعود إلى فرقتي على ألا يطول عذابي إلا أيامًا معدودات؛ وقد كان.
وقد قصصت هذا التاريخ القديم ليعذرني القارئ إذا كان قد عزني أن أعرف الوقت بالحساب الإفرنجي، ولقد ملأت واللهِ الورقة كلها بالأرقام لأعرف كم تكون الساعة بالحساب الإفرنجي في الحجاز إذا كانت الثالثة بالحساب العربي في الحجاز أيضًا، فألفيتها تكون كل ساعة ما بين الأولى والرابعة والعشرين، إلا التاسعة مساء كما زعموا، وقد اتفق مرة أن أنتج حسابي الساعة التاسعة ولكنها كانت التاسعة صباحًا! فمزقت الورقة يائسًا ورميت القلم من النافذة.
وملت إلى واحد وهمست في أذنه: «أرجو أن تصدُقني! كم ساعة باقية لنا قبل هذه المأدبة؟»
فأخرج ساعة ونظر فيها وقال: «ساعتان ونصف.»
فقبلته بين عينيه وقلت له: «إنك آية من آيات الله في الذكاء وحدة الذهن. ولو كان الحسد في طبعي لحسدتك؛ فإن من المدهش ولا شك أن تستطيع عمل كل هذا الحساب المضني في ربع ثانية! فتح الله عليك! فتح الله عليك!»
وخرجت أعدو إلى غرفتي ووقفت أمام المرآة وقلت لخيالي فيها: «اسمع يا مازني، إن هذه المأدبة رسمية وسيحضرها وزراء الدول وقناصلها فينبغي أن تكون فيها فخرًا لبلادك وعنوانًا على ما بلغته من الحضارة والرقي، لا عارًا عليها وسُبة لها؛ فالبس ثياب السهرة وإن كانت من طول ما طُوِيَتْ في الحقيبة قد تجعدت وتثنيت وصارت كالوجه الذي غضَّنته الشيخوخة، ولكن هذا حري بأن يُغتَفَر في الحجاز، وعندك في هذه الحقيبة كتاب في آداب السلوك في المجتمعات فأخرجه وادرسه بسرعة؛ فإن في ساعتين الكفاية، أفهمت؟ إذن فإلى العمل!»
وتناولت الحقيبة وحططتها على السرير وفتحتها بسرعة وأخرجت بذلة «الاسموكنج» والقميص الأبيض والرباط الأسود، وسائر ما تتطلبه هذه البذلة، ونضوت ما على بدني من الثياب، ثم تذكرت الكتاب فأخرجته وقعدت على السرير أدرسه وأنا نصف عارٍ وأجريت عينيَّ في الفهرس حتى استوقفني هذا العنوان: «فن الانحناء».
إن الانحناء، ولمن يكون وكيف يكون وفي أي وقت يكون؛ فن قائم بذاته، وإتقان ذلك وتجويده، والحذق فيه والأستاذية، أكبر ما يمتاز به الرجل المهذب.
وأول ما يجب على المرء، أن يكون وضع القدمين كأول وضع لهما في الرقص.
فكفأت الكتاب على ركبتي وذهبت أحضر إلى ذهني وأتمثل هذا الوضع الأول في القرص؛ فطافت برأسي صور شتى للأقدام كما كنت أراها في المراقص المصرية، غير أنه ما من صورة كانت تشبه الأخرى، فألححت على خيالي وكددت خاطري وحصرت ذهني في هذا الموضوع وطردت عنه كل ما عداه حتى صار رأسي وليس فيه إلا أحذية «ضاحكة اللألأ» تروح وتجيء وتنساب تحت السيقان اﻟ …»
وخفت أن أترقى في التصور من الأحذية إلى ما فوقها فيتم فساد العمرة التي أفسدها المطوف وأشياء أخرى حدثتك عنها فيما أسلفت عليه القول.
وترفع اليد اليسرى بخفة ورشاقة وتوضع أطراف بنانها على الصدر فوق القلب، ثم يُحنَى الرأس ويليه الجسم مما يلي الردفين وتكون اليد اليمنى في أثناء ذلك ترسم «في الهواء خطًّا مقوسًا بلباقة وأناقة»، ومما ينبغي توخيه والتدفق فيه والحرص عليه أن «يكون تعبير الوجه فاتنًا على قدر ما يستطيع صاحبه، ونظرة العينين سابية ساحرة، أما درجة الانحناء فرهن بمقام الشخص الذي له التحية … إلخ إلخ.
وطويت الكتاب وأطرقت، فما كنت أظن الانحناء يمكن أن يكون عملًا معقدًا إلى هذا الحد! ومن لي باللباقة ومن أين أجيء بالرشاقة إذا وسعني أن أؤدي هذه الحركات؟ إن كل ما أحسنه هو أن أهزز رأسي متتابعًا — من أعلى إلى أسفل، أو من اليمين إلى اليسار — إذا أردت الإعراب عن الموافقة أو المخالفة؛ كسلًا مني عن النطق بنعم أو لا، وقد ألاقي في الطريق بعض من أعرف وتكون بيني وبينه مسافة تمنع الكلام فأحاول أن أومئ إليه برأسي، وإذا به يتجهم ويحدجني بالنظر الشزر، فأعجب لسوء أدبه في رد التحية، وقد تبينت فيما بعد أني لم أكن أهز رأسي بل أحرك حاجبيَّ؛ فكان الناس يحملون هذا مني على محمل السخرية ولو علموا لعذروا.
وقلت أتدرب؛ فوثبت إلى قدمي واستويت واقفًا أمام المرآة وقلت وأنا أبتسم لخيالي فيها وأنحني: «يا سيدي الأستاذ المازني إني أحييك وأؤكد لك أني خادمك المطيع وأدعو لك بطول العمر.» ثم اعتدلت بسرعة فقد شق عليَّ منظري، وكنت لا أزال نصف عارٍ، وعجَّلت بارتداء الاسموكنج حتى إذا فرغت من ذلك خرجت أتخطر وأنحني بعد كل خطوتين أو ثلاث انحناء عميقًا كأني ماثل بين يدي ملك الملوك على الأقل، أو أفتن امرأة في العالم؛ وإذا بطربوشي تكبسه على رأسي بطن الخادم فتراجعت قليلًا لأفسح لنفسي، ورميت إليه انحناءة عميقة وقلت وعلى فمي ابتسامة لم يخالجني شك في عذوبتهما وسحرها: «سيدي إني أعتذر وأحيي في شخصك فضائل الطاعة والإخلاص والأمانة.»
فارتبك المسكين وجحظت عيناه وتصبب العرق البارد من جبينه وصار يتلفت يمنة ويسرة كالذي يبحث عن نافذة يثب منها، حتى إذا وقعت عينه على الباب؛ ولَّى هاربًا؛ فتلبثت هنيهة أصلح من شأني وأرد طربوشي عمَّا جار عليه من وجهي ولمَّا لم أجد أمامي أو معي أحدًا من خلق الله استقبلت الباب وألقيت إليه انحناءة بارعة، وإذا بأصوات من خلفي تصيح بي: «إيه ده بس في عرض النبي؟ طلعت البلا على جتة الخدام.»
فدرت على عقبي وجُدْتُ عليهم بانحناءة متقنة وقلت وأنا أرسم بيمناي قوسًا مزدوجًا: «سادتي، إني عبدكم الخاضع المطيع وخادمكم الوفي الأمين.»
فقال أحدهم وهو يثور بكلتا يديه كأنما يطرد عن وجهه جيشًا من الذباب: «خادم إيه وزفت إيه؟ هل جننت حتى تنحني للباب وللخدم والهواء؟! ما معنى هذا؟»
قلت: «عفوًا، ولكني أظن المعنى واضحًا جدًّا، وكل ما في الأمر أن الشوق إلى الانحناء لَجَّ بي ولما أجد خيرًا من الخادم أو الباب لم أَرَ أن هذا من حقه أن يحول دون إطفاء حرارة الشوق الذي أكابده؛ فأما وقد تفضلتم عليَّ بالظهور لي في الوقت المناسب فاسمحوا لي أن أقوم بتجربة أخرى على مرأى منكم وأرجو أن تجعلوا بالكم على الخصوص إلى سحر ابتسامتي فإني أريد أن أطمئن عليها.»
ورددت قدمي اليسرى خطوة ورميت إلى كل منهم انحناءة باهرة، فوجموا قليلًا ثم راحوا يدقون كفًّا وقال أحدهم: «هذا جنون مطبق.»
فقلت: «كلا! ولكنَّ عندي كتابًا يؤكد واضعه أن الانحناء البارع أكبر ما يمتاز به الرجل المهذب. وأنا مستعد أن أعيركم إياه فإن العلم بما فيه ينقصكم على التحقيق.»
ولا أطيل، عراهم سهوم الحسد فجلسوا صامتين برهة ثم نادى أحدهم الخادم أو صفق له على الأصح وقال لي قبل أن يدخل الخادم: «لا أدري من أين تجيء بهذه الكتب، وإن كنت عظيم الشك في وجود كتاب كهذا، ولكن الذي أريده أن الخادم قد ارتاب في عقلك فأرجوا — ألح عليك — أن لا تفعل أمامه شيئًا وكفى ما فعلت.»
فلم أعلن بالرد عليه وشربت القهوة التي طلبتها في صمت، فقد كنت راضيًا عن نفسي معتزًّا بما أحرزت دونهم من براعة وحذق.
•••
والجو في الليل يبترد في جدة؛ وكانت الساعة قد قاربت التاسعة مساء (بالحساب الإفرنجي) على ما زعموا حين أُعِدَّتْ لنا السيارات لركوبها إلى الكندرة، فقلت لسائقنا الجديد وكان هنديًّا — فقد هجرَنا صابر ومَلَّنَا وجفانا بعد مكة: وأنزل الغطاء فإني أريد أن تكون السيارة مكشوفة.
فصاح زميلي: «ولكن الجو بارد والرياح عنيفة.»
فقلت: «اسكت أنت من فضلك. أتريد أن تحرم أهل جدة منظرنا في ثياب السهرة؟! إنه منظر لا يرونه إلا في الندرة القليلة والفلتة المفردة، وحرام علينا أن نضن به عليهم.»
فقال: «يا أخي إن الطريق صحراء لا ناس فيه ولا شجر، فاصنع معروفًا ودع الغطاء مرفوعًا.»
قلت: «كلَّا، أنا أيضًا لا ألبس الاسموكنج كل ليلة، وليس من الإنصاف لي أن أرتديها وأتحمل عذاب هذه البنيقة (الياقة) الناشفة وأن أختفي وأتوارى عن العيون، إذن لماذا تجشمت كل هذا التعب؟»
ولا أحتاج أن أقول إن زميلي في السيارة اقتنع بسداد رأيي، وإننا ركبنا السيارة مكشوفة وخرجنا بها من جدة إلى الصحراء في طريقنا إلى الكندرة، ولم تكن المسافة طويلة؛ فقد كنا نرى أضواء القصر بعد أن جزنا سور جدة، وكان القصر يعب بالناس ويزخر بالضيفان، فجعلت أطوِّف بالحجرات الخاصة بالخلق وأعجب أين تُرى سنأكل وليس في القصر شبر خالٍ؟ وضحكت في سري وقد تذكرت قول المتنبي في كافور:
وخطر لي أن هذا حالنا! نُدْعَى مئاتٍ إلى القصر ونُحجَز فيه ولا طعام، واستحييت أن أسأل وأنساني القلق على العشاء والخوف من عض الجوع ما أتعبتُ نفسي حتى مهرت فيه — أعني الانحناء — ولكن وجهي كانت مرتسمة عليه ابتسامة تشجِّع الناس على المصارحة، فدنا مني واحد قال: «ألَا تحب أن ترى مكانك من المائدة؟»
وهنا تذكرت الفن الذي حذقته فتراجعت وانحنيت ثم استويت وقلت: «سيدي، إني تحت أمرك.»
فحملق في وجهي وتلعثم، ولا عجب فما له عهد بمثل هذه الأستاذية، ولم يزِدْ على أن قال: «تفضل.»
فجدت عليه بانحناءة أخرى أدق وأبرع وقلت: «سيدي، إني أرجو أن تتقبل شكري الخالص الذي يفيض به قلب يعرف الجميل ولا ينكره و…»
فهرول الرجل، وبدا لي أن الحزم أن أهرول وراءه لئلا يهرب أو يختفي في الزحام، والدنيا كما تعلم فرص، والضيوف هنا مئات، وأي طعام يمكن أن يكفي هؤلاء جميعًا؟
وانحدر دليلي الهارب من سلم خلفي لم أَرَهُ من قبلُ ولم أفطن لوجوده لأن عليه أستارًا مسدَلة تحجبه. وانحدرت وراءه إلى الصحراء، أو على الأصح إلى رقعة اقتطعوها منها وأحاطوها بسياج من نسيج الخيام الموشَّى وأضاءوها بالكهرباء والغاز أيضًا على سبيل الاحتياط، ومدوا فيها الموائد على شكل مستطيل ورتبوا المدعوين بأسمائهم، فلكلٍّ مكانه الذي لا يعدوه، وأعتدوا لكل واحد ما يحتاج إليه من الأطباق والملاعق والسكاكين وغير ذلك على الطريقة الأوروبية، وأقاموا في قلب المستطيل فوق بئر يسقى منها القصر، شبه مسرح زيَّنوه بسعف النخل ورفعوا عليه صورة كبيرة لجلالة الملك عبد العزيز بن السعود، وجعلوا فوقها رايتهم وهي: «بسم الله الرحمن الرحيم» وعليها سيفان لا شك أنهما ماضيان. وقد أعجبني ذوقهم في حجب البئر عن العيون وحيلتهم بالانتفاع بها واستخدامها.
وآن أن يُطعمونا، وكان هذا قد آن جدًّا قبل ساعة، فجلس سمو الأمير فيصل في الصدر وإلي يمينه معتمدو الدول الأجنبية، وإلى يساره زكي باشا ونحن نتلوه، وبين كل اثنين منا رجل من كبراء الحجازيين، وتوسط فؤاد بك حمزة مدير الشئون الخارجية ضلعًا آخر من المستطيل وعلى يمينه ويساره قناصل الدول وفي جملتهم قنصل مصر وإن كان غير معترف به، وهم يدعونه بصفة غير رسمية إلى الحفلات ومآدبها على الرغم ممَّا بين البلدين من الجفوة الحكومية المتكلَّفة التي لا مسوغ لها.
وكان أمام كل نحو ثلاثة من الضيوف — فوق المائدة — كرسي واطئ عليه طشت كبير غاصٌّ بالأرز المحمر المخلوط بالصنوبر والزبيب وما إلى ذلك، وفوق هذا كله كبش محمَّر تفوح رائحته المغرية وتتضوَّع إلى أنوفنا، فننظر إلى الأمير فلا نراه يمسه فنكف ونتنهد، وقد طافوا علينا بتسعة عشر لونًا من الأطعمة الشهية حتى اكتظظنا جدًّا ولم نعد نستطيع أن نتنفس، وبرزت صدورنا وصارت لنا كروش كروية عظيمة. وعلى كثرة ما أكلنا، أعترف أني قمت متحسرًا على الخروف الذي كان أمامي، ولا أدري لماذا يذبحون كل هذه الخراف الجميلة ويحمِّرونها إذا كانوا لا يأكلونها ولا يدعوننا نصيب منها شيئًا؟ قد خامرنا الشك في أنها خراف حقيقية كانت قبل ساعات تثغو وتقول: «مآء! مآء!» وقلت لعلها رسوم مجسمة على صور الخراف، ولكني لم أَرَ أثرًا لهذا الفن في الحجاز.
ويخيل إليَّ أن حكومة الحجاز تعتقد أن ضيوفها شرهون، وإلا لتوخت بعض القصد فيما قدمته من صنوف الطعام؛ فإن ما أدير علينا كان يكفي أمة بأسرها، على أن العرب جميعًا يبالغون في مقدار ما يطعمون ضيوفهم، ولعل ذلك راجع إلى طبيعة البداوة وما ورثوه من أخلاقها وعاداتها، لكنه إسراف على كل حال، ولو كان لي من الأمر شيء لطلبت الحَجْر على الحكومة والناس جميعًا هناك.
وخطب فؤاد بك حمزة في ختام المأدبة لمناسبة انقضاء عام على مبايعة ابن السعود ملكًا على الحجاز؛ فبيَّن ما قامت به الحكومة السعودية من الإصلاح وما تفكر فيه من وجوهه المختلفة، ورحَّب بالمدعوين جميعًا وخصنا نحن المصريين بالذكر الطيب، وأعرب عن أمله أن نكون رسل سلام ووئام بين الشعبين الشقيقين، فأجابه زكي باشا بالنيابة عنا وشكر وأثنى كما ينبغي، ثم حمس فانطلق يخطب بالفرنسية ليُفهِم عنه الأجانب، ولم يفُتْه أن يشنِّع علينا لأنا طُفْنَا بالسيارة متخذًا هذا دليلًا على أن الإسلام يتسع لكل ما تجيء به الحضارة، ونسي — عفا الله عنه — أن طوافنا بالسيارة كان بإذن سمو الأمير؛ فعلى الأمير حسابه.