الكتب التي غيرت الأفكار والمجتمعات
الكتب العصرية العظيمة هي الكتب التي تغير الناس لأنهم تكسبهم قيمًا جديدة في الأخلاق أو الاجتماع أو العلم أو الأدب أو الثقافة عامة.
والكتاب الذي لا يغيرنا لا يربينا؛ لأننا ننتهي من قراءته ونحن على حالنا التي بدأناها به.
وإنما نتغير بالكتاب لأنه جاء لنا بجديد، فأقنعنا بصلاح المذهب أو المبدأ الذي يدعونا إليه، وأوضح لنا السيئ في عادتنا ووجهات نظرنا؛ ولذلك نحن نجد في الكتاب الذي يغيرنا اتجاهًا جديدًا في نفوسنا وبرنامجًا جديدًا لحياتنا.
لقد قيل عن داروين إنه غير وجه الثقافة البشرية حين وضع الحقائق مكان العقائد، وبسط للإنسان آفاقًا للتفكير لم تكن معروفة من قبل، وكتابه «أصل الأنواع» الذي نشره في ١٨٥٦ يعد من أعظم الكتب التي غيرت التفكير، وسوف يحتفل العالم بعد أقل من ثلاث سنوات (في ١٩٥٩) بمرور مئة سنة على هذا الكتاب الذي عيَّن لنا منهجًا جديدًا في البحث العلمي عن أصل الإنسان، وعمَّمَ فكرة التطور التي تسللت إلى عقول المفكرين، حتى من المحافظين، وأحدث في نفوسنا إنسانية وإحساسًا جديدين نحو وحدة الأحياء.
ولا أكاد أعرف كتابًا آخر في العالم غيَّر الدنيا، وأعني دنيا المثقفين مثل هذا الكتاب الذي لا تزال حقائقه تجري في أوساطنا وتغيرنا وتوجهنا، وقد أصبح «التطور» بفضل هذا الكتاب مزاجًا ذهنيًّا عامًّا بين المثقفين، يفكرون على منهجه ويهتمون بأهدافه في الارتقاء البشري وتغيير النباتات والحيوانات، بل تغيير الطبيعة نفسها.
الشعب الذي لا يتطور، أي الشعب الذي يجهل داروين، يمكن أن نسلكه في عداد الألوف من الأحياء المنقرضة التي لا نعرف عنها سوى نقوشها على الأحجار في الطبقات الجيولوجية، فإنه سائر إلى غايتها وعلى طريقها؛ إذ هي انقرضت لأنها جمدت ولم تتطور.
كتاب «أصل الأنواع» يجب أن تعد ترجمته واجبًا مقدسًا على كل دولة تحترم عقول أبنائها وتحب أن تحيطهم بسياج من التعقل في سلوكهم وأهدافهم، هو كتاب الكتب وأصل الأصول في التفكير العصري، وأيما شعب يجهله هو شعب غير عصري، هو شعب جامد قديم.
وهناك كتاب آخر غير الدنيا في النظام الاجتماعي للإنسان أكثر مما غيَّرها في نظام التفكير، هذا الكتاب هو «كوخ العم توم» الذي ألفته امرأة عظيمة هي السيدة الأمريكية هارييت ستو، ولم يكن كتابها هذا ممتازًا من الناحية الفنية؛ إذ كان ساذجًا، يكاد يكون مبتذل اللغة والتعبير، ولكن هذه الصفات أشاعته بين الجماهير التي تشربته كما لو كان رحيقًا، بل كما لو كان سمًّا هاجها، وحملها على العزم الصادق في إلغاء الرق، وألغته.
كان الإنسان — قبل أن يؤلَّف هذا الكتاب في ١٨٥٢ — يُبَاعُ بالقرش والملِّيمِ، كما تُبَاعُ الخراف والكلاب والطماطم والذرة والقمح، وكانت له أسعار، وتجار يعرفون الميزات التي تختص بها العبيد وترفع أثمانهم، كما يعرفون نقائصهم التي تبخس أثمانهم، وكان العبيد يُغتصبون، ويُخطفون وهو أطفال من آبائهم في أفريقيا ويرحلون إلى أمريكا حيث يباعون للعمل في الحقول والمنازل والمصانع بلا أجر.
ووصفت هارييت ستو أسرة من العبيد في أمريكا، مزقت فيها ستائر النفاق، وفضحت فيها ألوان العذاب التي يعانيها الزنوج العبيد، واستيقظ ضمير الشعب الأمريكي، وهاجت النفوس، وغضبت القلوب، فكانت الحرب الأهلية التي قادها إبراهام لنكولن العظيم إلى الانتصار في ١٨٦٠، والتي قررت إلغاء الرق ليس في الولايات المتحدة وحدها بل في العالم كله، وذهبت عن الإنسان وصمة، بل لطخة، بل عار، لزمه آلاف السنين الماضية.
وتغير المجتمع البشري بتأليف هذا الكتاب العظيم.
وكتاب ثالث قد غيَّر كثيرًا من المجتمعات هو كتاب كارل ماركس «رأس المال»؛ فإنه علمنا كيف ندرس التاريخ الماضي والحاضر، وكيف نفهم التطور الاقتصادي للشعوب، وأصل الاستعمار، وما منشأ الأحلاف، وما هي أسباب الثراء الفاحش والفقر الفاحش، في العالم الآن ألف مليون إنسان، قد انتقل مجتمعهم من المباراة الاقتصادية بكل شرورها إلى التعاون الاقتصادي بكل ما فيه من خير وإنسانية، ويرجع ذلك التغير لهذا الكتاب، أو لمجموعة مؤلفات ماركس.
ونستطيع أن نذكر عشرات الكتب التي غيَّرت المزاج الذهني للمفكرين، أو النظام الاجتماعي للشعوب، وإن لم تبلغ في القوة والتأثير مستوى هذين الكتابين؛ فإن مؤلفات فولتير ألغت التعصب الديني في أوروبا، ومؤلفات روسو جعلتنا نحس إحساسًا دينيًّا نحو الطبيعة، ومؤلفات جوركي علمتنا كيف نؤمن بعظمة الإنسان، ومؤلفات برنارد شو جعلتنا ننضج، ونعالج مشكلاتنا بروح الرجولة والجد.
هؤلاء خمسة، وأستطيع أن أزيدهم إلى مئة.
فأين نصيب مصر من هؤلاء المؤلفين الذين غيروا وحركوا التطور والارتقاء في الناس والمجتمعات؟
أستطيع أن أذكر كتابًا صغيرًا غيَّر المجتمع المصري، هو كتاب قاسم أمين «المرأة الجديدة»، وصحيح أن هناك عوامل كثيرة أخرى عملت لتحرير المرأة، ولكن هذا الكتاب الذي انفجر بيننا كما لو كان قنبلة قبل ستين سنة، كان بمثابة الراية التي انضوى إليها الأحرار والشعار الذي تعارفوا به وارتقت نفوسهم بكلماته ومعانيه.
وكل منَّا يعرف ما كانت عليه أمه من الحجاب، وما عليه ابنته أو زوجته من السفور، وكل منا يعرف مكانه وحزبه بين هاتين المرتبتين من التطور الاجتماعي، والفضل في كثير من ذلك يُعْزَى إلى قاسم أمين.
إن قاسم أمين قد أدَّى لمصر من الخدمة الاجتماعية والارتقاء البشري مثلما أدَّت هارييت ستو للولايات المتحدة بإلغاء الرق بين الزنوج.
ولكن هناك — إلى جانب قاسم أمين — كُتَّابًا غيرونا بكفاحهم الصحفي أو التأليفي، وإن لم يُحدثوا مثل هذا الانفجار الذي أحدثه قاسم أمين.
فإن مصطفي كامل استطاع أن يحيي — عن طريق الصحافة — شعبنا الذي أذهلته الهزيمة أمام الإنجليز في ١٨٨٢، وغيَّره، وملأه أملًا بعد اليأس، ونصب له هدف الاستقلال الذي لم ننحرف عنه إلى أن تحقق لنا.
واستطاع لطفي السيد — عن طريق الصحافة أيضًا — أن يغرس في نفوسنا المبادئ العملية للوطنية المصرية، وأن يرفعنا من مستوى العواطف إلى مستوى العقل في معالجة شئوننا، وقد غضبنا منه في الأول عندما صدم عواطفنا، ثم هدأنا وسكنَّا إلى العقل الذي دعانا إليه، وتغيَّر شعبنا بذلك.
ثم هناك طائفة من الكُتَّاب أحدثت في مجتمعنا المصري أكبر التغير بمؤلفاتها، ومعظمها إن لم تكن كلها قصص، من حيث الدعوة إلى الحب كوسيلة للاستمتاع بين الشباب وتهيئة للزواج، وقد كانت الدنيا قبلهم تستمتع بالحب إلا مصر، وكانت كلمة الحب تعد عارًا وشنارًا إذا ذكرت أيام الخطبة بين الخطيبين، أما الآن فهي كلمة مقدسة، بل هي عند المرتقين من الآباء والأزواج شرط لازم يجب أن يسبق الزواج، وصار الحب حقًّا للشاب كما هو حق للفتاة.
والفضل في هذا لكُتَّاب القصة الذين جعلوا كلمة الحب من الكلمات المقدسة في أدبنا ومجتمعنا، وكانت قبل ذلك من النجاسات والمحرمات، وتغير مجتمعنا بهذه الكلمة وأصبح مجتمعًا إنسانيًّا.
إن عندنا كتابا يلتزمون التقاليد، ويحاولون أن يكتبوا كما كان يكتب الجاحظ، يقرءون الكتب ويؤلِّفون عنها كتبًا أخرى، كتبًا من كتب، وهؤلاء لم يغيروا مجتمعنا لأنهم لم يمسُّوه، بل لم يهتموا به، فمشكلات مجتمعنا لم تمسُّ قط قلوبهم، وإنما الذي مسه هو أسلوب الجاحظ، ومشكلة الخوارج، وابتداعات المعتزلة، وأشعار أبي نواس، ولكن قاسم أمين إنَّما غيرنا لأنَّه لم يكن يؤلف الكتب عن الكتب، بل كان ينظر إلى المجتمع المصري ويقارن بينه وبين مجتمعات أوروبا، وكان يتنهد ويغضب، ثم ألَّف بعد ذلك، فانفجر كِتَابُه بل كتاباه بيننا، وأحسسنا من قراءتهما أن ها هنا رجلًا يحبنا ويغضب ويوبخنا ويطلب منا أن نتغير.
أجل، وعرفنا أمانته، فتغيرنا وتطورنا.
ومع كل ما ذكرت عن تأثير الكتب التي تغير الأفكار والمجتمعات، يجب ألَّا ننسى أن هذا التغير يحتاج قبل كل شيء إلى مهيئات اجتماعية اقتصادية، وأن الدعوة بالكتاب تذهب صيحة في الصحراء ما لم توجد هذه المهيئات.
ففي مصر مثلًا كان أعظم ما حرر المرأة هو استخدامها في الحِرَفِ والمصانع والمتاجر، واختلاطها بالأجانب ونهضة ١٩١٩ السياسية الاقتصادية التعليمية.
وكذلك إلغاء الرق في الولايات المتحدة يعود إلى حدٍّ كبير إلى المباراة بين أصحاب رءوس الأموال في الشمال وبين زملائهم في الجنوب؛ فإن الأولين كانوا يستخدمون العمال، ويتكلفون دفع أجورهم، بينما الآخرون في الجنوب كانوا يمتازون عليهم باستخدام العبيد بلا أجر، وانتهت المباراة بينهما إلى حرب التحرير.
ولكن الكِتاب يُكسب حركة الإصلاح كلمات هي شارات، ويعطيها إيحاءات، فيحدث التجاوب بين المهيئات الاقتصادية الاجتماعية وبين الكُتَّاب الأحرار ومؤلفاتهم التحريرية.