كيف نقرأ الكتاب
إذا كانت الجريدة كبيرة الخطورة في مجتمعنا لقوة الإيحاء الذي تحدثه بالتكرار، وإذا كانت خطورتها هذه تعظم مدة الحرب لأن العالم يسرع عندئذٍ في تغيُّره وتطوره، فإن الكتاب لا يزال وسيبقى قوي الأثر في التثقيف الذاتي، ولن تعادله، بل لن تقاربه الجريدة في ذلك.
والشاب الذي ينشد الثقافة يجب أن يجعل معظم فراغه وقفًا على دراسة الكتب، ولا نقول قراءتها؛ لأن الدراسة هنا يجب أن تكون عادة المثقف، أي يجب عليه أن يقرأ بالقلم، يعلق هنا، ويشرح هناك على الهوامش، ولا يبالي أن يبلى الكتاب، وهو حين يفعل ذلك إنما يشارك المؤلف في التأليف، ويعود هذا الكتاب «العام» ملكًا خاصًّا له قد طبعه بشخصيته بما ترك في هوامشه من شروح وتعليقات، وخير من هذا أن نكتب ملخصات في كراسة عن كل كتاب، حتى نعين درجات انتفاعنا بها، وكما أننا نُعْنَى بطعامنا، نختار أفضل ما يُباع منه كي ننتفع به في صحتنا، وكما نختار أجود الأقمشة لملابسنا، كذلك يجب أن نختار أفضل الكتب لتثقيفنا، وذلك بأن نعمد إلى خير المؤلفين الذين نعرف أننا ننتفع بهم فنقتني مؤلفاتهم، ويجب أن نؤثر المطولات على المختصرات.
ثم يجب أن نتوخى التخطيط دون التسكع، فلا نقرأ جزافًا بل ندرس ونهدف عن تبصر إلى الغاية التي نريد تحقيقها في الدرس، وليس من الشاقِّ على الشاب أن يخلو إلى نفسه ويتعرف إلى حاجاته الثقافية ثلاث أو أربع جلسات، يخرج منها ببرنامج لسنة أو سنتين يعيِّن فيها المواد التي يجب أن تُدْرَسَ في هذه المدة، والشاب هو خير من يختار لنفسه المواد التي يريد أن يدرس؛ لأنه في هذا الاختيار يصدر عن حاجة نفسية، ولكنه قد يحتاج هنا إلى من يرشده إلى أسماء بعض الكتب التي ينتفع بها.
وفي عالم الثقافة كتب تُعَدُّ أمهات يجب أن يعرفها كل مثقف، ونعني كل مثقف في العالم، كي يصل إلى ما نسميه «العقل العام»، وقد وضع بعضهم قوائم «بمئة كتاب» وجدوا أنَّها ضرورية لكل دارس، وسنبحث هذا الموضوع في فصول قادمة.
وعلى القارئ — أو بالأحرى الدارس — أن يُعْنَى بمكتبته، فيقتني أفخر الخزائن والرفوف، ويجلد الكتب؛ وذلك كي لا ينفر من بذاءتها، ويجب أن يجد في مكتبته كل إغراء لجذبه إليها، سواء من ناحية اعتدال الهواء فيها أو من ناحية اختيار الأثاث.
والشاب المحظوظ هو الذي يهوى الثقافة؛ أي إنه يكون قد تعوَّدها عن هواية لازمته منذ الصبا، فهذا لا يكاد يحتاج إلى قراءة هذا الكتاب؛ لأن بين الكتاب وبينه علاقة فسيولوجية، فهو يختار الكتب عن حاجة نفسية يحسها، ونفسه تنمو بالكتب كما ينمو جسمه بالطعام.
وممَّا يحسن بالشاب أيضًا أن يعمد إلى أحد المؤلفين العالميين الذين أحبهم ووجد لهم الأثر الكبير في عصرنا، فيقرأ ويدرس كل كتبه هذا المؤلف منذ شرع يكتب، ولا يترك شيئًا له يستطيع الحصول عليه؛ لأنه حين يفعل ذلك يضم إلى اختباراته الشخصية اختبارات هذا المؤلف ورؤياه في الدنيا، وهو حين يتعرف إلى تطور المؤلف، وكيف تغير في أربعين أو خمسين سنة، إنما يتعرف إلى تطور العصر أيضًا.
فلنفرض أن القارئ يحب طه حسين مثلًا، فعليه عندئذ أن يترجم هذا الحب إلى دراسة كل ما كتبه طه حسين ممَّا يباع وممَّا لا يباع، وعليه أن يتقصى كتاباته، وهو طالب بالأزهر قبل ٤٥ سنة، وعليه أن يقرأ كل ما كُتِبَ ضده كما يجمع مؤلفاته، وهو بهذا النشاط ينتفع باختبارات طه حسين ورؤياه وكأنه قد عاش حياته وشاركه في مؤلفاته، وهكذا الشأن في سائر المؤلفين؛ فإننا يجب أن نختار واحدًا أو أكثر، نتعرف إلى حياتهم واختباراتهم، ونجمع مؤلفاتهم، حتى نستبصر بالتطور الفكري الذي كانوا يدركونه فترة بعد فترة من حياتهم.
ولسنا نبالغ في قيمة الكراسة للتلخيص والتعليق؛ فإن الطالب الذي يحقق ويدقق يجب أن يقتني هذه الكراسة، ولكن يجب عليه أيضًا أن يقتني كراسة أخرى يقيس أو يعين فيها مراحل رقيه الذهني بصرف النظر عن هذا الكتاب أو ذاك؛ أي إن الكراسة الأولى تختص بتقدير، الكتب أما الثانية فبتقدير رقيه الشخصي والذهني.
ويجب على الطالب ألَّا يسأم من التساؤل: هل أنا ارتقيت بدراسة هذا الكتاب؟ هل أنا ارتقيت في السنوات الثلاث الماضية؟ وما هي أوجه الرقي التي أستطيع أن أقول إني حقَّقتها في هذه السنوات؟
وإذا كان هذا التساؤل قد يؤدي إلى شيء من النفور من الكتب فلا بأس في ذلك؛ لأن هذا النفور هو في صميمه زهد روحي وحديث نفسي سوف يؤديان إلى زيادة التحقيق والتدقيق في التثقيف الذاتي، بل ربما تكون هذه الفترات فرصة لتغيير القيم الثقافية والانسلاخ في الشخصية، كما تنسلخ العذراء وهي في فيلجتها — أي خدرها — إلى الفراشة، فيخرج الطالب بعد هذا النفور إلى اهتمامات جديدة لم تكن له من قبل، وقد يصل منها إلى آفاق أرحب، وأفلاك أبعد، فيعرف كتابًا جددًا يحصل منهم على تربية جديدة تثرى بها نفسه، وربما تتغير بها أهدافه.