في وادي فاطمة
كان بيتنا — أعني بيت العويني — في طرف المدينة — أعني جدة — أو لعل هذا مبتداها فما أعرف أين بدايتها وأين نهايتها، وكل ما أدريه أنه قريب من البوابة المؤدية إلى طريق مكة والمدينة، وأنه — أي البيت لا الطريق — يطل على البحر وعلى ما كان في عهد الأتراك يسمى «الكازينو»، وهو الآن مهجور، وكان يومنا الخامس هو الخميس، وهو اتفاق لم نعتمده، وفي صبيحته احتشد عندنا كل زملائنا إذ كنا على طريقهم، وكان الغداء في وادي فاطمة، وكانت السيارات أمام الباب تدور وتلف وتصطف استعدادًا للسير، فجلسنا نشرب القهوة المصرية — أو التركية كما يسمونها — ونتلاغط ونتكلم جميعًا في وقت واحد ولا يصغي أحد منا إلا لنفسه.
ثم قيل: «تفضلوا» فتفضلنا، أعني أن بعضنا وقفوا ثم نظروا إلى الباقين فألفوهم جلوسًا، فقعدوا مثلهم؛ فسُئِلوا «لماذا قعدتم؟» فقالوا «حتى يقوم هؤلاء.» فمضى الداعي يستنهض الآخرين ويشد أذرعتهم وهم معرضون عنه ماضون في كلامهم، ويكرر لهم دعوته أن يتفضلوا فيقوم الواحد منهم متثاقلًا وكأنه لا يعي ما يفعل، ولسانه لا يكف عن الكلام ووجهه لا ينثني عن الإعراض، ثم نسير خطوات فيقف واحد ويواجه الباقين ويضطرهم إلى الوقوف والإصغاء، حتى على السلم كان هذا يتكرر، فكان يتفق ونحن نازلون أن يقف واحد بغتة ويدير إلينا وجهه، وتكون أرجلنا مهيَّأة في هذه اللحظة للهبوط وأجسامنا محنية؛ فنردها — أعني أرجلنا — بسرعة، ونستوي واقفين فتصطدم الرءوس بالصدور التي وراءها، وترتفع الأصوات بالسخط وألفاظ الاحتجاج والاستهجان … وهكذا …
وأَجَلْتُ عيني في السيارات وسائقيها، فإذا «صابر» — ذلك الغلام الحنبلي — قد جفانا وآثر علينا سوانا، فترقرق الدمع في عيني وتدلى رأسي على صدري، فقد كانت صحبته رضية وحديثه شهيًّا، وهو على الرغم من شبابه اليافع فتى مخضرم إن صح هذا التعبير، أعني أنه أدرك جاهلية الحسين وعهد ابن السعود، فأفاده ذلك حكمة ليست لسنه وكياسة لا تكون مع الشباب، وعلمًا بالدخائل واطلاعًا على الخبايا، فقد كان كما أسلفت القول في موسيقى الحرس الخاص بالحسين وبنيه، وهو الآن عامل في شركة القناعة للسيارات. غفر الله له وعفا عنه فإنه مصري مثلنا.
وأفسحوا الطريق وانطلقت السيارات، وعزائي أن سائقنا الهندي لا يعرف الطريق — ولا العربية — وأن «صابرًا» الذي هجرنا أمره — لا أدري بأية لغة فما فهمت كلمة من حديثهما — أن يتبعه ولا يسبقه، كذلك قال لنا صابر مترجمًا، فأدركت أن في «صابر» رقة على الرغم من حنبلية مظهره.
والطريق إلى وادي فاطمة هو عين الطريق إلى مكة، ولكنه ينحرف عنه قبلها ويذهب يسرة ويصبح ذلك وعرًا، كله حُفَر ونُقَر وصخور وتراب، وكان الهواء قد أسكرني فنمت، ومن عادتي إذا كربني هَمٌّ أن ألتمس السلوان في النوم، وأن أتعزى بالأحلام وأضغاثها عن الحقائق ومرارتها، وهذا من فضل الله عليَّ، ولَكَمْ قلت لمن يحلو له أن يهجرني ويحسب أنه بذلك يعذبني: «إذا كان في وسعك أن تصد عني فإن في مقدوري أن أصد عن الدنيا كلها والحياة بأسرها، انظر!» ثم أضع رأسي على الوسادة وأغمض جفني وأقول: بسم الله الرحمن الرحيم، توكلت على الله الحي القيوم الذي لا ينام، وأهب من فوري إلى وادي الأحلام.
ولكنا لم نكد نميل عن طريق مكة الممهَّد حتى استيقظت والشرر يتطاير من عيني، فقد توهمت أن زميلي ضربني على رأسي وكبس طربوشي على أذني، وهممت بأن أمسك بتلابيبه — أعني بربطة رقبته — وفي نيتي أن أضيقها على عنقه حتى يختنق، ولكن الطريق عاجَل السيارة بحفرة أخرى، وإذا بي أرتفع عن مقعدي — وحدي بلا معونة — وأطير بقدرة الله حتى أبلغ السقف، ثم أنحط كالحجر، وإذا بطربوشي قد غطي عينيَّ أيضًا وهوى إلى أرنبة أنفي؛ ففهمت، وحاولت أن أخرج رأسي فلم أستطع، فشددت الطربوش من زره، فبقي الطربوش في مكانه وخرج الزر في يدي، فأهبت بزميلي الراكب معي أن يساعدني. وكان لسوء الحظ نائمًا، وكنت أنا بفضل الطربوش لا أراه ولا أعرف ذلك فحسبته يتعمد أن يمنع عني معونته، وغاظني هذا منه، وذكرت مثلنا المصري العامي القائل: «ضربوا الأعور على عينه قال خسرانة خسرانة.» فتوكلت على الله ونطحته في كرشه — فقد كان ذا كرش كما نسيت أن أخبر القارئ — فهب مذعورً يقول: «بع بع.» واندفعت كلتا يديه إلى كرشه فوقعت على الطربوش — وكنت أهم بنطحه مرة أخرى — فتزحزح إلى آخر المقعد اتقاء للنطحة، وأحسست أصابعه على حافة الطربوش مما يلي أذني! فجذبت رأسي إلى الوراء فجأة وبقوة فخرج الطربوش في يديه مقلوبًا فاعتدلت وقلت له: «أشكرك يا صديقي. والآن هل معك دبوس؟»
فصاح بي: «ما معنى هذا؟ أريد أن أفهم! حالًا!»
قلت: «معناه أن زر الطربوش في يدي، وأنه لا يليق أن أبدو للناس هكذا — أعني بغير زر — فهات دبوسًا واكسب الشكر من صديقك.»
قال وهو مقطب: «ولكن هذا لا يليق. وإذا كنت حضرتك تظن …»
فقلت أقاطعه: «تمام. لا يليق أبدًا؛ ولذلك أرجو أن تعطيني دبوسًا، ثم إن اسمي إبراهيم أفندي عبد القادر المازني.»
فقال وهو يمط شفتيه اشمئزازًا: «يعني حضرتك فاهم …»
فأسرعت إلى إتمام الجملة بدلًا منه: «… إني لا أستطيع أن أظهر بطربوش ليس له زر، بالضبط، واسمي إبراهيم أفندي عبد القادر المازني.»
فشور بيديه كلتيهما وقال «أوه … ده شيء يجنن!»
ثم عاد فالتفت إلي وقال: «يعني إزاي حضرتك تنطحني؟ عمري ما شفت كده! دي رحلة زي الزفت!»
فقلت: «إني أراها على عكس ذلك … أجمل رحلة قمت بها في حياتي، وأرجو أن نقوم بها معًا مرة أخرى.»
ويظهر أنه يئس وفوَّض أمره لله ولسوء حظه، فأعرض عني وهو يقول: «ابقَ دور على غيري.»
فقلت: «إن شاء الله وإن كان هذا من دواعي أسفي — أعني في المستقبل — وفي أثناء ذلك أرجو أن تعطيني دبوسًا.»
فلم يعد يستطيع أن يكظم غيظه وسخطه ونقمته وصاح: «دبوس إيه يا أخي؟ هو أنا دكان مانيفاتورة؟ ولا حضرتك بتتريق؟»
فقلت «معذرة. ليس بي حاجة إلى الدكان كلها. إنما أريد منها دبوسًا واحدًا، أو إبرة إذا أمكن، بل الإبرة خير، وأرجو أن تذكر أن اسمي إبراهيم أفندي عبد القادر المازني.»
فضحك أخيرًا بعد أن أدرك مرادي وقال: «طيب وحياة أبوك تبعد عني بقي يا إبراهيم أفندي يا عبد القادر يا مازني.»
فانصرفت عنه إلى السائق وأشرفت عليه من ورائه لأرى هل في صدره دبوس أو نحو ذلك، ففزع الأبله واضطرب وارتفعت يداه عن عجلة القيادة فكادت السيارة تنقلب بنا في حفرة لولا أن أسرعت ومددت يدي إلى العجلة وحوَّلت السيارة عنها؛ أعني عن الحفرة.
ولا أطيل، اضطررت أن أحمل طربوشي في يدي، وأن أشكو حرارة الشمس ووقدتها حتى وجدت من يعيرني دبوسًا أصل به الزر إلى عنق الطربوش حتى نعود إلى جدة.
ووادي فاطمة وادٍ — كما هو ظاهر بالبداهة — ولكنه غير ذي زرع كثير؛ فيه نخيل وأعناب، وفيه موز وباذنجان، وطماطم وليمون، وملوخية وبامية، وأحسب هذا كل ما فيه أو أكثره، وله عين يترقرق منها الماء ويجري في مجرى ضيق يستطيع المرء بأيسر مجهود أن يتخطاه من جانب إلى جانب، وإذا وضع يده فيه — أي في الماء — لم تبتل إلا عقلة واحدة من أصبعه، وهم مع ذلك يباهون به ويعتزون، وقد هززت رأسي أسفًا حين رأيته — أعني الماء — وقلت لواحد كان واقفًا إلى جانبي وأنا أقوم بهذه التجارب: «إن لنا في مصر نهرًا عظيمًا ينبع في جبال القمر على قول، ومن الجنة على قول آخر أظنه الصحيح، ويقطع إلى البحر آلاف الفراسخ، وتستطيع الأساطيل الضخمة أن تغرق فيه إذا شاءت، ومع ذلك لا يكفينا ولا نقنع به، ولا تزال بلادنا أكثرها صحراء بلاقع كما هي هنا. فالحق أن بلادكم أو على الأصح فدافدكم، تعلم لزهادة وتروض النفس على القناعة.»
وهناك في قلب الوادي رأينا الخيام مضروبة، واحدة للأمير وأخرى للاجتماع، وثالثة لموائد الطعام؛ فقد جلبوا إلى الصحراء أدوات الطعام كاملة لا ينقصها كوب من الزجاج ولا سكين ولا ملعقة، وقد عجبت لهم كيف استطاعوا أن ينقلوها من غير أن تتحطم الآنية كلها!
وكان الأمير قد سبقنا، والمكان قد ازدحم، وحفَّ ممثلو الدول بالأمير فجاءونا بكراسي وصَفُّوها أمامه فجلسنا بينه وبين الناس، وبدءوا يلقون الخطب ويُنشِدون القصائد بين يديه، يمتدحون فيها العهد السعودي ويصفون ما بلغت البلاد في ظله وبفضله، وساءني أن التلاميذ شجعهم أساتذتهم على المبالغة والغلو، ولم أرتح إلى سماع كلمات «العلى والمجد والقمة والسنام» إلى آخر ذلك مما زعم التلاميذ في خطبهم أن الحجاز ارتقى إليه، وقلت لجارٍ لي — وأظنه كان حجازيًّا — إن هذه المبالغات السخيفة هي داؤنا جميعًا، وإننا جميعًا — في مصر والشام والعراق والحجاز … إلخ — أحوج إلى مواجهة الحقائق وفتح العيون على الواقع وقياس ما بيننا وبين مَن سبقنا من الأمم، وإن من الإجرام أن نخدع أنفسنا ونغالطها في هذه الحقائق، ومن الجناية أن تُنَشِّئُوا هؤلاء الأطفال على التوهُّم أن بلادهم بلغت أوج المجد وارتفعت إلى قمة العلى وغير ذلك من الكلام الفارغ. وإنه أجدي عليكم أن يعرف كل امرئ مبلغ ما يُطلَب منه في سبيل بلاده لتتهيأ نفسه لبذل الجهد الذي يحتاج إليه. وضربتُ له مثلًا، فقلت: إني قد أرى شيئًا أتوهمه خفيفًا فأمد إليه يدي لأرفعه وأنا غير محتفل، ويتفق أن يكون ثقيلًا على عكس ما تصورت، فأعجز وأخسر وقتًا وجهدًا في غير طائل، ولكني إذا عرفت أنه ثقيل، أشد أعصابي وأوحي إليها أن تستعد لجهد عظيم يناسب ثقل الشيء الذي أريد رفعه أو حمله، فيجيء المجهود معادلًا للمطلوب فأنجح، وهكذا في غير ذلك، في صغار الأمور وكبارها، فلا تغشوا أنفسكم فإن هذا شر ما تسيئون به إليها، ولا تستهينوا بكلام تظنونه يذهب في الهواء؛ فإنه لا يذهب في الهواء بل يتقرر في ثرى النفوس ويرسخ في العقائد ويستكن في ضمير الفؤاد من حيث لا تشعرون، وإذا كان كل مرادكم أن تثيروا الشعور بالعزة القومية؛ فإن لهذا سبلًا أخرى، ولا خير على كل حال في الفخر الأجوف.
وكان بين الشعراء رجل من الكويت — إذا كانت ذاكرتي لم تَخُنِّي — وشِعره سخيف ولكن إنشاده بديع، وقد كان وهو يلقي قصيدته الطويلة يغني ويمثل، وأشهد أن صوته صافٍ خالص كصوت الفضة، وأن غناءه بارع وخالٍ من التخنُّث والتطرِّي، وأن تمثيله حسن مطابق للمعاني مؤدٍّ لها على وجه الإحكام.
وتلاه شاعر نجدي قح أعوذ بالله من إلقائه، فليته جاء قبل الكويتي، ولكنه أبى إلا أن يجيء قبل الطعام فكاد يصدنا عنه ويفتِّر رغبتنا فيه، ويزهدنا في الشعر والأدب والعرب، بل في الحياة نفسها، فأعوذ بالله مرة أخرى وثانية وثالثة من إلقائه، وسأظل أستعيذ بالله منه كلما ذكرته؛ فإنه يفسد عليَّ نومي ويسود العيش في عيني، ويغثي نفسي ويكرب صدري، وقد ضرست أسناني لما سمعت صوته، وأحسست كأن الحكة قد شاعت في جلدي — أعني الجرَب والعياذ بالله مرة رابعة منهما أعني الجرب والصوت — وإني لأوصي الحكومة الحجازية أن تقطع ألسنة الشعراء النجديين إذا كانت أصواتهم منكرة كهذا الصوت؛ فإن البكم خير ألف مرة، وهذا الصوت — إذا كان له مشبه — خليق أن يغري الخلق بالفتنة والتمرد ويدفع الرعية إلى الانتفاض والثورة.
وقمنا إلى الطعام بعد هذا البلاء الشعري، وكانت ألوانه — أعني ألوان الطعام لا البلاء — مغرية، وكانت الخراف الشهية في الطشوت تخايلنا، فسألت: هل هي للزينة كما كانت في مأدبة الكندرة أم للأكل؟ فضحكوا وقالوا: بل للأكل. فألقيت السكين والشوكة، وشمرت كمي ونهضت عن الكرسي وقلت لعبد من الواقفين: «ارفع هذه الصحون من أمامي وأفسح لذي القرنين؛ فإني أراه لا يزال ذا قرنين على الرغم من الذبح والسلخ والشيِّ والتحمير. هاتِ عَجِّلْ، يا عبد الله — وليسامحني الأمير — فإني لا أحب المغالطة.»
فلما فعل — أعني العبد لا الأمير — دفعت يدي في خاصرة الخروف فلم أكد أفعل حتى ندت عن صدري صرخة من الطبق العالي الذي يوقظ الموتى في قبورهم، وإذا بي أدور على عقبي، وذراعي في الهواء وأصابعي مدلَّاة، وفمي ينفخ ويقول «فو. فو.» من لسع النار التي في خاصرة الخروف!
فبذمتي ليس هذا من الكرم في شيء! يجيئوننا أولًا بهذا الشاعر النجدي ينغص عيشنا ويشعرنا غصص الموت في حياتنا بل في شبابنا — فقد كنا جميعًا شبانا في الحجاز حتى زكي باشا — ثم يثنون بهذه الخراف التي حشوا بطونها جمرًا متقدًا، ويزعمون أنهم يطعموننا ويكرموننا! لماذا إذن كانت ألوان الطعام الأخرى لا تلسع ولا تحرق؟! أليس من الواضح أن هذا تدبير مقصود؟
ومال الأمير — بعد الطعام — إلى خيمته ليستريح، وملنا نحن إلى النخيل نحتمي في ذراه من الشمس، وارتمينا على الرمال وأشعلنا السجاير وذهبنا ندخِّن، وإذا بثلاثة من الجنود النجدية يَجْرُونَ إلينا واحدًا بعد الآخر ويسألنا كل منهم بدوره: «معك شيء من العكس؟»
فلم أفهم ما العكس الذي يطلبون شيئًا منه، وحسبتهم يعنون الدخان؛ فأخرجت علبة السجاير وعرضتها عليهم فتناولوا منها وعادوا يسألون عن «العكس» هل معنا منه شيء؟ فقلت لعله طعام أو شراب، وأشرت إلى خيمة المائدة وقلت: «هناك. لقد تركنا الخراف واللهِ سليمة أو كالسليمة، فعليكم بها إن كنتم تعنونها والأمر لله. أما إذا كان شرابًا ما تطلبون فهذا هو المساء يجري عند أقدامكم فانكفئوا عليه وعبوا فيه واكرعوا منه.»
فمضوا عني وهم يبتسمون وكأني كنت أخاطبهم باللغة الأردنية، وقد علمت بعد ذلك أن العكس معناه في اصطلاحهم الصورة، وكان الباعث لهم على طلب الصورة مِنَّا أن رياض أفندي شحاته أعد نحو ألف صورة — في حجم بطاقة البريد — لجلالة الملك ابن السعود، وفرق أكثر ما معه في وادي فاطمة، فتوهموا أن كل مصري مصوِّر ورياض أفندي أيضًا! وليتني كنته! إذن لاستغنيت عن هذا الكتاب ولما أصبحت أتجشم تعب التسطير والتحبير ونفقات الطبع والنشر.
ثم عدنا إلى خيمة الاجتماع وكانت غاصَّة، ولم يكن الأمير قد حضر، فطافوا علينا بأقداح القهوة في قعورها رشفة، فعدت إلى الاجتماع وظللت أستزيد حتى فر الساقي واختفى. ولما جاء الأمير استؤنفت الخطب ودُعِيَ زميلنا خير الدين أفندي الزركلي الشاعر السوري فأنشد قصيدة حماسية هي كل ما خرجنا به في يومنا — بل في رحلتنا كلها — من الكلام الرصين الجيد، فنهض أحد السامعين من البدو، وقد طرب، وخلع عليه سبحته، وهَمَّ آخر أن يخلع عليه عباءته، ولكن إخوانه — أعني إخوان الزركلي — خافوا إذا توالت الخلع أن ينوء بحَملها فصدوا الناس عنه وحموه، هذا الأ … أعني الخير.
وإنا لكذلك إذا بزكي يدخل كالمدفع، وصوته يسبقه، ومن ورائه السيد عبد الوهاب نائب الحرم، فصفَّق له الناس فوقف يعتذر فقال كلامًا أرعبنا، ذلك أنه التفت إلى الأمير وانطلق يقول إن أهل الحجاز وعمال الحكومة يزعمون أن الأمن شامل ولكنه تبين أن هذا كذب، ويرى من واجبه أن ينبه الأمير إلى الحقيقة ويطلعه عليها ويصدقه فيها، فقد كان مستلقيًا في ظل النخيل فسَطَا عليه لص وسرقه.
وهنا وثب الناس إلى أرجلهم ساخطين مستنكرين، وقلت لجاري: لقد خولط الرجل! أما كان يستطيع أن يسكت؟ ألا بد من أن يعلن ذلك على هذه الأملاء كلها؟!
ووجمنا، وودِدتُ لو أني تأخرت وأدركت زكي باشا قبل أن يدخل؛ لأحمله على الصمت وأصده عن الكلام، غير أن ذهولنا لم يطُل، فقد اندفع زكي باشا يشرح الموضوع وإذا كل ما يعنيه أن السيد عبد الوهاب محدِّث ظريف وأنه سرق وقته وأنساه الاجتماع والخطباء بحلاوة حديثه وقدرته على الافتنان فيه!
وقد عنيت بأن أذكر هذه الحادثة التافهة لأني أريد أن أخص السيد عبد الوهاب بكلمة؛ فإنه بلا شك برع محدِّث وأظرف رجل عرفناه في الحجاز، وقد تعلم في الآستانة وأتقن التركية والفرنسية فضلًا عن لغته العربية، وعرف الأيام كما عرفها المتنبي، ولكنه ظل مع ذلك رجلًا عطوفًا فيه رفق ورحمة ودماثة ومروءة، وليس في الحجاز من لا يأنس بمجلسه ويشتهي حديثه، وهو على ظرفه وفكاهته كيِّس وقور ذو رأي أنضجته السن والتجارب وفِكر سددته المعرفة والاطلاع. ولو شئتُ لأطلتُ ولكن بحسبه هذا مني.
وأشير هنا إلى حادثة أخرى لها دلالتها؛ ذلك أن عميد وزراء الدول في الحجاز هو الوزير الروسي، وقد كنت أحسبه صينيًّا فإن به من أهل الصين مشابه، وقد وقف يشكر للأمير دعوته هو وزملائه إلى هذه الوليمة في الصحراء، وكان يتكلم بالعربية أو بما يظُنُّه لغةً عربية، ويرفع الشكر إلى الأمير بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن زملائه، ولم يُطِلْ فإن من العسير أن يفيض المرء في الكلام بلغة يخترعها على البديهة.
ولكن ممثل الحكومة البريطانية — القائم بأعمال مفوضيتها في جدة — لم يرضه أن يكون ممثل الروسيا هو عميد الهيئة السياسية والذي ينطق بلسان أعضائها؛ مخافة أن يتوهم العرب أن الروسيا مقدَّمة على إنجلترا ومفضَّلة عليها، فاستأذن الأمير في كلمة يلقيها ثم نهض فأعرب هو أيضًا عن شكره للحفاوة التي لَقِيَهَا والكرم الذي غمره، وقد أشرتُ من قبلُ إلى هذه المنافسة بين الروسيا وإنجلترا هناك، والحق أنها كانت أحيانًا تبدو لنا مضحكة، أو على الأصح ممتعة.
ولكل شيء آخر، حتى الخطب والقصائد، وقد تنفسنا الصعداء حين رأينا الأمير ينهض وقلنا هذا إيذان بالأوبة إلى جدة والراحة، ولكنهم خبَّئوا لنا مشهدًا لا أحسبني أنساه ما حييت، فقد ساروا بنا بين الجند النظامية إلى العراء، وهناك وقف الأمير وأومأ إلينا فدنونا منه ورأينا صفين من البدو النجديين ثيابهم شكول، وأكثرها زاهٍ برَّاق، وفي يسراهم البنادق وفي يمناهم السيوف مصلته وبين الصفين أربعة يروحون ويجيئون وأمامهم عبد يضرب بالدف، وهو يطول ويقصر، ويتثنى ويتعوج، ويميل يمنة ويسرة، ويقوم ويرقد ويتمرغ على التراب والدف في يسراه، وفي اليمين عصا صغيرة ينقر بها، والأربعة وراءه يترنحون، والصفَّان على الجانبين يتوثبان، والمسدسات والبنادق ينطلق منها الرصاص في الهواء، والسيوف تلمع، ومع ذلك كله غناء أو شدو أو تهريج لا أدري، بكلام اعترف سمو الأمير نفسه أنه لا يتبين ألفاظه، وقد أذكرني ما رأيت حلقات الذكر في مصر، ولكن الذاكرين في مصر يلهجون بأسماء الله، أما هؤلاء فقيل لي إن الغرض من رقصهم بالسيوف والأسلحة والدفوف تحميس الناس ليخرجوا للقتال.
قالوا: ولا موجب لهذا التحميس ولكنها عادة بدوية قديمة مثَّلوها لنا ليمتعونا برؤيتها، وكان الواحد من هؤلاء البدو ربما خلع عقاله و«حرامه» ورمى بهما في الهواء ورماهما برصاصة وتركهما يهبطان إلى الأرض، وقيل لي في تفسير هذا أن يخلع عليه الأمير جديدًا عوضًا عن القديم الذي أطلق فيه الرصاص ويُبقي العقال مُلقًى على الأرض حتى يقول له الأمير: ارفعه عنها. وهذا عندهم وعد — غير قابل للإخلاف — بأن يخلع عليه سواه.
وظللنا هكذا لا أدري كم. وأحرِ بنا أن لا نحس كَرَّ الوقت ومَرَّ الساعات ونحن نرى هذا المنظر الساحر ونسمع الرصاص ينطلق أمامنا وفوق رءوسنا، ولا أكتم القارئ أن الخوف لم يفارقني لحظة، وأني لم أذهل عن نفسي ثانية واحدة، وأعترف أني كنت أخشى أن يصيبني سوء — أعني رصاصة — وأشهد لنفسي بالأدب؛ فقد كنت لا أزال كلما تنحى ممثل إنجلترا ليُفسِح لي مكانًا إلى جانبه في الصف الأول أؤكد له أني أستطيع أن أرى من تحت إبطه، وأني لا أقبل في حال من الأحوال أن أحاذيه أو أرفع نفسي إلى مقامه، فكان يشكر لي تواضعي ويؤكد لي أنه سعيد بجيرتي، وأنه معجب بذلاقة لساني وقدرتي على الرطانة، فكنت أقول له: «يا سيدي الوزير، إني عربي الأصل في الحقيقة وهذه البلاد بلادي في الواقع، فأنا لست هنا ضيفًا ولا يجوز لابن البلاد أن يسبق الضيف أو يتقدم عليه.»
وأتراجع خطوة، وأجعله أمامي، وأتخذ منه — بهذه الحيلة — مِجَنًّا دون الرصاص الذي أتقي أن يصيبني، وقد صارحتُه بالحقيقة ونحن راجعون وقلته له: «إن إنجلترا غنية بالرجال فهبك قُتِلْتَ فإن إنجليزيًّا يروح وآخر يجيء، وليس الذاهب بأفضل من الآتي، ولكنه ليس في مصر — ولا في جزيرة العرب على ما يظهر — سوي مازني واحد، وهذا غريب؛ فقد كنت أتوقع أن يخرج لاستقبالي والحفاوة بي وفد من عشيرتي، ولكني لم أسمع أن واحدًا من بني مازن انحدر إلى الحجاز لهذا الغرض، وأُسِرُّ إليك أني أخشى أن يكون ابن السعود قد فتك بهم.»
فدهش وقال: «لماذا؟»
فخفضت صوتي جدًّا، وشببت عن الأرض لأهمس في أذنه: «إن قومي — عفا الله عنهم — من أهل التخفيف.»
قال: «ماذا تعني؟ فإني لا أفهم.»
قلت: «أعني أنهم من ذوي المروءات.»
وقال: «وهل يفتك بهم ابن السعود لأنهم من ذوي المروءات؟!»
قلت: «إن ابن السعود يكره هذا الضرب من المروءة.»
قال: «كيف؟! لماذا؟!»
قلت: «إن اللغويين أعداء قومي — ألد أعدائهم — يسمون المروءة قطعًا للطريق، والتخفيف عن الناس سطوًا عليهم، وابن السعود وهابي أي على مذهب اللغويين، سوء تعبير أو خطأ في الوصف كما ترى. وأخشى أن يكون قد جر على قومي وبالًا، فهل لك في حلفي؟»
قال: «حلفك؟»
قلت: «نعم، تحالفني على ابن السعود، إذا ثبت أنه أوقع بهم.»
فالتفت إليَّ بسرعة وقال: «أتتكلم جادًّا؟ فلست أكتمك أني مستغرب حديثك، وأني لا أكاد أفهم شيئًا!»
وهنا أدركَنا واحد فوضعت أصبعي على فمي، ولكن «الواحد» لمحني فقال للوزير: «أنا واثق أن حديث المازني قد حيرك.»
فقال الوزير — أو القائم بأعمال الوزير على الأصح: «هذا صحيح، لقد كاد يجرني إلى حرب ابن السعود من أجل قضية لا أفهمها.»
فقال «الواحد»: «ألم أقل لك؟ فماذا كان يقول؟»
فتركتهما يتذكران وارتددت إلى زملائي فصاحوا بي: «يا أخي أين كنت؟»
قلت: «لماذا؟ ألست أمامكم؟»
قالوا: «إن الأمير قد تفضل ودعانا إلى خيمته ليودِّعنا على انفراد، ولنا ربع ساعة نبحث عنك.»
قلت: «حسنًا فعلتم، تفضلوا.»
وسرت أمامهم إلى الخيمة ثم تنحيت لزكي باشا فإن شيبته أضوأ من شيبتي، وأنا رجل لا يكابر في الحق، فتلقانا الأمير — ومعه فؤاد بك حمزة مدير الشئون الخارجية — بالتأهيل والترحيب، وأعرب عن سروره بزيارتنا للحجاز ويقينه أنها ستؤدِّي إلى توثيق العلاقة بين الشعبين الشقيقين.
فقال زكي باشا: إن العادة تثبُت من مرة واحدة. فقال سموه: إنها لكذلك، وأني لأرجو أن أراكم في كل عام على الأقل مرة.
وذكر بعضنا المدينة وأنه يحب زيارتها، فقال سموه: إن الأمر في ذلك لكم، فإذا شئتم أن تتخلفوا أيامًا أخرى فإن الزيارة سهلة، ولكنها تكون شاقة ومتعبة إذا أردتم أن تدركوا الباخرة التي تبارح جدة يوم السبت، فاختاروا ما شئتم.
فشكرنا له ظرفه وحسن مجاملته وكرمه، واعتذرنا بأن أعمالنا في مصر لا تسمح لنا بطول التغيُّب، ورجونا أن تتاح لنا في العام المقبل فرصة العود إلى مثل هذه الزيارة، وأفضنا في الإشادة بما شاهدنا من دلائل التقدم وأمارت الإخلاص في ترقية الأحوال وتحسين الشئون، وقلنا وقيل لنا كلام كثير نسيت أكثره، ثم تفضل سمو الأمير فخرج معنا من الخيمة ليرسمنا رياض أفندي حافِّين به.
ثم سلَّمْنا وعُدْنا إلى جدة وكان هذا ختام الحفلات الرسمية.