خاتمة
العرب أمتان في أمة، أو هم على الأصح ثلاث أمم: واحدة تعيش في الحواضر على نحو ما تعيش أمثالها في كل بلاد العالم، وهذه خليط من شعوب شتى، فيها المصري والسوري والفارسي والهندي والجاوي … إلخ، وقد لقيت في جدة ومكة كثيرين من التجار والأعيان علمت منهم أن أصولهم مصرية وأن لبعضهم في مصر أقارب ومصالح وأملاك، وحدثني كبير في الحكومة السعودية أنه عني بالبحث والتنقيب عن أجناس الأهالي فعرف نحو مائتي أسرة مصرية استوطنت الحجاز واستقرت فيه من زمن بعيد أو قريب، ولكن الشبان المصريين هناك قليلون، وهم في حكومة الحجاز يُعَدُّونَ على الأصابع؛ ولهذا عدة أسباب: أن السوريين وهم أقرب إلى بلاد العرب وأوثق بها صلة زاحموهم فغلبوهم، للسوريين آمال قومية يعتمدون في تحقيقها — في جملة ما يعتمدون عليه — على السعوديين، وقد انتفع السعوديون بالمهندسين والضباط وغيرهم ممن تلقوا علومهم في معاهد الآستانة وشردتهم عن سوريا الأحوال السياسية، ودفعت بهم مساعيهم القومية إلى الصحراء. وبين السوريين من ليسوا من الأوساط العاديين، وإنما هم من ذوي الصلابة وأولي العزم والقوة؛ فلا بدع إذا غلبوا المصريين القليلين الذين ذهبوا في السنوات الأخيرة فلم يجدوا ما كانوا يأملون من الغنى السريع أو الرزق الوافر أو غير ذلك فعاد أكثرهم، ومصر أرقى حضارة من سورية، والترف فيها أوفر والحياة فيها أنعم؛ ولهذا كان السوري لا يحس في الحجاز أنه نزل عن شيء من مظاهر حياته على خلاف المصري الذي لا يجد هناك ما خلَّفه في وطنه من المناعم والملاهي.
على أني لست في مقام التقصي للأسباب التي أدت إلى ضعف العنصر المصري في الحكومة الحجازية، وإنما أردت بما ذكرت أن أبين أن لهذا أسبابًا معقولة.
والأمة الثانية: القبائل المقيمة على المياه الثابتة وهذه تشتغل بالزراعة إلى حَدٍّ ما، وبالرعي وبالقليل من الصناعات الساذجة، ومواطن هذه القبائل ثابتة. ومحلاتها وعشائرها وبطونها وأفخاذها تكاد تكون مضبوطة الحدود على العموم.
ومن هذه تخرج أمة ثالثة هم البدو الرُّحَّل الذين لا يستقرون في مكان ولا يزالون يتحولون من هنا إلى هناك.
وقد أدرك ابن السعود بفطرته الزكية أن هذه البداوة هي آفة الأمة العربية، وعلمته التجارب أن البدو لا خير فيهم في حرب ولا في سلم. فهم في الحرب لا يكادون يبصرون الجمال النافرة من قعقعة السلاح أو صوت الرصاص حتى ينفضوا أيديهم من القتال ويذهبوا يَعْدُون وراء الجمال وما إليها ليغنموها، ومن أجل هذ كان يعتمد في حروبه على الجنود النظاميين المدربين لا على البدو. وكان يقدم البدو في المعارك ويضع جيشه النظامي وراءهم ليمنع البدو أن يفروا وراء المغانم والأسلاب قبل أن تنتهي المعركة. أما في السلم فهم عالة عليه وعلى حكومته لأنهم لا يُحسنون صناعة أو زراعة. وما دام للواحد منهم راحلة فهو ينطلق بها إلى حيث تنازعه نفسه ولا يطيق أن يستقر في مكان؛ ولهذا فكر في تحضيرهم وإخراجهم من هذه البداوة فانتقى لهم المواقع التي يكون فيها الماء وحفر لهم الآبار وأوسعها أو أصلحها، وألزمهم أن يبيعوا خيلهم أو جمالهم وأن يشتغلوا بالزراعة والصناعة ليتسنى له أن يجعل منهم أمة وأن ينظم أمورهم وأن يقيم الحكم فيهم على قواعده الصحيحة وأن يعلمهم ويثقفهم. وتسمى هذه المواقع التي اختارها لهم وألزمهم الإقامة بها والعمل فيها «الهُجَر» بضم الهاء وفتح الجيم جمع هجرة، وذاك أعظم عمل يباشره وأجل مهمة يزاولها.
وعلى هذا النحو العملي يحل ابن السعود مشاكله العديدة؛ فالحجاز مثلًا — على حضارته نسبيًّا — صحراء جرداء، والماء أكبر ما يحتاج إليه وأول ما ينقصه، وقد كانت فيه آبار وعيون كثيرة هدمها الأتراك وخربها الأشراف — كُلٌّ بدوره — وكانت قرب جدة بئر الوزيرية، وهذه وحدها كانت تكفي جدة، وقد ذهبت معالمها ودرست آثارها؛ ولذلك جاءت الحكومة لينبع وجدة بآلات لتقطير مياه البحر، واشترت أخيرًا آلة كهذه لجدة تقطر في اليوم مائة وخمسين طنًّا من الماء، وأصلحت الصهاريج التي يخزن بها مياه الأمطار، ومضت تجدد الآبار الدارسة وتكشف عن العيون التي سُدَّتْ أو خُرِّبَتْ، ووجدت أن الآبار قليلة الغناء لأنها تجف وتنشف في بعض الفصول، فاتخذت الآبار الأرتوازية، وجلبت الآلات لاستنباط الماء من جوف الأرض، ومما يذكر في هذا الصدد أنها استدعت اثنين من المهندسين المصريين لاختيار المواقع التي يحسُن اتخاذ الآبار الأرتوازية فيها، غير أن معداتهما لم تكن كافية فعادَا، وقد أوصت الحكومة السعودية باستدعاء اثنين من المهندسين الغربيين، والمرجح أن يكون اختيارهما ممن لهم خبرة بالجزائر لتشابه طبيعة البلدين.
وعملت الحكومة على إصلاح عين زبيدة بإنشاء خزان ومد أنابيب، وهي تبني خزانًا كبيرًا آخر لجمع مياه المطر يسع مائة ألف طن، وموقعه لا يتطلب نفقات كبيرة لأنها اختارته في مكان تحيط به الجبال من ثلاث جهات فالحاجة لا تدعو إلى البناء إلا من ناحية واحدة.
ومن أجل الماء تعفي الحكومة كل الآلات التي تُتَّخَذُ لاستنباطه من الرسوم الجمركية. وكذلك آلات الزراعة، بل هي تقسط أثمانها على الأهالي تشجيعًا ومعاونة لهم. ومن أجل الماء تُعنَى بالتعليم الهندسي؛ ولذلك أرسلت إلى الآستانة طالبًا يتعلم الهندسة، وبعثت إلى برلين بآخر. والحجاز كمصر ينبغي أن يكون بلاد الهندسة والمهندسين البارعين.
ولما كانت البلاد صحراء والمسافات فيها طويلة؛ فقد اتخذت الحكومة السيارات وشجعت على اقتنائها، وقد دخل السعوديون الحجاز وليس فيه سوى سيارة واحدة يملكها الملك حسين السابق، وفي الحجاز الآن ألف سيارة ومائتان. والبريد ينقل بين جدة ومكة وبين جدة والمدينة على السيارات مرتين في اليوم. والشرطة يتخذونها للمرور والعسس، والجند كذلك للانتقال والحمل. وقد بدأ استعمال السيارات بين الحجاز ونجد، ولا بد لذلك كله من الأمن وإلا فسد الأمر كله. ومن هنا قَسَا ابن السعود في أول الأمر، فصار يقطع يد السارق فازدجر اللصوص وقُطَّاع الطرق، وأدَّب العشائر التي تسطو على الحجاج، فساد الأمن وصار مضرب الأمثال بلا أقل مبالغة، وقد رأيت بعينيْ رأسي شواهد رائعة وأدلة مدهشة.
ومن أجل طول المسافات وتقاذف الأبعاد اتُّخِذَت الطيارات واللاسلكي فضلًا عن التلغراف السلكي المعتاد، وللَّاسلكي الآن أربعة عشر مركزًا. وقد أنشأت الحكومة مركزًا جديدًا في جزيرة دارين، وهم ينشئون شبكة لاسلكية لها ثلاثة عشر مركزًا ثابتًا للتلغراف والتليفون اللاسلكي؛ وذلك لوصول الرياض ومكة والمدينة وكل مركز في الألوية والأقضية.
ولم يتخذوا القُطُر البخارية لأن تكاليفها باهظة لا تقوى عليها الميزانية، ولأنهم من ناحية أخري يحرصون على أن لا يقطعون أرزاق الجَمَّالة، على أنهم فكروا في إنشاء خط كهربائي بين جدة ومكة، وأصلحوا الطرق وعبَّدوها وكبسوها بواسطة «وابور الزلط» كما نسميه في مصر.
ومن أجل الحج واتقاءً لتفشي الأمراض أنشَئوا في مكة مستشفى يسع مائتي مريض، وجعلوا فيه أقسامًا للجراحة والأمراض الباطنية وغير ذلك، ولهم الآن عشرون طبيبًا حجازيًّا، وأقاموا محطة للحجاج في بحرة بين جدة ومكة وفيها مستشفى، فضلًا عن المحطات الأخرى للراحة، وأصلحوا الكرنتينة ورتَّبُوا دوريات صحية وبنوا المظلات في عرفات ومِنَى وجهزوها بالماء والثلج وأقاموا في كل منها طبيبًا وممرضًا.
والحكومة تلقِّح الناس ضد الجدري، وقد أنشأت معملًا للحصول على مصول الجدري والكوليرا والتيفوئيد، وأرسلت بعثات طبية للخارج، واستعارت طبيبًا هولنديًّا وبدأت توسع مستشفى جدة.
وقد حُقِنَّا بمصلي الكوليرا والتيفوئيد قبل سفرنا من السويس، ولكن هذه الأمراض لا أثر لها هناك، على الأقل في هذه الأيام. وعلى أن مصلحة الصحة المصرية تعلن منذ سنوات أن الحج نظيف.
أما من حيث التعليم فللحجاز بعثةٌ في مصر مؤلَّفة من خمسة وعشرين تلميذًا وطالبًا فضلًا عن البعثات الهندسية والطبية التي أشرنا إليها. وقد أنشأت الحكومة مدارس أولية وابتدائية في جدة ومكة والمدينة وينبع وغيرها، ومدرستين ثانويتين في مكة وأخرى في المدينة، وأربعة في جدة. وهذا غير المعهد السعودي في مكة وغير مدرسة المطوفين التي أنشأتها كما أنشأنا في مصر مدرسة الأدِلَّاء والتراجمة، وغير المدارس الدينية التي لا تعد مدارس حديثة.
وبهذه الطريقة العملية يحل ابن السعود مشاكل بلاده، ويعالج ترقيتها، وقد تبدو الخطى قصيرة ولكنها مناسبة لحالة البلاد وتعداد أهلها. والمال هو العقبة الكبرى ولكن الحكومة لا تتعجل ولا تذهب إلى إثقال كاهل الناس بالضرائب من أجل ذلك، وشعارها أن العجلة من الشيطان. ولكن خطاها وطيدة مستمرة كخطى السلحفاة التي سبقت الأرنب، والأرنب عندي هو مصر. ولقد عدت من الحجاز وأنا مقتنع بأن مصر إذا ظلت تتخبط وتولي الشئون السياسية هذا الحظ الباهظ من رعايتها على حساب المرافق الجدية والمراشد الحيوية؛ فسيسبقها الحجاز بلا أدنى ريب.