مشكلة الثقافة في مصر
مسسنا هذا الموضوع في الفصل السابق من بعض النواحي، ونحتاج هنا إلى أن نمسه من نواحٍ أخرى كي نهتدي إلى مراسينا في الأدب العالمي، أو بالأحرى نتعرف إلى الأسباب التي عملت لتأخير أدبنا وتخلُّفه عن سائر الآداب العالمية، فليس شك في أننا في تاريخنا القريب، أي منذ ستين سنة، توالت علينا محنٌ سياسية واقتصادية واجتماعية لا يجهل أحد منَّا الأصل الوحيد الذي ترجع إليه وهو الاستعمار، وقد أصيبت النهضة الأدبية في مصر بقسطها من هذه المحن، فكوفح التعليم، وخاصة تعليم النساء، كما مُنِعَتِ الأمة من تأسيس جامعة مدى خمسين سنة تقريبًا، وفرضت غرامات على التفكير، فمن شاء مثلًا أن يخرج مجلة جديدة، فإن عليه أن يؤدي «تأمينًا» هو في الحقيقة غرامة لا أقل ولا أكثر.
وبهذه الوسائل حيل بيننا وبين النزعات العالمية الجديدة؛ ولذلك فإن كثيرًا من تفكيرنا العصري هو تفكير القرن التاسع عشر أو ما قبله، وليس تفكير القرن العشرين، وقد تغير العالم، ولم نحس نحن هذا التغيير. لهذه الحيلولة بيننا وبين التفكير الجديد.
بل إننا نجهل حتى التفكير القديم ومبادئ الثقافة العامة التي يحتاج إليها كل مبتدئ، فليس في اللغة العربية كتاب عصري عن الصين أو الهند أو تاريخ ألمانيا أو أمريكا الجنوبية أو نحو ذلك من المؤلَّفَاتِ التي لا يمكن أن تصطدم بالأغراض الإمبراطورية إلا من ناحية أنها ثقافة عامة قد تحدث عطشًا إلى القراءة والدراسة، وعندئذٍ يعدو تأليف الكتب تجارة رابحة يُقبل عليها القراء فيحترفها المفكرون.
وقد جهلنا النزعات الجديدة بسبب هذه الأمية التي شملت الشعب، حتى لو أن أحدنا نقل إلى العربية كتابًا حديثًا عن نظرية التطور أو الحركة الاشتراكية أو النزعات الفنية الجديدة أو التحليل النفسي؛ لما استطاع أن يؤدي المعاني في دقة باللغة العربية لقلة ألفتنا لهذه الموضوعات أو لأننا لم نألفها بتاتًا؛ ولذلك نحن من ناحية التفكير العصري في جهل بل في غيبوبة نفسية أو ذهنية.
وبؤرة الأدب العربي اللامعة في وقتنا هي القاهرة، ولكن هناك بؤرًا صغيرة أخرى في بغداد أو بيروت أو دمشق، وبعض هذه البؤر يمتاز بالتجدد أكثر من القاهرة؛ فإن بيروت تعالج مشكلات العالم بحرية فكرية ليس لها نظير في مصر، وكذلك تفعل أحيانًا بغداد، أما دمشق فلا تزال تجعل همها الأول دراسة العرب القدماء والتزام التقاليد العربية.
وميزة بيروت أنها كانت منذ أكثر من ثمانين سنة مقر جامعتين عصريتين، هما الجامعة الفرنسية والجامعة الأمريكية، وهذا غير عشرات المدارس التبشيرية في المدن والقرى الصغيرة؛ لأن اللبنانيين لم يعارضوا التبشير، فانتفعوا بهذه المدارس وتعلَّموا العلوم العالية قبلنا، وقد مرت علينا سنوات كنا نجلب الأطباء للجيش المصري والموظفين للسودان من جامعتي بيروت، وبالطبع هناك أسباب أخرى لهذا العمل، ولكن مما لا شك فيه أن اللبنانيين انتفعوا كثيرًا بمدارس المبشرين، وبهاتين الجامعتين، حتى يمكن أن نقول إن الأمية قد محيت من لبنان منذ أكثر من ثلاثين سنة في حين هي لا تزال متفشية بيننا.
والمدارس التبشيرية، على الرغم ممَّا قد تحدث من مخالفة للعقائد، تخدم الأمة التي ترضى بتعليم أبنائها فيها، ونهضة الصين تُعْزَى إلى حدٍّ عظيم إلى هذه المدارس، ولكن الهند لم تنتفع مع الأسف بهذه المدارس؛ لأن الحكومة المتسلطة أيام الإنجليز كانت تمنع المبشرين المسيحيين من تجاوز الشواطئ إلا على مسافة لا تزيد على خمسة أميال، ولست في حاجة هنا إلى إيضاح مسهب لهذا العمل؛ فإن المستعمرين الإنجليز كانوا يخشون المدارس التبشيرية لأنها تُعَلِّمُ وهم يطلبون الجهل.
وما فعلته حكومة الهند (الإنجليزية) من منع المبشرين، قد فعلناه نحن شعبًا وحكومة، ولو أننا تسامحنا، كما فعل اللبنانيون، لكان في أنحاء بلادنا الآن نحو ألف مدرسة راقية ينفق عليها الأبرار من الغربيين وغيرهم؛ وعندئذٍ كنا نكون أمة متعلِّمة مئة في المئة مثل اللبنانيين، ولكنَّا آثرنا خطة الحكومة «الهندية» أي الإمبراطورية البريطانية على الخطة اللبنانية، وأصبحنا ونحن والهنود سواء في تفشي الأمية.
وسوريا — بعكس لبنان — رجعية التفكير لهذا السبب أيضًا، ونحن نعرف في مصر أن الطبقة المستنيرة من الأمة هي تلك التي تعلِّم أفرادها في مدارس المبشرين الفرنسيين، وهم مع الأسف أفراد قلائل، ولكنهم يتصلون — عن طريق اللغة الفرنسية — بالعقل العام، ويدرون بالتطورات العالمية، ويقرءون الصحف والكتب الفرنسية، ويمتاز شبان اليهود واللبنانيين والإيطاليين واليونانيين في قطرنا بهذا التعلم الفرنسي في مدارس المبشرين الفرنسيين، وهم بالطبع لا يقرءون المؤلَّفات العربية، ولكن ثقافتهم عصرية، وهم يضعون أناملهم كل يوم على نبض العالم يعرفون حركاته وتطوراته ونزعاته.
على أن ما فقدناه توشك الجامعات العصرية بالقاهرة والإسكندرية وأسيوط على أن تعوضنا منه، فهنا دراسات عصرية جديدة هي الآن خميرة صغيرة. ولكنها مثل الخمائر ستربو وتتفشى في أنحاء البلاد، وتكون لنا ثقافة جديدة سوف تجعلنا نعيش بأذهاننا ونفوسنا في القرن العشرين.
وقد احتجت إلى هذا البيان، مع قلة قيمته في الإرشاد الشخصي للشاب، كي نعرف العوامل الخفية والجلية التي عملت في تأخير ثقافتنا العصرية.
وأدبنا العربي — لهذه الأسباب التي ذكرنا — يعجز عن ترقية الروح المصري، وما فيه من حياة إنما هو دبيب أو بصيص نرجو أن يكون نورًا مشرقًا، ونحن لا نزال في مشكلة لم تحل، وإنما نرجو حلها. ولباب هذه المشكلة أننا يجب — بالمدرسة والجامعة والكتاب — أن نربي جمهورًا عصريًّا مستنيرًا يستطيع أن يتفاعل مع المؤلف العصري ويطلبه.