المعاجم العربية
حَزَّ في نفسي، وجرح كرامتي، وأَذَلَّ كبريائي الوطنية، أن أقرأ أن بيت لاروس صاحب المعاجم الفرنسية قد شرع يعد معجمًا عصريًّا للغة العربية في باريس.
وقد فهمت أنه يستعين في ذلك بخبرة المعلمين للغة العربية في كلية اليسوعيين ببيروت، وفضل هذه الكلية على لغتنا كبير جدًّا؛ فإنها هي التي طبعت ونشرت المجلدات العشرة لمجاني الأدب قبل نحو قرن، وبعض هذه المجلدات هو معاجم أدبية صغيرة تنير وتشير إلى المراجع، وهي أيضًا التي أخرجت مجلة «المشرق» التي كثيرًا ما عُنِيَتْ بالدراسات العربية، وإن تكن نزعتها الدينية قد صدَّت عنها الكثير من القراء.
وقد كان الفضل أيضًا لبيروت؛ إذ هي أخرجت لنا معجمين عربيين عصريين هما «محيط المحيط» و«أقرب الموارد»، وعليهما إلى الآن معتمَد الكتاب والمثقفين في الأقطار العربية جميعها، مع أنه قد مضى على تأليفهما نحو سبعين سنة.
ومع أن لنا وزارة المعارف كانت تنفق نحو مئة ألف جنيه كل عام على شراء الكتب؛ فإنه لم يخطر ببال وزير من وزرائها أن يكلف أحدًا كي يقوم بتأليف معجم عربي عصري للطلبة، ومع أن عندنا كلية تتخصص لدراسة اللغة العربية منذ سبعين سنة، هي «دار العلوم»؛ فإنه لم ينبغ منها واحد يرصد نفسه وحياته لتأليف هذا المعجم الذي تصرخ حاجتنا إليه، بل إن في جامعاتنا كليات تتخصص أيضًا لدراسة اللغة العربية، بل اللغات السامية، ومع ذلك لم نجد من خريجيها أو أساتذتها من يسعى إلى تحقيق هذا المعجم، وإلى هذا نجد مجمع اللغة العربية الذي يرى أعضاؤه ويسمعون عن لاروس ومعجمه العربي الجديد ولا يبالون.
واعتقادي أن هناك أسبابًا عديدة لهذا الإحجام؛ فإن وزارة المعارف التي كانت تشترك في ألف نسخة في إحدي المجلات الغثة التافهة، وتؤدي لصاحبها ألف جنيه كل عام، كانت ترفض إنفاق مثل هذا المبلغ ثلاث أو أربع سنوات لإيجاد معجم نافع يخدم الطلبة والمثقفين؛ وذلك لأن المجلة الغثة التافهة كانت على استعداد لأن تمدح، ولكن المعجم لم يكن الوزير لينتظر مدحه أو يخشى قدحه.
ثم إلى هذا يجب أن نذكر أن كثيرًا من معلمي اللغة وأساتذتها نشأوا نشأة اتباعية وليست ابتداعية، كما أن طريقة تعليمنا لهذه اللغة قد ربط بينها وبين الدين، فانتقل إحساس المحافظة على الدين إلى اللغة، ولم تعد اللغة علمًا، بل أصبحت — كالدين — عقيدة، كلماتها وقواعدها لا تتغير، ولا يزاد عليها كلمة أجنبية إلا في خوف وتردد وإحجام، كأن مثل هذه الزيادة تتاخم الكفر أو تقاربه، وأصبح معلمو هذه اللغة يشبهون معلمي الدين، يتبعون الماضي ولا يبتدعون للمستقبل، بل إن «دار العلوم» الكلية التي تخصصت لتخريج المعلمين للعربية، قد وضعت من الشروط ما يحول دون الطالب المسيحي أو اليهودي أن يلتحق بها ويتخصص فيها لدرس اللغة العربية.
وبهذا النظام تجمدت اللغة العربية عندنا ورفضت التطور، ولم يعد معلموها يفكرون في إيجاد معجم عربي عصري يضع كلمة بيولوجية أو سيكلوجية إلى جنب كلمتي مجاز أو استعارة؛ وهم لذلك قانعون بالمعاجم القديمة، وعلى شيء غير صغير من النفور من الكلمات العصرية، بل هم ينفرون من الروح العصري كله.
وهذا خلاف ما نجد في معلمي اللغة العربية في جامعة بيروت، وهنا العلة السيكلوجية لكراهة الإقدام على إيجاد معجم عربي عصري في مصر والرغبة في إيجاد في بيروت.
ومع المر الذي أتطعمه على لساني، ومع مضض الذهن الذي أحسه، أدعو لبيت لاروس الفرنسي ولعلماء اللغة في كلية اليسوعيين في بيروت أن ينجحوا في مشروعهم، وأن نرى معجمهم قريبًا على مكاتبنا يؤدي لنا الخدمة اللغوية المنتظرة التي لم نجدها من مؤسساتنا ولا من رجالنا.
إن كل مثقف، بل كل من ينشد الثقافة، يحتاج إلى معجم بل إلى معاجم.
وأنا أكتب هذه الكلمات وأمامي من المجلدات ما عددته الآن فبلغ ٦٩ مجلدًا جميعها معاجم، بعضها للغة العربية، وبعضها للبيولوجية، وبعضها للأديان، وبعضها للأدب، وبعضها للفلسفة، وبعضها للعلم، وبعضها للغات الفرنسية والإنجليزية. واعتقادي أني أقل المثقفين في اقتناء المعاجم، ولكن هذا العدد الذي أمامي ليس كل ما اقتنيت؛ لأني سريع الاستغناء عن «المتقادم» سواء من الناس أم من الكتب.
وعناية الأوروبيين بالمعاجم كبيرة ليقينهم بأنها هي التي تيسر البحث والتحرير، وقد أصبحت المعاجم اختصاصية لكل علم أو فن.
وأعظم ما يبهجني أن أقف في إحدي المكتبات أتأمل وأتلبث في تصفح هذه المعاجم الصغيرة التي يؤلِّفونها للأطفال والصبيان؛ فإن الصبي الذي لم يتجاوز السنة العاشرة من عمره يستطيع بهذه المعاجم أن يقرأ كتابا عويصًا في البيولوجية أو النبات أو الحيوان أو التاريخ؛ ذلك أن الكلمات مصورة، حتى الأفعال تصوُّر بالألوان التي تغري الصبي بالقراءة والاستطلاع.
وتحديد المعنى في ذهن القارئ قد اكتسب قيمة كبيرة في أيامنا بهذا العلم الجديد الذي يُسَمَّى السيمائية، أي علم الإشارات، باعتبار الكلمة سيماء، أي إشارة أو إيماءة إلى شيء ما، وغاية هذا العلم إحكام المعنى في الذهن، بل إن هناك في أيامنا من يزعمون أن هدف الفلسفة لا يزيد على تعيين المعاني للكلمات التي تستعمل في العلوم؛ أي إن البحث الفلسفي إنما هو بحث لغوى.
وقد لا نرتضي هذا القول، ولكن مما لا شك فيه أن التفكير لا يمكن أن يكون سليمًا منظمًا إلا إذا عبرنا عنه بكلمات سليمة منتظمة؛ ومن هنا قيمة المعجم الحسن الميسر.
إنَّنا نحتاج في ظروفنا الحاضرة إلى نحو عشرة معاجم عربية، كي ننظم بها ثقافتنا ونرتب بها أذهاننا.
نحتاج إلى معجم ابتدائي مصور لا تزيد كلماته على ألف، يمكن الصبي العربي أن يستعمله بلا أدنى مشقة، ويجب أن تكون كل كلمة مصورة؛ فكلمة غزال تلحق بها صورة هذا الحيوان، وكلمة عدا تلحق بها صورة صبي يجري، وكلمة رئة توضع بصورة هذا العضو … إلخ.
ثم نحتاج إلى معجم وسيط يحتوي الكلمات العصرية دون أن نضعها بين قوسين، وذلك لتلاميذنا قبل أن يلتحقوا بالجامعة، ويجب أن يحوي من الكلمات الأدبية والعلمية والسيكلوجية والبيولوجية والمصرلوجية ما يترجح عدده بين ٨٠٠٠ و١٠٠٠٠ كلمة.
ثم نحتاج إلى معجم كبير يحتوي نحو ٣٠ ألف أو ٤٠ ألف كلمة، مع موجز عن اشتقاق كل منها، وهذا هو ما يحتاج إليه طالب الجامعة وعامة المثقفين خارجها.
ثم فوق ذلك نحتاج إلى معاجم اختصاصية.
وأولها معجم للاشتقاق، مع التوسع في أصول الكلمة اللاتينية أو الإغريقية أو العبرية أو البابلية أو الفارسية … إلخ، ومثل هذا المعجم ينير بصيرتنا بشأن التاريخ اللغوي، وهو في صميمه دراسة أنثربولوجية وتاريخية معًا.
ثم معاجم خاصة للعلوم، مثل المصرلوجية أي آثار مصر القديمة، ومثل المعجم الطبي، أو المعجم البيولوجي، أو المعجم الجيولوجي … إلخ.
ولا أنسى هنا ضرورة طبع معاجمنا القديمة، مثل أساس البلاغة للزمخشري، أو لسان العرب لابن منظور أو القاموس للفيروزابادي؛ فإنها تراث لا يسع مثقفا أن يستغني عنه.
ونحتاج إلى أن نذكر هنا مرورًا تلك المعاجم الأخرى التي تترجم الكلمات الأجنبية إلى ما يقابلها من كلمات عربية؛ فإن ما يوجد منها يحفل بالأخطاء اللغوية والطبعية، كما هو يخلط أحيانًا بين لغة الكتابة واللغة العامية، مما يضلل الطالب فضلًا عن التلميذ الناشئ، وهذا إلى غلاء أثمانها؛ فإن المعجم الذي يباع بجنيهين أو ثلاثة جنيهات لا تزيد كلماته على معجم إنجليزي أو فرنسي أو ألماني يباع بسبعة أو ثمانية قروش، بل أحيانًا تنقص كلماته عمَّا في هذه المعاجم الأجنبية الرخيصة.
ويجب على وزارة التربية أن تضطلع بإيجاد معاجم صحيحة ورخيصة لطالبي اللغات الأجنبية.
وأخيرًا أقول عسى أن يكون من الجرعة المرة التي تجرعناها بمشروع لاروس، بشأن طبع معجم عربي لنا، ما يحفزنا ويبعث فينا النخوة لإيجاد نهضة معجمية نخدم بها الثقافة العربية العصرية.