في بيت العويني
في بيت العويني عرفت العويني، أعني أني استطعت أن أُلِمَّ بطرف من الصفات والخلال التي أعانته على التوفيق في حياته، وهو على ما علمت من أسرة سورية، وكانت له تجارة رابحة، فلما قامت الثورة السورية أمدها بشبابه وماله وتدبيره، وكان أشبه بزعيم محلي، فقُبِضَ على طائفة من رجاله، قال محدثي — والعهدة في الرواية عليه: فأصبح يومًا فإذا نساء الحي يصرخن ويولولن ويندبن ويصحن: «يخرب بيتك يا عويني.»
فخيف أن يفضي ذلك إلى اعتقال الباقين وإلى إحباط التدبير كله، فتولى العويني الإنفاق على السجناء وعلى أهليهم الطلقاء — أمهاتهم وزوجاتهم وإخوانهم … إلخ — وأحكم أمره وسارت الأمور على خير ما يرجى في مثل هذه الأحوال، وكانت الأُسرات التي اضطر أن يعولها كثيرة وفقيرة، فأرقته واستنزفت موارده فلم يسعه إلا أن يصفي تجارته — أو ما بقي منها — وأن يرحل.
فقصد إلى الآستانة وفي مأموله أن يبدأ حياته من جديد، ومكث هناك شهورًا ثم ألفى نفسه يُنفِق ولا يَربَح، فاحتمل حقائبه ومضى إلى جدة وأنشأ فيها وكالة لتاجر سوري كبير، وظل كذلك ثلاث سنوات حتى استطاع أن يقف على قدميه وأن ينشئ لنفسه تجارة مستقلة.
وهو يستورد المتاجر بالجملة ويفرقها على التجار، فإذا جاء يوم الجمعة أنقدوه أثمان ما باعهم، وقد أخبرني محدثي — ولي به ثقة — أن متوسط ما يجمعه من التجار في كل يوم جمعة يبلغ أربعة آلاف جنيه، لا أدري كم يكون ربحه منها، وقد ذكرت ذلك لأُعِين القارئ على تصور مبلغ النجاح الذي أحرزه والذي يستحق أضعافه، لنشاطه ودُءوبه وكَدِّهِ، وقد كنا نفتح عيوننا في الصباح ونتثاءب ونتمطَّى على حين يكون هو قد لبس بذلته «الإفرنجية» ولا ينقصه إلا أن يضع على رأسه الحرام الحريري الأبيض والعقال.
ولولا وجودنا وكوننا ضيوفه لكان قد خرج إلى عمله قبل ذلك بساعات، ولكنه كان مضطرًّا أن يتأخر حتى يُفْطِرَ معنا، وكنت أعجب بلباقته وكياسته وحذقه في حثنا على النهوض والإفطار من غير أن يشعرنا أنه قلق على عمله وأنه يريد أن يخرج ليباشره.
وكان العويني يبدو لنا كأنه كل شيء: الحكومة والرعية جميعًا؛ فهو الذي يعهدون إليه في تنظيم كل أمر ويكلون إليه الإشراف عليه ويعتدونه مسئولًا عنه، فما احتجنا إلى شيء إلا قلنا: أين العويني؟ ولا أرادت الحكومة شيئًا إلا قالت: هاتوا العويني. ولا ناقة له في ذلك كله ولا جمل، ولكنه النشاط وحسن التدبير والسرعة الرائعة في إنجاز الأمور وحضور الذهن واتقاد الخاطر.
وكان يساكنه شاب آخر في مثل سنه أو أقل — بل هو أصغر على التحقيق — اسمه إبراهيم أفندي شاكر، حسبناه أول الأمر أخاه ثم عرفنا أنه صديقه ووكيله، وهو حجازي صميم، كان سكرتيرًا خاصًّا للملك السابق على بن الحسين، وإبراهيم أفندي كصاحبه العويني في النشاط والرقة، ولكنه ساكن وادع الطائر طويل الصمت، يمر بك كالنسيم الواني، والنظرة إلى وجهه تنعش الروح وتحيي النفس، والجلوس معه يشيع في صدرك الطمأنينة والإحساس بالراحة التامة، وهو مع سكونه دائم الحركة لا يكل ولا يمل ولا يتأفف ولا يكون إلا مفتر الثغر.
وفي بيت العويني أيضًا كان من حظي أن عرفت خالد بك الحكيم، وكان يلبس جبة وقفطانًا، وعلى رأسه الحرام والعقال، وهو رجل ضخم عليه مهابة ووقار، وفي عينه الْتماع عجيب ولحديثه سِحر، وهو سوري من كبار المجاهدين، تخرَّج في المدرسة الحربية في الآستانة وخاض حروبًا شتى في أوروبا وآسيا وإفريقية — طرابلس — وكان مع جيش ابن السعود الذي فتح الحجاز، ويسمونه «الغطاس» لأنه يكون اليوم معك وتفترقان على أن تلتقيا غدًا، وإذا به غدًا في الشام أو اليمن أو بمباي، ولا يدري سواه أي طريق سلك، ولا علم لأحد بما كان ينوي، وهو بكل بلد أعرف من أهله وأنفذ بصيرة في حاضره ومستقبله، والعَشرة من أمثاله يعادلون أمة، ولقد لقيتُه بعد ذلك في مصر فما ازددت إلا إكبارًا له وإيمانًا به، إكبارًا لقوته الصامتة وجلَده على الحياة وتواضعه المحبَّب وإخلاصه وصراحته، وإيمانًا بعظمة روحه.
وفي بيت العويني جاءتنا هدايا الأمير، وكان صديق لنا قد أَسَرَّ إلى أننا سنتلقى هدية، فسألته عنها أي شيء هي؟ قال عباءة وعقال وما إلى ذلك. فقلت: إذا كانت هذه هي الهدية فمرحبًا بها وليعجلوا، فسألني: «وإذا كان هناك غيرها؟»
قلت: «ماذا تعني؟»
قال: «أعني أن من عادة العرب إذا حل بهم ضيف أن يُهْدُوا ويَهَبُوا ويَصِلُوا.»
قلت: «إن من المعقول أن تكون هذه عادتهم؛ فإن البدوي في الحقيقة فقير معدم، وطلبته الطعام والكسوة والمال، فطبيعي أن يكرم العرب الضيف أي أن يطعموه ويكسوه ويصلوه، ولكنَّا لسنا بدوًا. وإني لأشتهي أن تكون لي عباءة وعقال، ولكن هذا ليس لأني عارٍ مفتقر إلى الكسوة، بل لأني أعتدُّ هذه الثياب قنية تستحق أن تُدَّخَرَ، أما الصلة أي المال فبالله عليك إلا ما صرفتهم عنه، لئلا يحرجونا ويحرجوا أنفسهم، فإني لا أرضى أن أخذ مالًا لا أستحقه، ثم إني أستحي أن أرد عطاء أمير، ولكني سأكون مضطرًّا أن أرده لأنه لا يسعني إلا أن أعده في مثل هذا الموقف رشوة أربأ بنفسي وبالحكومة السعودية عنها، وقد بالغت الحكومة في إكرامنا وأنفقت على رحلتنا هذه بضعة آلاف من الجنيهات، ودفعت عنا حتى أجور التلغرافات التي بعثنا بها إلى صحفنا، وهذا كله فوق الكفاية، ثم إن ما شاهدناه كان له وقع جميل في نفوسنا فلا يفسدوا هذا الوقع بالرشوة، وأنا مقترح عليك بديلًا منها: فإني أشتهي بلح المدينة المشهور، فإذا كان يسعهم أن يخاطبوا المدينة بالتليفون لترسل إلينا في ينبع قليلًا من البلح، فإن هذا يكون خليًّا من كل مال.»
وقد استشار صاحبي زميلًا آخر لي فنصح له بمثل ذلك، فعاد إليهم صاحبنا وحملهم على الامتناع عن وصلنا بالمال، وعلى الاكتفاء بالكسوة العربية والبلح. والكسوة عبارة عن معطف مصنوع من الكشمير وعباءة سميكة من الصوف الجيد محلاة ومزركشة بما لا أدري، وعقال من الحرير مفضض وحرام من الكشمير، وقطعة من السكروتة. وقد احتجت أن أقصر هذه الثياب لأستطيع لبسها والانتفاع بها.
وفي ينبع ونحن عائدون أبى الأمير إلا أن يستقبلنا — كأنَّا كنا مثله أمراء — في سرادق عظيم أُلقِيَتْ فيه الخطب وأُنشِدَت القصائد، ثم تغدينا وأكلنا خرافًا حقيقية لا شك فيها ولا في رءوسها ولا في أمخاخها، وبلغ من حفاوتهم بنا أن كبار القوم هم الذين يتولون خدمتنا على الطعام.
ثم عدنا إلى الباخرة حيث وجدنا بلح المدينة في «صفائح» بعددنا، بل بأكثر من عددنا، ففرقنا ما زاد واحتفظنا بأنصبتنا، ورسونا في الطور ساعات وطفنا به وشاهدنا ما فيه من البنى والمعدات الوافية، ثم عدنا بسلامة الله.
ولكن رحلتنا ونحن عائدون كانت فاترة؛ فقد كان ينقصنا نبيه بك العظمة وخير الدين أفندي الزركلي، فقد تخلفا في جدة.