الآداب العالمية
الأدب هو التفسير الخيالي للحياة، وهو مثل الفلسفة يجب أن يتبع فيه كل قارئ مزاجه الخاص فلا يتقيد بآراء الغير، ولكن يجب أن نقرأ وندرس الآداب القديمة والحديثة، كي نطَّلع ونفهم، ثم نستنبط منها رأينا أو آراءنا الخاصة في ماهية الأدب، وربما كانت كلمة «الذوق» هنا أوفق للتعبير من كلمة «الرأي» لأننا نتذوق الأدب والموسيقا والفلسفة أكثر مما نرتئي فيها، ولكن هذا الذوق غير موروث؛ لأنه إنما يكسب بالدراسات والاختبارات، نعني الدراسات التي تشمل التاريخ والدين، ونعني الاختبارات التي تمر بنا في حياتنا، ومن كل هذه — أي الأدب والفلسفة والدين — نستقطر تلك الحكمة التي نعيش بها فترة حياتنا على الأرض، وكل من هذه الثلاثة يحتاج إلى الآخر، والتوسع في أحدها يحملنا على دراسة الاثنين الآخرين، وفي النهاية نجد أنه قد تكوَّنت لنا من هذه الدراسات ديانة بشرية وضمير عالمي وتبعات سامية، هي مزيج من العناء واللذة اللذين يتألف منهما الحب، كحب الأم لأولادها، فنحن عندئذٍ نرأم بالدنيا، ونعنى بتطورها ورقيها، ونلتذ الألم في سبيل هذا الرقي.
وقد سبق أن كتبنا فصولًا في ضرورة الدراسة للأدب العربي.
ولكنَّا لن نحصل على التربية الحقة إذا اقتصرنا على دراسة هذا الأدب، فيجب أن ندرس الآداب العالمية ونقرأ أحسن ما كُتِبَ في القرون الخمسين الماضية من صلوات إخناتون المصري إلى قصص دستؤفسكي الروسي.
وفي العالم مؤلفات استقرت وبرزت قيمتها على توالي القرون، فلسنا في حاجة إلى تعديد وشرح لها، ويسهل على القارئ أن يعرف تولستوي ودستؤفسكي وجوركي في روسيا، وكذلك جوتيه وشيلر في ألمانيا، وبيرون وبرنارد شو في إنجلترا، وفولتير وروسو وأناطول فرانس في فرنسا … إلخ.
واللغات الكبرى مثل الألمانية أو الإنجليزية أو الفرنسية تحوي جميع هذه المؤلفات الأدبية لأنها ترجمت إليها مع العناية والدقة، وبدهي أننا في حالنا الحاضرة لا نستطع أن نقول مثل هذا القول عن اللغة العربية.
وقراءة هذه الآداب تخرجنا من الأنانية الوطنية إلى الآفاق العالمية، وتزيد قدرتنا على الحب للبشر، وليس شيء أقرب إلى الدين من الأدب، ونعني الأدب العالي؛ فإن مقامات الحريري تعد مثلًا نوعًا من الأدب، ولكن لا يثير في أنفسنا الحاسة الدينية، ولا يربي ضميرنا؛ لأنه تسلية خفيفة سخيفة لا أكثر، ولكن قصة «الإخوة كارامازوف» للكاتب الروسي دستؤفسكي تغرس فينا الروح الديني، وتستنبط منا البر، وتجمعنا على الصلاح بل القداسة، وأذكر أني قبل نحو عشرين سنة حين قرأتها، كتبت مقالًا في إحدى المجلات قلت فيه إن هذه قصة يجب أن تُضَافَ إلى الكتب المقدسة، وليس في العالم كتب كثيرة يمكن أن توصف بهذا الوصف.
وكبار الأدباء في العالَمين القديم والحديث كانوا ينبعثون بهذا الروح الديني إلى تأليف كتبهم الأدبية، وكانت حياة كل منهم لهذا السبب حياة الجهاد الديني؛ فإن جوتيه كان يقصد إلى تربية الشخصية والنمو النفسي، وبرنارد شو قد أرصد حياته لتغيير العالم من الانفرادية إلى الاشتراكية، وولز قد ضحَّى حتى بفنه كي يصل إلى حكومة عالمية تعم التعليم والسلام والرخاء، وفولتير قد كافح طغيان العرش والكنيسة … إلخ، ويمكننا أن نقيس الأدب بجملة مقاييس ليس أقلها قيمة هذا المقياس الذي نعين به الناحية الدينية للكاتب ومؤلفاته، نعني حياة المؤلف ومادة مؤلفاته، فالكاتب الذي لا يحملنا على الصلاح والقداسة قد نعجب بفنه وبراعته وذكائه وعبقريته، ولكنه يبقى مع ذلك ناقصًا لأنه لم يرفعنا إلى الحياة الدينية، أوَلم نصل به إلى ذلك التوتر الفني الذي نحس به المظالم فنثور عليها؟ أوَلم يخرجنا من النظر القروي الضيق إلى النظر العالمي الواسع، أو لم يرفعنا من الاستهتار في الحياة إلى الجد والخدمة.
ويمكن أن نقرأ الكتب المقدسة نفسها باعتبارها كتبًا أدبية، والواقع أن الأدب والدين يتلاقيان إذا ارتفعا، حتى لا نكاد نستطيع التمييز بينهما؛ فإن قصة «نشيد الإنشاد» في التوراة تعد مثلًا قطعة أنيقة من الأدب الذي يدعونا إلى إيثار الحب الساذج الطاهر مع الفاقة على استخدامه للوصول إلى الثراء والجاه، وهذه القصة يمكن أن تضاف إلى قصة بول وفرجيني للمؤلف الفرنسي سان بيير، أو إلى مؤلفات جان جاك روسو، كما أن جهاد ولز لتوحيد العالم في عصرنا هو في صميمه جهاد ديني، ولا عبرة بأن يكون ولز مع ذلك ملحدًا؛ فإن بوذا الذي لا يزال يؤمن به خمس مئة مليون من البشر كان أيضًا ملحدًا.
وهكذا الشأن في مؤلفين آخرين ليس من الشاق على المعارف بإحدى اللغات الأجنبية أن يطل إليهم، وهو ينمو بمؤلفاتهم ويربي شخصيته، ويرقي نفسه وذهنه بدراستهم، وهنا يحتاج القارئ إلى نصيحة سيجد لها تكرارًا في كتابنا، هذا هي أنه يجب عليه أن يتعمق في دراسة كاتب واحد قد يكون تولستوي أو شو أو جوتيه أو فولتير، وهو بالطبع يختاره لأنه — لجملة اعتبارات — يميل إليه أكثر مما يميل إلى غيره، وعليه عندئذٍ أن يتوسع في دراسة هذا الكاتب يدرس حياته ومؤلَّفَاتِهِ معًا، ويتعمقها حتى يعيش في عصره ويحس بمشكلاته الفنيه والدينية والاجتماعية والسياسية، وهي بالطبع مشكلات تتكرر، ولكن رؤيا الأديب العظيم تجعلنا نزداد فهمًا وبصيرة، وهذا إلى دراسة غيره من الأدباء.
وإلى هذا يجب الاشتراك في المجلات الكبرى الأوروبية والأمريكية حتى يبقى هذا القارئ على دراية بالتيارات العامة في الأدب؛ لأن هذه المجلات تعني كثيرًا بإبراز الجديد من النزعات الأدبية والالتفات إليها بالتقدير العادل.