الجريدة والمجلة
الجريدة والمجلة هما أعظم المواد الثقافية خطرًا وخطورة في مجتمعنا؛ لأنهما بطبيعة الظهور الدوري لأعدادهما تهيئان القارئ لألوان من الإيحاء أو الدعاية قد تكون حسنة مرجوَّة الخير، أو سيئة حبلى بالشر، والجريدة رخيصة يسهل شراؤها، كما إنها تجذب القارئ بمختلف الألوان على مائدتها، من خبر إرجافي في السياسة إلى صور مغرية إلى قصص مسلية إلى غير ذلك، وهي في أيدي التجار تجارة، وقد تكون مثل تجارة النخاسة في بيع الرذائل، فالمتجر بالصحافة يستكتب العوام كي يكتبوا للعوام، ويخاطب أحط الرذائل في القراء، ثم يجعل جريدته إعلانات في ظهورها بعض الأخبار والصور التي تخضع للغاية من هذه الإعلانات؛ فالجريدة التي تعينها إحدى الشركات التي تبيع الخمر أو الدخان مثلًا لا يمكنها أن تكتب مقالًا في الضرر الذي يعود منهما على صحة الجمهور.
والجريدة أو المجلة التجارية، كما هي خاضعة لإعلانات التجار، كذلك هي خاضعة للإعلانات التي تحصل عليها من الأحزاب، فكي نقرأ الجريدة أو المجلة بفهم وتمييز، يجب أن نقدر هذه العوامل الخفية، وأن نزن الخبر أو المقال أو الصور في ضوء هذه العوامل.
كما يجب علينا أن نقدر على الدوام أثر الإيحاء من التكرار، ويجب أن نسأل عن المال الذي يدور به دولاب الجريدة، ومن أين مأتاه؛ فقبل سنوات مثلًا أفلست إحدى شركات التأمين، فلم ينشر هذا الخبر في الجرائد في مصر مع أن كثيرًا من قرائها كانوا يملكون أسهم هذه الشركة، وترك هؤلاء المساكين على جهل بهذا الإفلاس حتى تخلص غيرهم من حاملي هذه الأسهم ووقعوا هم في الإفلاس أو الخسار؛ وذلك لأن وراء هذه الشركة شركة أخرى كانت تنتفع بالإعلان عنها في الجرائد المصرية.
يرحمك الله يا أبي لقد كنت لا تشتري حذاء جديدًا إلا بعد أن تجربه على رءوس زوجاتك … إنه يفخر بشرقيته!
وهذا المعنى للمجتمع الشرقي الذي يدعو إليه هذا الكاتب هو الذي يجب أن يكافحه كل رجل بار بالمرأة والأمومة، وليس على هذا الكوكب شرق وغرب، وإنما عليه أمم منحطة وأمم راقية.
والجريدة أو المجلة الحسنة هي التي تنزع إلى الفلسفة، وتنبه الضمير، وتستفز الذهن إلى التفكير، ولو كانت مخالفة لآرائنا، وإذا تحرى القارئ الانتفاع والارتفاع بالجريدة فإنه لا بد مستغنٍ عن كثير مما يطبع وينشر، وهو إذا كان عارفًا بلغة أجنبية فإنه يجب أن يشترك في الجرائد والمجلات الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية؛ كي يتصل بالعقل العام على هذا الكوكب، ولكنه حتى مع امتيازه هذا محتاج إلى قراءة جريدة يومية عربية على الأقل، فعليه أن يختارها مع العناية، ويدرس أغراضها الخفية الظاهرة، وعليه أن يحاسب نفسه من وقت لآخر عن الإيحاءات السيئة التي ربما تلتبس بها لأنه يقرأ أخبارًا لم يتنبه إلى الدعاية المختفية وراءها، وعليه أن يذكر أن هناك «أكاذيب سلبية» هي تلك الأخبار التي منعت الجريدة نشرها، كما حدث في خبر الشركة التي أشرنا إليها.
أما كيف نختار الجريدة، فإننا قبل كل شيء يجب أن ننظر إليها كما ننظر إلى مدرسة أو مكتبة مفيدة تخدمنا في رقينا، فيجب على الأقل أن يكون بها كاتب عصري مستنير يفهم التيارات الاجتماعية والاقتصادية التي تكتسح العالم، ويجب أن تكون حاوية لطائفة من الأخبار الأصيلة التي تنقل إلينا صورة صحيحة عن التغير أو التطور العالمي.
وفي الجريدة — كما في الكتاب — يجب أن نقرأ بالقلم، فنبرز الخبر الخطير بعلامة واضحة، ونستشير الخريطة، ونقرأ الصفحة المالية، ونتعلم كيف تكون تقلباتها أحيانًا دلالة على تغير السياسة، بل يجب أيضًا أن نقرأ الخبر الذي لم يكتب، ونتعرف على الأسباب التي تمنع النشر لهذا الخبر أو ذاك.
وفي مدة الحرب تعود الجريدة ضرورية؛ لأن الحرب — كما قال ماركس — هي قاطرة التاريخ لسرعة الحوادث فيها، فنحن نقرأ في الجريدة تاريخًا حيًّا لعصرنا، وهي لذلك تجذبنا بقوة الحوادث، بل إن أيام الحروب كثيرًا ما كانت سببًا لجذب العامة إلى قراءة الجريدة واعتياد شرائها مدى الحياة.
- (١)
يجب أن نتعلم القراءة السريعة للجرائد والمجلات، وأول ما نحتاج إليه في ذلك ألَّا نحرك الشفتين أو اللسان ونحن نقرأ، وعندئذٍ لا تستغرق الجريدة من وقتنا في المتوسط أكثر من عشر دقائق.
- (٢)
يجب ألَّا نقرأ الجريدة التي تزكي آرائنا وتمالئ حزبنا فقط، بل يجب أن نقرأ تلك الأخرى التي تمثل رأيًا آخر، وإذا استطعنا فلتكن لنا جريدتان تختلفان في الرأي.
- (٣)
يجب أن نحدث أعضاء البيت عن موضوعات الجريدة؛ كي نرفعهم من لغو القيل والقال إلى أحاديث السياسة والاجتماع، وقد نصل من ذلك إلى تكافؤ ثقافي بين أعضاء العائلة.
- (٤)
من الحسن أن نصطنع عادة القص، فنخصص ملفًّا أو ملفات نقص فيها الأخبار أو المقالات أو الإحصاءات التي نحتاج إليها في المستقبل للمراجعة، وقد يكون أحد الملفات للأدب والآخر للسياسة، والاجتماع … إلخ.
- (٥)
وعلى كل حال يجب ألا تغنينا الجريدة والمجلة عن الكتاب؛ لأن الكتاب هو أساس الثقافة.
- (١)
أنها غير متصلة بالعقل العام على هذا الكوكب، فقارئها — بخلاف القارئ للصحف الأوروبية — يجهل التيارات العالمية في السياسة والاقتصاد والاجتماع.
- (٢)
أننا لا نجد فيها الكاتب المربي الذي كنا نجده مثلًا في شخص لطفي السيد في «الجريدة» قبل خمسين سنة، أو الكاتب الذي يرفع الصحافة إلى مقام الأدب.
- (٣)
أن الإقبال على المجلات قد عظم، ولكن المجلات مع ذلك قد انحطت بدلًا من أن ترتقي، وليس عندنا مجلة تمثل ما سميناه «العقل العام» فتنقل إلينا تطورات الصين أو الهند الاجتماعية، ومشكلات الولايات المتحدة، وتجعلنا نحس أن مصر جزء من الكرة الأرضية وأنها لم تنسحب من التاريخ.
- (٤)
أننا في حاجة إلى مجلات أسبوعية وشهرية لدرس السياسة العالمية والتطور الاجتماعي والتوجيه العلمي، وتربيتنا ستبقى ناقصة ما لم تنشأ هذه المجلات في مصر.
- (٥)
أن معظم المجلات في مصر يعيش بالتحرش بالغريزة الجنسية، سواء بالصورة أم بالكلمة، وهي كبيرة الضرر لهذا السبب.
هذا ما يقال للقارئ، ولكن يجب أن تقال كلمة أخرى للحكومة المصرية، وهي أنه لا يجوز في القرن العشرين أن تفرض غرامة على التفكير حتى ولو أسميت هذه الغرامة باسم التأمين أو الضمان؛ فإنه لا يجوز الآن لأحدنا أن يخرج جريدة إلا إذا أدى مبلغ ٣٠٠ جنيه، ولا يخرج مجلة إلا إذا أدى ١٥٠ جنيهًا، أو قدم ضمانًا بأحد هذين المبلغين.
ومن المؤلم أن نقول إن شعبًا صغيرًا مثل الشعب الفنلندي الذي لا يتجاوز عدده ٣٨٠٠٠٠٠ تصدر له ٢٠٩ من الجرائد اليومية و٥٥٠ من المجلات، وكل جريدة أو مجلة من هذه الصحف هي بمثابة الجمعية الثقافية أو السياسة لأنها تجمع حولها طائفة من القراء الذين يقرءون ويدرسون، ولكل طائفة نظر عالمي خاص، أو مذهب اجتماعي معين يفيد في التنوير والتثقيف، ونحن في مصر نزيد أربعة أضعاف على سكان فنلندا ومع ذلك ليس لنا سوى سبع أو ثمان من الجرائد اليومية ونحو عشر من المجلات.
أجل يجب أن يكون إصدار الجرائد والمجلات حرًّا بلا قيد ولا شرط، ولا حاجة إلى دفع أي ضمان مالي؛ لأنه في حقيقته غرامة على التفكير الحر، وهو يؤخر تطور الأمة.
وآراء الأمة تتعدد وأذهانها تتفاعل بتعدد هذه الجرائد، فينشط التفكير.