ينقصنا ١٠ كتب
أعتقد أننا في حاجة إلى نحو عشرة كتب نؤلِّفها أو نترجمها بحيث نهدف منها إلى فهم جديد وتوجيه جديد؛ لأن كتبنا ليست كافية الكفاية التامة لتخرج الرجل العصري.
وأنا أوثر التأليف على الترجمة، وأعتقد أن في مصر وسائر الأقطار العربية من يستطيعون أن يقوموا بالتأليف في الموضوعات التي سأذكرها، ومرجع إيثاري للتأليف أن المؤلف الأوروبي يفرض — حين يؤلف — جمهورًا أوروبيًّا يقرأه؛ ولذلك هو يثبت ويحذف ما ربما نحتاج نحن لجمهورنا العربي ألا نثبته أو نحذفه.
ومع ذلك ليس هناك غنى عن الترجمة في بعض الموضوعات.
وأبدأ بحاجتنا إلى كتاب عن التطور نؤلِّفه ونعتمد في أمثلته على تاريخ الأمم القديمة في الشرق العربي، كيف نشأت الحضارة القديمة في أقطاره وكيف ارتقت نظمه وقوانينه، وما هي الأسباب لتدهوره في القرون الخمسة الأخيرة؟ ولكن يجب أن نضيف إلى تاريخ هذا التطور الاجتماعي شيئًا من التطور الطبيعي، أي تاريخ مصر قبل الحضارة، ووصف الأحياء التي نشأت في الفيوم وانقرضت، وهذا بالطبع إلى تاريخ مجمل لتطور العالم.
وأنا أهدف من العناية بمثل هذا الكتاب إلى أن نجعل من التطور مزاجًا في الشعب، بحيث يبقى على الدوام متجهًا نحو المستقبل راغبًا في الارتقاء، لا يعارض التغيير ولا يجمد، وقد ألَّفت أنا كتابًا موجزًا عن هذا الموضوع ولكني أنشد كتابًا أكثر إسهابًا.
أما الكتاب الثاني فهو «التاريخ البشري» للدكتور إليوت سميث الذي كان في وقتٍ ما أستاذ التشريح في كلية الطب بقصر العيني، فإن لهذا المؤلف نظرية، إن لم تكن صحيحة فإنها منيرة، وهي تُدَرَّسُ وتُنَاقَشُ في جميع العواصم الثقافية الآن.
وخلاصة هذه النظرية أن الذي أخرج الإنسان من العصر الحجري وحياة الغابة والتقاط الجذور الوحشية، هو مصر التي اخترعت الزراعة، وأن الزراعة هي العقدة أو المركب الذي تفرعت منه العلوم والأديان والأخلاق والقوانين والفنون القديمة.
وثق أيها القارئ أن الوطنية المصرية لا تدفعني إلى النصح بترجمة هذا الكتاب؛ إذ إن ممَّا لا شك فيه أن فيه علمًا كثيرًا وعقلًا كبيرًا وفطنةً عميقةً، وكل هذا يحتاج إليه الشاب المصري كي يرى رؤيا صادقة لتاريخ الحضارة.
أما الكتاب الثالث فأحب أيضًا أن يكون مترجمًا، وهو مثل كتاب إليوت سميث قد يحتوي أخطاء، ولكنه ينير ويرشد، ويبسط لنا تاريخ الإنسان القديم، كيف هدى وكيف ضلَّل.
هذا الكتاب هو «الغصن الذهبى» لمؤلفه المؤرِّخ الإنجليزي فريزر، وهو يحتوي ٢٢ مجلدًا لا قِبَلَ لنا بنقلها كلها، وإنما ننقل الموجز الذي وضعه المؤلف نفسه، وهو نحو ألف صفحة، وأنا واثق أنه عندما ينقل هذا الكتاب إلى القراء العرب سيحدث نهضة أو انقلابًا ذهنيًّا.
وموضوع الكتاب هو كما قلت كيف ضَلَّ عقل الإنسان وكيف اهتدى؛ أي إنه يعالج الأساطير القديمة ونشأتها، ثم أيضًا تسلُّلها إلى الثقافات التالية لها.
ولا أنسى أن أقول هنا إن هذا الكتاب يناقض الكتاب الذي ذكرتُه قبله، وهو «التاريخ البشري»؛ فإن هذا الكتاب يعزو كل شيء إلى مصر، أما كتاب فريزر فيعتمد على أن الأوساط البشرية متشابهة؛ ولذلك هي تنتهي إلى أخلاق وعادات وعقائد وفنون متشابهة.
ومن حق القارئ العربي أن يعرف هذين النقيضين، وأن يستنتج بقوة ما عنده من منطق ومعارف سوف يكشف عنها المستقبل.
أما الكتاب الرابع فهو كتاب خلاصة التاريخ لويلز، وأنا أعتقد أننا يمكن أن نؤلِّف كتابًا يضارعه أو يفضُله، والكتاب الأول الذي ذكرته هنا يشبه كتاب ويلز.
وقد نصحت بأن يكون مؤلَّفًا وليس مترجمًا، ولكني أحب أن أضع كتاب ويلز هنا للمقارنة، وهو عندي خير من الكتاب الذي أشرفت وزارة المعارف على نقله وترجمته، وهو «التاريخ العام للعالم» الذي حرره ولم يؤلفه هامرتون؛ وذلك لأني أجد أن كتاب ويلز توجيهي، يهدف إلى اعتبار البشر أمة واحدة، كما أنه يعلو على التفاصيل التي لا تدل، وهو لذلك ممتلئ في إيجازه، مستقر في عبارته، أما كتاب هامرتون فمفصَّل، ومسهب، في غير تنوير أو توجيه.
أما الكتاب الخامس الذي ينقص المكتبة العربية، فهو كتاب جيبون عن تاريخ الدولة الرومانية، وهو رواية تجري على نسق الطبري، ولا أظن أنه يُقرأ كثيرًا في أوروبا، وخير منه ألف مرة كتاب مومسون.
كتاب جيبون هو رواية غير مدروسة، ولكنها صحيحة.
وكتاب مومسون هو دراسة غير ممتعة وإن تكن صحيحة.
وأنا أنصح بترجمة هذا الكتاب؛ لأن الأمم العربية اتصل تاريخها بتاريخ الدولة الرومانية نحو ٧٠٠ أو ٨٠٠ سنة، وهذه الدولة هي أشقى وأظلم وأبغى دولة نشأت في العالم، ويجب لهذا السبب أن نعرفها، ونعرفها من التاريخ الخام الذي فصَّله لنا جيبون.
أما الكتاب السادس فهو ترجمة بحياة ليوناردو دافنشي باعتبار أنه يمثل في شخصه نوازع النهضة الأوروبية، حين شرع الناس يسألون أسئلة الأطفال ويستطلعون في غير خشية أو وقار، وعندما يقرأ شبابنا هذه الحياة، فإنه سيقف منها على معاني النهضة التي ما زلنا نجهلها في مصر، ويستطيع عندئذٍ أن يميِّز بين أصدقائه وأعدائه، وأن يرسم منها خريطة المستقبل لبلاده.
ونستطيع أن نختار التأليف أو الترجمة لهذا الموضوع، ولكني أوثر التأليف بأقلام بعض مؤرخينا، الذين يجب ألَّا يقنعوا بالرواية بل يهدفوا إلى التنبيه والتنوير والتوجيه.
ومن أحسن الكتب التي تنير الذهن وتنضجه، وتسدد النظرة التاريخية للدنيا والمجتمع، والحاضر والمستقبل، تلك الكتب التي تشرح لنا قصة العلوم، كيف نشأت، وكيف تطورت وارتقت إلى أن بلغت مستواها الحاضر.
وقصة علمٍ ما، هي قصة الإنسان، أو بالأحرى ذهن الإنسان، ونظام مجتمعه.
وأنا أوثر أن نؤلِّف تاريخًا عن الطب، منذ كان طفلًا في مهد السحر، إلى أن وصلنا به إلى الأوريوماسين؛ فإن تاريخ هذا العلم وحده ينقل القارئ من الخرافة إلى الحقيقة، وحسب القارئ أن يعرف أن شارة الطب الآن هي شارة الكهنة المصريين القدماء، وأن كلمة طب في اللغة العربية تعني السحر، والطبيب هو الساحر.
وأنا لا أقصد من اختيار هذه الكتب أن أزيد المعرفة، وإنما قصدي الوحيد أن أعين المنهج، ولم أشذ هنا إلا في اختيار كتاب جيبون عن تاريخ الجهل والفساد والتوحُّش والفسق في الدولة الرومانية؛ وذلك لاتصالها بتاريخنا.
وإذن كتابنا السابع هو «تاريخ الطب».
أما كتابنا الثامن الذي تحتاج إليه المكتبة العربية فهو تاريخ الثورة الفرنسية، وأحب أن أجد تاريخًا مفصلًا عن المبادئ والأشخاص والفضائل والرذائل، قبل الثورة، وفي أثنائها، ثم في أعقابها. ومثل هذا الكتاب يجب ألَّا يقل عن ٧٠٠ أو ٨٠٠ صفحة.
ذلك أن الثورات تعد جزءًا من تطور الأمم وارتقائها، وأمة بلا ثورات هي أمة منكوبة بالجمود، ويجب أن نعرف الأساس الأساسي للثورة، وهو التغيُّر في وسائل العيش، هذا التغير الذي يحمل الذين ظُلِمُوا منه على أن يطلبوا ويحققوا تغيرات في المجتمع.
ومن هنا انعدام الثورات في الأمم التي لا تتغير وسائل العيش فيها، أي وسائل الإنتاج.
والثورة الفرنسية الكبرى هي ثورة بشرية قد عينت مناهج ورسمت رموزًا وحققت حقوقًا، فزادت الإنسان ثراء في الروح والمادة كما زادته شجاعة واجتراء على اقتحام المستقبل؛ ولذلك يجب ألَّا يجهلها رجل حر متطور، وعلينا ألا ننسى أن كلمة «المساواة» لم تدخل القوانين البشرية إلا في الثورة الفرنسية.
أما كتابنا التاسع فيجب أن نخصه بتاريخ مصر، وأعني تاريخ الاحتلال البريطاني لبلادنا، وهناك كتب حسنة نزيهة في هذا الموضوع، وقد ترجمت أنا لجريدة البلاغ كتاب بلنت «التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر» وهو الكتاب الذي جعلني أحب عرابي ولا أصدق كلام المغفلين عنه، وقد طبع هذا الكتاب ولكن نفدت طبعته، ومع اعتقادي بأنه من الكتب النافعة؛ فإني أحب أن أضيف إليه كتابًا آخر عن بلادنا هو «خراب مصر» لروذنستين، وفي كلا الكتابين تنوير ليس عن مصر وحدها بل — بالمقارنة — عن الاستعمار ووسائله الخسيسة في قتل الأمم بعد إيقاعها في شباكه.
أما الكتاب الأخير فيجب أن يختص بالحرب الكبرى الثانية، أسبابها ونتائجها وما جَدَّ فيها من مخترعات وما سبقها من حروب قريبة أدَّت إليها؛ لأننا يجب ألَّا ننسى أن الحرب هي أكبر سبب للحرب.
هذه هي الكتب العشرة التي أعتقد أننا يجب أن نكمل بها النقص في مكتبتنا العربية، حتى نغدو بها أمة عصرية لا تعارض التطور بل تدعو إليه، وأنا لا أقصد من تأليفها أو ترجمتها أن تكون كتبًا اختصاصية لطلبة الجامعات، وإنما هدفي هو الجماهير القارئة في مصر والأقطار العربية حتى تحيا على الحاضر وتستيقظ في غدها على المستقبل.