لا نقرأ بل ندرس
لمَّا كنت في المغرب الأقصى وجدت هناك كلمة «طالب» يستعملها الجمهور لمن نسميه في مصر «عالم»، وعندي أن هذه الكلمة أصح في المعنى والدلالة من كلمتنا؛ لأنها تحمل معنى الدرس والتطور والرقي، وإن أحدنا مهما بلغ من الثقافة لا يزال طالبًا يدرس ويتعلم ولا يعتقد في نفسه الكمال أو التمام، والإنجليز يؤثرون هذا المعنى حين يصفون الرجل المثقف بكلمة «سكولار» التي تعني الطلب والجهد.
وما أحرانا بأن نستعمل هذه الكلمة؛ فإن كل إنسان يجب أن يكون طالبًا طول حياته، وأن يموت كما مات الجاحظ «وعلى صدره كتاب».
والطالب لا يستهتر، ولا يقرأ جزافًا، وكما أننا نحتقر الاستهتار في السلوك، ونطالب كل رجل بأن يلتزم الجد ويقصد إلى غايات شريفة في معيشته، كذلك يجب أن نطالب القارئ بأن يقرأ جادًّا وأن يعين لدراسته قصدًا، وهو حين يتجه هذا الاتجاه يجد أنه في غنى عن قراءة القصص السخيفة، وعن قراءة هذه الغوغاء من مجلات القيل والقال التي تستهلك الوقت والمال، وتحارب الذكاء، وتحرض على البلادة.
والفرق بين القراءة والدراسة هو أن الأولى يقصد منها عند جمهور القارئين اللهو وقضاء الوقت أو قتله، أما الدراسة فتحتاج إلى مجهود بغية الانتفاع، ولكن الحقيقة أن الدراسة عادة واتجاه، إذا نحن تدربنا عليها وتعبنا في البداية لا تلبث أن تثبت؛ وعندئذٍ تصير أيضًا استمتاعًا عاليًا يعوق ما نسميه اللهو بالقراءة الجزافية، وأنواع الاستمتاع في مجتمعنا كثيرة، منها ما ينحط إلى الترهل وأكل اللب والقعود على القهوة لتأمل العابرين، ومنها ما يرتفع إلى الألعاب الرياضية أو رؤية الدراما أو التنزُّه في الريف؛ فالنوع الأول من الاستمتاع لَهْوٌ سخيف، يشبه القراءة الجزافية، ليس له غاية، والمستمتع لا يحس أنه يرقى بلهوه، أما النوع الثاني فيشعر بالغاية والانتفاع بالصحة أو الرفاهية الذهنية.
وكذلك الحال في القراءة والدراسة؛ فالأولى لهو بلا غرض، والثانية استمتاع له هدف الرقي، والانتقال سهل بالتدريب؛ لأن الدراسة تعود بعد ذلك مزاجًا لا يحتاج إلى جهد، فالجريدة التي نفطر بها في الصباح تقرأ عندئذٍ مع القلم الأحمر والمقص، إلى جنب الخريطة أو المعجم السياسي، والكتاب تعلق عليه الانتقادات والشروح، بل تؤخذ منه التلخيصات.
ونحن حين نقرأ بالقلم نشارك المؤلف في كتابه؛ لأننا نناقشه في غضون القراءة، وربما نصل إلى تفاريع ذهنية لم يصل هو نفسه إليها، وقراءتنا عندئذٍ إيجابية عاملة وليست سلبية عاطلة، فنحن لا نلتقي ونتطبع بل نفكر ونطبع الكتاب، ويجب على القارئ ألَّا يستسلم للوهم بأن الشعر والأدب لا يدرسان بل يُقْرَآنِ فقط؛ فإن العكس هو الصحيح، ولسنا هنا ننكر أننا حين نقرأ قصة عالمية لمثل تولستوي أو دستؤفسكي لا نستطيع أن نمسك بالقلم ونتابع المؤلف من صفحة إلى أخرى بالتعليق، ولكن عجزنا هنا عن التعليق ليس برهانًا على أن الأدب العالي ليس في حاجة إلى التعليق، وأنه استمتاع مصفى كالإصغاء للموسيقا؛ لأن الواقع أن الموسيقي العبقري يستطيع أن يعلق على أي لحن من الألحان الساحرة بما يملأ عشرات الصفحات، وكذلك الشأن في التعليق على الأدب؛ فإننا يجب أن نقرأ قصة من تولستوي ونستسلم للسحر الفني كما لو كنَّا نصغي إلى لحن مقدس في صمت وسكون، ولكن بعد قراءة الكتاب يجب أن نحلل ونؤلف في القصة، ونبحث كيف رفعَنا الكاتب إلى السماء في هذه الصفحات، وكيف جعلَنا نحس دينًا جديدًا في هذه الصفحات الأخرى، وبكلمة أخرى يجب أن ندرس القصص العالية كما ندرس أي كتاب ديني؛ لأنها هي أيضًا من الدين، وكل دين يحتاج إلى نقد وشرح، وإذا تعودنا الدرس وصار مزاجًا عندنا فإننا نتوخى من الجريدة والكتاب التنبيه بدلًا من التخدير، بل عندئذ لا نطيق أن نقرأ صفحة من مجلات القيل والقال أو القصص السخيفة؛ إذ ليس فيها ما يدرس، ثم تغدو دراستنا نظامية لها برنامج وفيها اتجاه أو اتجاهات، لغاية نتدرج فيها ونرقى بها.
ويجب على من ينشد الثقافة ألَّا يترك كتابًا قد قرأه إلا وله عليه حكم؛ وذلك بأن يقتني كراسة لتلخيص كل ما يقرأ، حتى إذا انتهى من تلخيص كتاب حكم عليه وأثبت الوجوه التي انتفع بها منه، وهل كان يساوي الوقت والمال اللذين أنفقهما فيه أم كانت قراءته ضررًا أكيدًا، وليس في الدنيا كتاب يعلو على هذا الامتحان، فنحن نقرأ وندرس كي ننتفع ونرتفع، وكي تتسع آفاقنا الذهنية، وتتربى نفوسنا وتستنير رؤيانا ونستمتع بالدنيا، فإذا لم يكن شيء من هذا، فإننا يجب أن نأسف على قراءتنا، وأن ننصح لغيرنا بألَّا يقع في الخطأ الذي ارتكبناه بقراءة كتاب سخيف.
ولو أن المؤلفين عرفوا أن القراء سوف يمتحنونهم بهذا الامتحان الدقيق، لما استهتروا في التأليف، وكذلك لو عرف المحرِّرون للجريدة والمجلة أن القراء يطلبون أن ينتفعوا أو يرتقوا بقراءة ما يكتسبون لعمدوا هم أنفسهم إلى الدرس، وحاولوا ألَّا يكتبوا سوى ما ينفع ويرفع.
فلتكن الدراسة — بدلًا من القراءة — عادتنا ومزاجنا، إذا شئنا أن نثقف عقولنا ونربي أنفسنا، ولتكن دراسة هادفة، نعين هدفها ونقيس المسافة التي بيننا وبينها ونرتب رحلتنا حتى نصل إليها.