المدرسة والجامعة
في مجتمعنا الحاضر المدرسة ضرورة لكل فرد من الجنسين، وفي مجتمع راقٍ ننتظره ونحلم به، سوف تُعَدُّ الجامعة ضرورة أيضًا لكل فرد من الجنسين، ولكن المدارس على ضرورتها ليست عامة في مصر، أما الجامعة فمقصورة على نحو خمسين ألفًا من أبناء الأثرياء والمتيسرين.
وكلنا نعرف أن ما نحصل عليه في المدارس من المعارف مقدار صغير، إزاء الحاجات التي تطلبنا بها الحياة؛ ولذلك فإننا نحس الجهل في مواجهة الصعاب، كما نحس الحاجة إلى الدراسة، والتعليم المدرسي يتناول طائفة من المعارف تُعَدُّ أساسية في التثقيف، ولكن المدرسة مع ذلك تعامل جميع التلاميذ كما لو كانوا على قامات متساوية، يحتاجون إلى قطع لا تختلف من القماش، كي تصنع لكل منهم بذلة خاصة له، ولما كان كل إنسان فذًّا في هذه الدنيا، فهو محتاج إلى معارف تتفق وكفاياته وحاجاته الخاصة، فالبرنامج التعليمي الذي يُوضع لمليون صبي أو شاب لا يمكن أن يؤدي حاجات كل صبي وكل شاب إلا على وجه عام نتجاهل فيه الخصائص والميزات التي لكل فرد.
ثم هذه المعارف التي نحصل عليها في المدارس، حتى مع الدقة في اختيارها، إنما تعد أساسًا نبني عليه حين نخرج من المدرسة، فإذا ركدنا فإن هذا الأساس لن يغني؛ فنحن في حاجة — عقب المدرسة، بل عقب الجامعة — إلى أن نوالي الدراسة، والمعلم الممتاز هو ذلك الذي لا يقتصر على إيصال المعارف إلى أذهان تلاميذه، بل يضع لهم الخطط للدراسة بحيث يمكنهم أن يستغنوا عنه وأن يُعَلِّمُوا أنفسهم مستقلين مدى حياتهم، وقل أن نجد مثل هذا المعلم، ومجتمعنا في تطوره السريع في حاجة إلى جمهور مثقف، في نشاط ذهني مستمر؛ كي يستطيع حل المشكلات الطارئة، وكي يحول دون وثوب الطغاة من المستعمرين الأجانب ومن المستبدين المصريين، يزعمون القدرة على ترقية الأمة بإنكار حقوقها. والجمهور الجاهل هو أعظم الوسائل لتجرئة الوصوليين والمستبدين على الطغيان؛ لأنه سريع الانقياد، ينخدع بالألفاظ البراقة والادعاءات الرنَّانة وبهلوانية المنابر.
ومن هنا قيمة الكِتاب والجريدة والمجلة؛ فإننا نعيش — بعد المدرسة والجامعة — نحو خمسين سنة وهي غذاؤنا الذهني ووسيلة رقينا الثقافي، فلن نبلغ النضج ما لم تكن القراءة — لا بل الدراسة — عادتنا، وما لم ننفق على تثقيف أذهاننا بمثل السخاء الذي ننفق به على شراء حاجاتنا المادية.
والمجتمع الراقي يؤمن بحرية الثقافة، وهو يسن من القوانين ويضع من الأنظمة ما يساعد على رواج الكتب والمجلات، بل الجرائد أيضًا. وفي الأمم الديمقراطية الأوروبية نجد آلاف المكتبات التي تشتري الكتب، وتشترك في المجلات والجرائد السيارة، زيادة على ما يشتريه الأفراد؛ فالنشاط الذهني يجد السوق الرائجة في تلك الأمم لمنتجاته، وإذا دخل أحدنا بيتًا أوروبيًّا وجد الكتب تزين كل غرفة فيه تقريبًا، بل لقد رأيت في لندن حتى الممر الضيق إلى المطبخ يحمل رفًّا من الكتب لا يقل ما فيه عن مئتي مجلد، وهذا إلى التباهي باقتناء الكتب الجديدة ووضعها على الموائد في الصالونات، كأنها من الأثاث الفاخر.
ولهذا السبب كثيرًا ما نجد فيلسوفًا عظيمًا في أوروبا لم يتعلم قَطُّ في جامعة، بل إن تعليمه في المدرسة كان ناقصًا، فهذا مثلًا هربرت سبنسر فيلسوف الإنجليز لم يحصل على تعليم ابتدائي كامل، بل لقد عاش نحو ثمانين سنة وهو يفخر بأنه لم يتعلم «الأجرومية»، وكذلك برناردشو أيضًا، بل يمكن أن نذكر عشرات الزعماء من الساسة والأدباء ممَّنْ لم يتعلموا في مدرسة أو جامعة، ولكن المجتمع الراقي الذي عاشوا فيه هيَّأَ لهم جامعة كبري من الكتب والمجلات التي درسوها، فنَمَتْ أذهانهم، وحصلوا منها على النضج الثقافي الذي ربما لم يبلغه خريجو الجامعات.
فإذا كان قارئ هذا الكتاب لم يحصل على تعليم مدرسي أو جامعي وافٍ، فإنه سيجد هنا برنامجًا وافيًا لدراسة ذاتية يستطيع بها أن يرقي شخصيته وينمي ذهنه بحيث لن يأسف على ما فاته، وإذا كان القارئ من السعداء الذين حصلوا على تعليم جامعي، فإنه سيجد هنا أيضًا ما يحثه على أن يكون طالبًا مدى عمره، بل يجب على خريج الجامعة أن يذكر أن سرعة النمو في المعارف تجعل حتمًا عليه أن يتجدد بالدراسة الدائمة؛ فإن الطبيب الذي تخرج مثلًا حوالي ١٩٠٨ أو ١٩١٨، وبقي يمارس الطب إلى الآن، لا يكاد يجد دواء يُوصَفُ لمريض في الوقت الحاضر ممَّا كان يعرف قبل ١٩١٨؛ لأن جميع الأدوية تقريبًا جديدة، وحسبنا أن نذكر منها الفيتامينات، والهورمونات مثل الأنسولين، ثم المضادات الحيوية، ومجموعة السولفاناميد، وغيرها. هذا عدا الأمصال الواقية؛ فإن كل هذه الأشياء لم يعرفها في الجامعة، وهو إذا كان قد جمد وكف عن الدراسة عقب الجامعة فإنه قد عاش بعد ذلك جاهلًا لحرفته.
وهكذا الشأن في سائر المعارف؛ فإنها دائمة التجدد، تطالب من تخصصوا فيها بمتابعة الدراسة، ولنذكر مثلًا الطاقة الذرية.
والغاية من هذا الكتاب هي أن نوضح للقارئ ميزات الثقافة، وخير الأساليب التي يجب أن تتبع في تحصيلها؛ إذ لو عرف الشاب أن هناك لذة سامية في الدراسة والتوسع الذهني تزيد على ما يجد من لذة اللهو السخيف، أو حتى في القراءة جزافًا، لما أهمل تثقيف ذهنه، ولما تأخَّر لحظة عن وضع البرنامج وتحمل التكاليف لهذا التثقيف.
وأرجو أن يجد القارئ هنا إيحاء وإرشادًا معًا، فينبعث إلى الدراسة، ويجد في الوقت نفسه نظامًا يتبعه، وليس الغرض من هذا الكتاب التثقيف من أجل الحرفة، وإنما أرجو به أن أحمل الشاب على أن يتعوَّد الدراسة وهو لا يزال في شبابه حتى إذا بلغ الخمسين أو الستين كانت عادته اللازمة التي تضعه في تساؤل استطلاعي طيلة حياته، وأحب أن أحمله أيضًا على أن يحس أن الدراسة في الشباب تغير أمداء مستقبله، وتفتح له أبوابًا في رقيه كانت تكون موصدة لولا هذه الدراسة.