قيمة الثقافة وغايتها
لن نحدد في هذا الفصل قيمة الثقافة وغايتها؛ لأن جميع فصول هذا الكتاب تتناول هذين الموضوعين، وإنما نقصد هنا إلى إيضاح بعض النواحي البارزة لهما.
فللثقافة قيمة اجتماعية وعالمية وبشرية، فالأمة التي ترقد ثقافتها، وتستحيل إلى قواعد وأساليب، يركد مجتمعها وتقف جامدة بعيدة عن الرقي، وقد حدث هذا في القرون الوسطى، بل إن هذه الحال لا تزال قائمة أيضًا في بعض الأمم في أسيا وأفريقيا، والوسط الزراعي، بالعجز الذي يشعر به المشتغلون بالزراعة والمنتفعون منها؛ لأنهم لا يعرفون في هذا الوسط طرقًا جديدة للتطور، هذا العجز يحدث جمودًا في الثقافة والحضارة، وقصارى ما نجد في الوسط الزراعي ثقافة دينية تقليدية وآدابًا أسلوبية، ولكن إذا كانت الأمة تمارس التجارة — ونعني التجارة العالمية أو التي تمتد إلى أقطار بعيدة — مع اشتغالها بالزراعة؛ فإن الاختلاط التجاري بالأقطار الأخرى ينبه الأمة ويبعث الحيوية في الثقافة، وعندما نتأمل القرون المظلمة في أوروبا، بين ٥٠٠ و١٠٠٠ بعد الميلاد، نجد أنها ترجع إلى أن الثقافة، بعد أن كانت عالمية تجارية أيام الرومان، تغتذي بالتنبيه المتواصل من التجارة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، قد عادت فانحصرت في القرية، فصارت ثقافة زراعية دينية تقليدية.
وأكثر من التجارة في تنبيه الثقافة هو الصناعة؛ لأنها فنون وعلوم مختلفة، ويمكننا أن نجزم بالقول بأن في عصرنا الحاضر لا يمكن أمة أن تكون متمدِّنة ومثقفة إلا إذا كانت أمة صناعية، وحسب القارئ أن يقارن بين أمة تعيش وتتجر بزراعة الذرة والقمح، وأخرى تعيش وتتجر بصنع الأتومبيل والرديوفون أيتهما أوسع معارف وثقافة؟ وأين تجد العلوم المختلفة من الكيمياء إلى الفيزياء إلى الميكانيات إلى الكهرباء إلى غيرها؟ لا شك أن هذه العلوم تجد وطنها في الأمة الصناعية، وليس هناك سلاح أمضى عند الأمم الإمبراطورية حين تريد أن تحكم شعبًا وتستغله، وتبقيه في جهالة أبدية، من أن تحرمه من الصناعة وتقصر نشاطه على الزراعة؛ لأن العلوم العصرية عندئذٍ لا تجد السوق التي تكسبها الثمن العالي وتبعث المنافسة على تعلمها، ثم إن حرية الفكر تنمو في الوسط الصناعي لأن قاعدته الابتكار والاختراع والمعارف، وهي تموت أو تركد في الوسط الزراعي لأن عُدَّتَهُ التقاليد والعقائد والسنن.
وهذا كله كلام عام عن الثقافة، وكنا نحب أن نتوسع فيه، ولكن غرضنا من تأليف هذا الكتاب هو قبل كل شيء الإرشاد العملي للشاب في تثقيفه الذاتي، فنحن في حاجة إلى أن نبرز الفوائد التي تعود عليه من الثقافة، حتى يجد في هذه الفوائد الحوافز إلى الدرس واقتناء الكتب.
فنحن نثقِّف عقولنا كي نجعل العمر البيولوجي يمتد إلى العمر الجيولوجي؛ أي إن العمر الذي لا يتجاوز ٧٠ أو ٨٠ عامًا يعود بالدراسة وكأنه مليون عام، فالمثقف يدرس التاريخ البشري وما سبق البشر، ويعرف التطورات التي تغيرت بها الأرض والنبات والحيوان، وهذه الدراسة التي لن تنقطع مدى الحياة توحي إلينا قداسة دينية ورغبة في الخير والرقي، وتطلعًا إلى المستقبل مع التفاؤل، وشعورًا ليس بالتضامن البشري فقط بل باحترام الحياة كلها.
وكذلك نثقف عقولنا بدرس المشكلات العالمية والقطرية كي نقف على «العقل العام» ونشترك فيه، فنميز بين هذه المشكلات بدراستنا أو نحمل لواء الكفاح في حلها وتغير المجتمع حتى يزول المرض والفقر والجهل والحرب والتعصب، وهذا «العقل العام» يجعلنا بشريين، لنا اهتمامات بما في نيويورك وبكين وبومباي والقاهرة وباريس، ويجعل كل إنسان منَّا إنسانيًّا.
وهذه الدراسة تكسبنا الشخصية المتطورة، ولن تستطيع أن تكون شخصًا متطورًا إلا إذا كنت دائم الدراسة، تغير ذهنك بالمعارف الجديدة التي لا تفتأ تزودك بها العلوم.
وبعد هذا يجب أن نذكر أنَّك ستصل يومًا ما إلى الشيخوخة، وعلى الرغم من كل ما يقال، ليس شيء في هذه الدنيا أسوأ من الموت سوى الشيخوخة الهامدة المريضة الجامدة، وخير وسيلة نستعد بها للشيخوخة هي الثقافة، فيجب على كل منَّا أن يمهد الطريق الذي سيسير عليه في المستقبل حين يتجاوز الستين، فإذا كنَّا قد عنينا أيام الشباب باعتناق الثقافة واعتياد الدراسة، فإننا ندخل في طور الشيخوخة ومسام عقولنا مفتحة، لنا عشرات من الاهتمامات الاجتماعية والاقتصادية والفلسفية والعلمية والأدبية، بل ربما تكون الثقافة قد اختمرت وتبلورت إلى عمل وكفاح، يجدِّدان الحياة في الشيخ، ويجددان الأمة بنشاط ناضج.
وما أهنأها شيخوخة عندما ينظر أحدنا — وقد بلغ السبعين — في فهرس حياته، فيجد العناوين البارزة لما قام به من دراسة وكفاح حتى تكوَّنت له شخصية ناضجة مؤلَّفة من الاستقلال الروحي وبالاستمتاع الفني.
وما أتعسها شيخوخة يقضيها أحدنا في المرض والجهل والجمود كأنه قد قطع صلته بالعالم، يقال من وظيفته في الستين وكأنه قد أقيل من الحياة كلها، فهو في الحقيقة ميت قد تأخر دفنه؛ وذلك لأنه لم يثقف ذهنه أيام الشباب ولم يغرس في نفسه اهتمامات حيوية تغذو شيخوخته وتحيي عواطفه وتنبه عقله.