لنكن موسوعيين
نعني بكلمة «الموسوعة» ما يُسَمَّى عادة «دائرة المعارف»، وهذه العبارة الثانية ليست تسمية وإنما هي تعريف للكلمة الأولى، ونستطيع أن نقول إن هذا الكاتب موسوعي؛ أي أنه يتناول في كتاباته موضوعات كثيرة مختلفة ومتنوعة، وكثير من كتاب عصرنا قد ارتفعوا إلى هذا المستوى، فالكاتب الأديب يدرس العلوم، والعالم يفلسف ويكتب في الأدب أو الفلسفة أو العلم سواء.
وعلى الشاب الذي يتوخَّى الثقافة أن يدرس جميع المعارف البشرية، ولسنا نقصد من هذا القول إلى أنه يجب أن يقرأ أو يدرس جميع المؤلفات؛ ففي المتحف البريطاني مثلًا نحو أربعة ملايين كتاب، وليس من المعقول أن ننصح بدراستها، ولكنا نعني ألَّا نتخصص ونتضيق، بل «نتعمم» ونتوسع، فإن المعارف البشرية مرتبطة، ولن نستطيع أن نفهم الحضارة العصرية حق الفهم إلا إذا ألمَمْنَا بهذه المعارف، وعرفنا القواعد التي تنبني عليها المبادئ التي تسير هذه الحضارة على ضوئها، وقد يعترض هنا بأن هذا الاتجاه الموسوعي ينتهي إلى أن نكون سطحيين حاطبين نجمع من هنا وهناك، ولكن الذهن البشري ليس آلة ميكانية يتقبل ويرتسم وينطبع، بل هو جسم حي يقبل ويرفض، ولا بد أنه ستنشأ بينه وبين المعارف علاقة فسيولوجية كما بين المعدة والطعام، وهو لذلك سينتهي بالتخصص أو التوسع في بعض المعارف دون غيرها؛ لأن للأولى اتصالًا حيويًّا أو فسيولوجيًّا بكيانه النفسي وجهازه الذهني، ثم هو يتعرف إلى سائر المعارف عن بُعْدٍ تعرفًا سطحيًّا أو كالسطحي، على قدر مساسها بكفاءاته واتجاهاته واهتماماته.
وفي مجتمع ديمقراطي كالذي تعيش فيه الشعوب المتحضرة، وهو أيضًا الذي نتوخى تحقيقه عندنا، يحتاج الشعب إلى تناسق فكري فلا يكون جهل وحماقة إلى جنب المعرفة والحكمة؛ لأن نتيجة هذا التفاوت تؤدي إلى أن يعرقل بعض الشعب تلك الإصلاحات أو التغيرات التي يطلبها بعضه الآخر المستنير؛ لأنه — لجهله — لا يدري قيمتها، فقد يقترح وزير مثلًا تعقيم بعض الناس حتى لا يتناسلوا فيرث أبناؤهم عاهاتهم، أوقد بقترح آخر تقديم اللبن بالمجان لتلاميذ المدارس؛ ففي الأمم الديكتاتورية تكفي إرادة الديكتاتور لسن هذين القانونين، ولكن الأمم الديمقراطية تحتاج إلى رأي الشعب، فإذا لم يكن أفراده مستنيرين بثقافة عامة عن البيولوجية والطب، فإنهم في الأغلب يعارضون الإصلاح.
هذه هي القيمة العامة للشعب من التوسع الثقافي، ولكن هناك قيمة شخصية للفرد، وهو أنه يفهم الحضارة التي يعيش فيها حتى يلتئم بها، ولا يصطدم بالغريب فيها ويحسبه لجهله ضارًّا أو زائدًا، فنحن مثلًا نستخدم السيارة، ونستعمل التلغراف والتليفون، ونستمع إلى الرديوفون، ونركب القطار أو الطائرة أو الترام، ونسكن المباني الكبيرة أو الصغيرة، ونستمتع برؤية التحف من تمثال أو رسم، ونقتني الأثاث الفاخر ونتعالج بالطب، وليس من المعقول أن ندرس العلوم الكيماوية والبيولوجية أو الميكانية والفيزيائية التي تحتاج إليها كل هذه الأشياء، كما ليس من المعقول أن يطلب من أحدنا وهو غير متخصص أن يعرف علم الجراحة وفنها، أو أن يركب سيارة ويصلح تلفونًا إذا حدث به خلل أو تعطل، ولكن المعقول أن يعرف كل منا المبادئ العلمية التي يهتدي بها الطبيب والمهندس والمعمار والقاضي، كما يجب أن يكون كل منا أديبًا وفنانًا إلى حد ما حتى ولو لم يحترف الأدب أو الفن، فنحن مثلًا حين نقصد إلى النجار الذي يصنع لنا الأثاث يجب أن نعرف شيئًا عن الخشب وأنواعه النفيسة والخسيسة، وإلا كنا عرضة للغش، وكذلك يجب أن نكون على شيء من الذوق الفني، والدراية بالطرز العصرية في الأثاث؛ وإلا صرنا أيضًا عرضة للسقوط في جلافة أو فجاجة فنية لا تغتفر، وكل هذه المعارف مع ذلك لا تؤدي بنا ولا تؤهلنا لأن نكون نجارين.
وكذلك الشأن في المعارف الأخرى؛ فإننا حين ندرس مبادئ الطب أو الهندسة أو البناء أو الكيمياء أو الزراعة لن نحترف هذه العلوم، ولكننا نعرفها ونُلِمُّ بمبادئها كي نعرف الحضارة التي نعيش فيها، ونعين القيم التي تهتدي بها في تقديراتنا الاجتماعية والروحية؛ وعندئذٍ نستطيع أن نرتئي الرأي السديد المبني على المعارف في أي مشروع يعرض علينا لمصلحة الأمة أو أي طائفة منها، ونستطيع أن نفهم النظام الذي يسعد به ناس، والفوضى التي يشقى بها آخرون، وقد نشقى بها نحن أنفسنا، وعندئذٍ لا تكون شكايتنا خاصة بنا، بل عامة للشعب، بل ربما للعالم كله.
فلنكن إذن موسوعيين، ندرس التاريخ والأدب والفلسفة، كما ندرس الاقتصاديات والاجتماع والكيمياء، والأصول العلمية التي بنيت عليها الحضارة والصناعة القائمة، والرجل الذي يقصد من الثقافة إلى أن يكون موسوعيًّا يجد بعد سنوات من الدراسة أنه انتقل من الركود إلى التطور؛ لأنه يجد في مجموعة المعارف البشرية الحاضرة ما يمكن أن يغير الدنيا إذا استعمل في خدمة البشر، والمعرفة قوة لا تطيق الحبس، ومن هنا نشأت كراهة الحكومات الإمبراطورية والاستبدادية للتعليم، بل محاربتها له.
وعندما نكون موسوعيين نصبح أيضًا عالميين، فلا ننشد الرقي المادي فقط لوطننا، بل ننشد تلك المثليات العالمية الكبرى، فنحقق لأنفسنا الرقي الروحي بالجهاد لهذه المثليات، وتتكون لنا — بكل ذلك — شخصية جهادية متطورة.