ماهية الثقافة
الثقافة هي ما نفكر به، والحضارة هي ما نعمل به.
ولكن هذا التعريف ليس دقيقًا؛ فإن من الصحيح مثلًا أن معارفي أنا عن القوة الكهربائية التي نستخدمها في الإضاءة والحركة والاستماع الرديوفوني والرؤية السينمائية، بل للتدفئة والعلاج الشعاعي وغير ذلك، هذه المعارف هي ثقافة عندي؛ لأني لا أمارس بيدي شيئًا من هذه الوسائل التي نستخدم بها القوة الكهربائية، وقصارى ما أتصل به منها هو المعرفة الذهنية، ولكن المهندس الكهربائي يعرفها حضارة وثقافة عامة معًا؛ لأنه يفكر ويعمل بها معًا.
وفي مجتمع أمثل لما نصل إليه، تصير الثقافة والحضارة شيئًا واحدًا في كثير من الشئون؛ لأن جميع الناس يتعلَّمُون ويرتقون، فلا تكون هناك أشياء راقية يقرءون عنها في الكتب ولا يرونها في المعيشة.
انظر مثلًا إلى المتاحف، تجمع بين جدرانها عشرات أو مئات الرسوم والتماثيل، يدخلها الجمهور من أبواب عليها حرس، فيتنزه المتفرج برؤية الألوان العديدة من الجمال الفني، ثم يخرج بعد هذا الاستمتاع الثقافي إلى منزله، حيث الحرمان من صورة أو تمثال، فهنا الثقافة تختلف عن الحضارة؛ فان الأولى مخزونة في متحف، والثانية معروضة في البيت.
ولكن المجتمع الأمثل هو الذي يجعل كل بيت من بيوتنا متحفًا، بل يجعل المدينة بشوارعها وجدرانها حافلة بالتماثيل والصور والمباني الأنيقة، وعندئذٍ تكون الثقافة هي نفسها الحضارة.
ولكنَّنَا نعيش في العصر الحاضر في فاقة فنية، لا نعرف من الفنون سوى صورها الفوتوغرافية في الكتب، أو نماذج منها في المتاحف.
فنتحدث عنها ونناقش موضوعاتها كما يتحدَّث الفقير وهو يأكل من طبق المدمس المفرد عن الموائد المطهمة التي تحمل ألوانًا عديدة من فاخر المملكتين الحيوانية والنباتية في بيوت الأثرياء.
ولكن الثقافة، هذا التراث البشري الذي تكوَّن لنا فيما لا يقل عن خمسين ألف سنة، أي منذ اكتشاف النار، يجب أن نُلِمَّ بها ونمتلكها بالدراسة؛ أي يجب أن نعرف تاريخنا وتاريخ الأرض التي نعيش عليها، وتاريخ الأمم من الصين إلى فنلندا ومن أوغندا إلى ألمانيا، ويجب أن نعرف العلوم والآداب والأديان التي استمتع أو امتهن بها الإنسان، ونحن في هذه الدراسات لن نتجاوز التفكير، وصحيح أن تفكيرنا يؤثر في الحضارة؛ لأننا نخرج منه بأن نقول كما قال سقراط: «لست أثينيًّا ولا يونانيًّا إنما وطني هو العالم»، ولكن المعارف التي نجمعها لهذا التفكير تختلف عن المعارف التي يجمعها المهندس الكهربائي لتمديد أسلاك التليفون أو لإضاءة منزل، على أننا مع ذلك يجب أن نعترف أن الاختلاف هنا في الدرجة وليس في النوع؛ لأن المجتمع الأمثل هو المجتمع العالمي الذي يهتم بشئون العالم كله وليس بشئون قطر معين، وعندئذٍ تصير الثقافة البشرية جميعها تراثًا عامًّا يجب أن يستمتع به كل من يسكن على هذا الكوكب، وعندئذٍ أيضًا تصير الثقافة هي الحضارة.
ومنَّا قليلون يبلغون هذه الدرجة حتى في عصرنا، حضارتهم هي ثقافتهم وثقافتهم هي حضارتهم، نعني أولئك الذين تغيروا أو تطوروا حتى طابقوا بين مصالحهم ومصالح البشر، وأصبح لهم دين، وتربَّى لهم ضمير، حتى ليفكر أحدهم بقلبه ويحس بعقله، ويهتم بشئون العالم كما يهتم بمصلحة نفسه وبيته ووطنه، وينظر من خلال المحن الاقتصادية في الصين أو الهند أو مصر إلى لوحة التاريخ العالمي، فينتهي إلى أن التطور منطق مبتكر يلائم الوسط وليست مجموعة من العقائد والشعائر المحنطة ومومياءات الأفكار القديمة، وحين نبلغ هذه الدرجة، نعيش ولنا اهتمامات حيوية تنبِّه الضمير وتستفز الذهن إلى التفكير، ومتى وصلنا إلى هذه الحال عشنا في الدنيا وعنينا بالدنيا وملكنا الدنيا نصلحها ونربيها كما يصلح ويربي أحدنا في العصر الحاضر على المستوى المنخفض حديقته الخاصة.
إذا لم يُعْنَ الأبرار بالشئون العامة فإنهم يُعَاقَبُونَ على هذا الإهمال بخضوعهم لحكم الأشرار.
ولكن العناية بالشئون العامة تحتاج إلى الثقافة العامة، والشئون العامة للرجل الناضج في عصرنا هي شئون العالم كله؛ لأن العالم قد بات مرتبطًا، بحيث إن الشر الاستبدادي في الصين ينتقل إلى مصر كما أن الوباء الميكروبي في قُطر يتفشى إلى أقطار أخرى.
فالصيانة العامة من الشرور والأمراض لا يمكن أن تتجزأ، والثقافة العامة وحدها هي التي تكفل لنا هذه الصيانة.
ولكي نعيش في سلامة الضمير والجسم والذهن يجب أن نكون مثقفين، ننشد الثقافة العالمية لإيجاد حضارة عالمية.