اللغة الأجنبية
كان جوتيه الأديب الألماني الكبير يقول: «من لا يعرف غير لغته لا يعرف لغته»؛ وذلك لأنه — بالمقارنة — يستطيع أن يصل إلى الحقائق اللغوية التي لا يدريها المقتصر على لغته، وهو يترقى بهذه المقارنة إلى إدراك الميزات للغته الأصلية كما يقف على عيوبها، وفي كل لغة راقية ميزات وعيوب، ونحن حين نقرأ الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية نقف من المعاني فيهن على أضواء وظلال تختلف عمَّا عرفناه في لغتنا العربية، وهذه المعاني تجعلنا أعمق فهمًا للغتنا وأكثر إدراكًا وتقديرًا للمحاتها وإيماءاتها الخفية.
وهذا إلى أننا نتصل عن سبيل اللغة الأجنبية بعشرات من العلوم والفنون، التي لا نقول إنها لم تعالَج المعالجة الحسنة في اللغة العربية بل نقول إن مجرد أسمائها لم يُعْرَفْ إلى الآن في لغتنا؛ وذلك لأن اللغات الأوروبية سبقت لغتنا في النهضة الكبرى، وارتفعت برقي الشعوب التي تتكلم بها، وفي القرون الخمسة الأخيرة، حين كان الأتراك يسحقوننا، والمماليك يتهتكون في الاستبداد بنا، كان الأوروبيون يغرسون الأصول لحضارة بشرية عالمية، وقد عالجوا لغاتهم بحيث صارت تؤدي المعاني الدقيقة، وتعين المفكرين على الابتكار والتوليد بما فيها من كلمات جديدة نَمَتْ بها وارتقت.
واللغات الأوروبية العصرية تختلف — زيادة على ما ذكرناه — من لغتنا في المزاج الأدبي؛ فإن لغتنا اقتباسية تقليدية، كثيرًا ما يقوم الاقتباس فيها مقام التفكير، أما اللغات الأوروبية فيعتمد كُتَّابُهَا على الابتكار في تأليف المعاني، فيكسبونها حيوية ونشاطًا لا تصل إليهما لغتنا في وقتنا الحاضر، وظني أن هذا الجمود الذي نجده في لغتنا، أو بالأحرى أن هذا الجمود الذي يعمد إليه بعض كتابنا، في الاعتماد على الاقتباس والتقليد بدلًا من الابتكار والتفكير، إنما يرجع إلى أن لغتنا محرومة من نحو مئة علم وفن، وهذا الحرمان قد جعلها في قحط للمعاني المبتكرة، فانتكس الكتاب إلى المعاني القديمة، واقتصروا عليها، يجترُّونها ويقتبسون عبارات القدماء المزخرَفة كأنها تفكير وابتكار.
والشاب المصري أو العربي الذي يريد أن يستنير في عصرنا يجب أن يعرف لغة حية مثل الإنجليزية أو الألمانية أو الروسية أو الفرنسية، وهو إذا لم يعرف إحدى هذه اللغات فلن يستطيع أن يعد نفسه حاصلًا على ثقافة عصرية، وربما سنبقى على هذه الحال مدة طويلة، إلى أن يتغير مزاج الأمة كما تغير مزاج الأتراك والصينيين والهنود، فنُقبل على الحضارة العصرية ونعيش فيها بنفوسنا كما نعيش فيها بأجسامنا.
وليس شاقًّا على الشاب المصري أن يتعلم لغة أجنبية؛ فإنه إذا أرصد من وقته كل يوم ساعة لقراءة جريدة فرنسية أو إنجليزية تصدر عن القاهرة، مع بعض الكتب من الأدب العالي الفرنسي فلن يمضي عليه عام حتى يكون قد قطع شوطًا كبيرًا في فهم هذه اللغة، وبالطبع يحتاج الراغب في هذه الدراسة إلى دروس ابتدائية تمهد العقبات الأولى على يد مدرس متمرن، ولكنه لا يحتاج إلى هذا الدرس أكثر من شهرين أو ثلاثة أشهر، ثم هو بعد ذلك يستطيع أن يستقل.
ويمكننا أن ندرس أي لغة أجنبية بإغفال النحو إغفالًا تامًّا (في الإنجليزية مثلًا) أو جزئيًّا في سائر اللغات، وأن ننجعل الجملة، لا الكلمة، وحدة التعليم والفهم، ونحن بالطبع نُغفل قواعد النحو لأننا لا نريد أن نكون كتابًا، بل نطمع إلى أن نكون قارئين فقط، وتمتاز اللغة الإنجليزية امتيازًا عظيمًا جدًّا بسهولتها وخلوِّها من الجنس؛ إذ ليست الأشياء فيها مذكرة أو مؤنثة، وقد يكون هذا الامتياز أحد الأسباب لأن تصبح يومًا ما لغة عالمية، والمفكرون من الإنجليز مثل أوجدان يزيدون هذا الامتياز قوة بإلحاحهم في تيسير اللغة الإنجليزية بحذف الكلمات الزائدة التي يمكن الاستغناء عنها.
وعندما نقارن بين خريجي المدارس الفرنسية والمدارس الحكومية التي تعلم الإنجليزية نجد أن أولئك يمتازون بالقدرة على قراءة الكتب الفرنسية في حين يعجز هؤلاء عن قراءة كتاب في اللغة الإنجليزية، بل لقد رأينا صبيانًا في السنة الثانية أو الثالثة بالمدارس الفرنسية الثانوية يقرءون الكتب الفرنسية ويتذوقون أدبها في حين يحتاج طالب الجامعة المصرية الذي تعلم الإنجليزية إلى مجهود كبير جدًّا لفهم كتاب بالإنجليزية، وليس ننكر أن التفوق في اللغة الفرنسية قد تحقَّق على حساب اللغة العربية التي تهملها المدارس الفرنسية، ولكننا نعتقد أن من الممكن مع ذلك أن نبتكر برنامجًا دراسيًّا للمدارس الثانوية يجمع بين إتقان اللغتين العربية والأجنبية، وذلك بالاستغناء عن بعض المواد العقيمة، مثل الجبر، وعن اللغات الأجنبية الإضافية، حتى يتوافر الوقت لدراسة لغتنا مع لغة أجنبية واحدة، ويجب على مدارسنا الثانوية أن تخرج مثقفين ولا تقنع بإخراج متعلمين، والفرق بين المتعلم والمثقف أن الأول يدري بعض المواد التي امتحن فيها، فتعلُّمه فعل ماضٍ، أما المثقف فيرغب في التعلم، وثقافته شهوة حية تعيش معه في المستقبل، فنحن حين نعلم التلميذ في المدارس الثانوية اللغة الإنجليزية بحيث نفتح له المرعى الخصيب لهذه اللغة في الآداب والفنون والعلوم، إنما نهيئه بثقافة سوف تجعله يشتري الكتب ويقرأ الجرائد والمجلات في هذه اللغة مدى حياته، فنحن لن نكسبه تعلمًا بل أكسبناه خطة وبرنامجًا، أما حين نعلمه الجبر، فإننا نثِق بأنه لن ينتفع به بعد تخرُّجه وخاصة إذا لم يلتحق بجامعة.
وعنايتنا بالمدارس الثانوية يجب أن تكون كبيرة؛ لأن المدارس الابتدائية لا تكفي للتثقيف، ولأن الالتحاق بالجامعة من حظ الأغنياء فقط، ولسنا نقصد بهذا إلى أن خريج المدارس الابتدائية لا يمكنه أن يطمع في تثقيف نفسه؛ لأننا نعتقد أن كل شاب حتى ولو لم يحصل على دراسة ابتدائية يستطيع أن يثقف نفسه إذا كان عنده النشاط والإرادة، ولكن نعني أن المدارس الثانوية تفتح للشاب أبوابًا يطل منها على ميادين مختلفة تحرك ذكاءه، فيجب أن ينتفع بهذه المرحلة من التعليم، وأن نجعل غايتنا منها تدريب الطالب على تربية نفسه، وخير للشاب أن يعرف لغة أجنبية واحدة يتقنها ويقبل عليها، ويتعلق بها، من أن يتعلم لغتين سرعان ما ينساهما لأنه لم يعشق أدبيهما، وكل ما يذكر منهما هو عناء الدرس واستظهار الكلمات.
ولو شئنا أن نختار للقارئ الذي يجهل اللغات الأجنبية، وينشد تعلُّم إحداها كي تكون مفتاحًا لتثقيفه الذاتي ونموه الدراسي، لاقترحنا الإنجليزية، فهي تمتاز بسهولتها كما تمتاز بوفرة الكتب التي تطبع فيها والتي لا تقل في اليوم عن مئتي كتاب جديد، وهي لغة مئتي وخمسين مليونًا من أرقى البشر في أمريكا وأوروبا وأستراليا والشرق الأقصى، ولا يكاد يستغني عنها أوروبي متمدن، ومستقبلها مع ذلك سوف يكون أعظم من حاضرها.
والشاب المصري الذي لم ينشأ على لغة أجنبية، والذي قضى فترة من شبابه وهو لا يقرأ سوى المؤلفات العربية، سوف يجد بعد تعلُّمه إحدى اللغات الأجنبية واطِّلاعه على آدابها والاشتباك في مشكلاتها الثقافية، أنه قد حقق لنفسه تطورًا بل انقلابًا عظيمًا، وأنه قد خرج من النظر القروي المحدود إلى الأمداء البعيدة والآفاق الفسيحة.
وليذكر القارئ ما سبق أن قلنا عن الفهم السلبي والفهم الإيجابي في الفصل الخاص بدراسة اللغة العربية؛ فإنه يمكنه أن ينتفع به هنا.
•••
وأعظم ما يحتاج إليه طالب اللغة الأجنبية هو معجم أجنبي عربي، وكذلك معجم عربي أجنبي، وللأسف جميع المعاجم المستعملة ليست من الإتقان بحيث تستحق النصح باستعمالها؛ فإن في مصر معاجم يباع أحدها بثلاثة جنيهات مثلًا لا يحوي من الكلمات مقدار ما يحويه معجم إنجليزي صرف، أو فرنسي صرف، يباع بخمسة أو عشرة قروش في لندن أو باريس.
وتحسن وزارة التربية إذا تولت إخراج المعاجم الوافية الصحيحة وباعتها للمتعلمين بأثمان منخفضة.