دراسة التاريخ
لا نستطيع أن نفهم الاقتصاد والاجتماع والأخلاق والسياسة إلا إذا درسنا التاريخ، وزيادة على هذا فإن التاريخ يكسبنا العقلية الروحية البشرية؛ لأنه يشرح جهاد الإنسان نحو الرقي والحرية والحضارة، وهو بهذه المثابة يقوي في أنفسنا روح الخير، ولكنا نعني هذا التاريخ الحسن الذي يكتب بلا دعاية وطنية، بل ينظر إلى البشر كأنهم أمة واحدة تكافح من أجل الحضارة على الرغم من الأخطاء المتكررة.
وقد كان التاريخ يُدرس قديمًا باعتباره فنًّا يراد منه الدعاية الوطنية أو المذهبية، وهو كذلك الآن في الأمم الفاشية، حيث هو وسيلة للتعصب والكراهية والحرب مع أن الرجل المثقف الذي عُنِي بدراسة التاريخ في نزاهة ودقة يجد فيه الوسيلة للحب البشري والسلام والتسامح.
ويجب أن نجعل للتطور البيولوجي — أي انتقال الإنسان من الحيوانية إلى البشرية — أكبر قسط من دراستنا، أي يجب أن ندرس تاريخ الإنسان قبل التاريخ، وعلى القارئ أن يذكر كتابي هنا، وهو «نظرية التطور وأصل الإنسان»؛ فإنه على إيجازه يفتح بصيرته وقد يحمله على الاستزادة.
ثم يجب أن ندرس تاريخ الحضارة في مصر؛ لأن هنا في وطننا انتقل الإنسان البدائي من حياة الغابة وجمع الطعام البري إلى حياة الزراعة واستنتاج الطعام، وكانت الزراعة الطور الأول للحضارة القديمة، فظهر على أثرها الحكومة والدين والكتابة والثقافة الصناعية البدائية، ويمكن القارئ أن يسترشد بكتابي عن هذا الموضوع «مصر أصل الحضارة».
وكتب التاريخ في اللغة العربية، ونعني الكتب القديمة، هي مواد خاصة لدراسة التاريخ ولتأليف الجديد منها، فلا يمكن القارئ العادي أن يعتمد عليها، وليس في المخلفات العصرية العربية موجز في التاريخ العام الذي ألفه هـ.ج. ولز، وليس فيه مطول في تاريخ العالم، ونحن في هذه الناحية في نقص خطير يجعل الصورة البشرية مُشَوَّهَةً في أذهاننا، ويجعل كل مقتصر على اللغة العربية رجلًا ناقص التربية يعيش على كوكب يجهل تاريخه وتطوُّر سكانه.
وقد سبق في كلامنا عن الأدب العربي القديم أن ذكرنا كثيرًا من كتب التاريخ، ولكنا — كما قلنا — نعدها موادَّ خامة للدراسة، ثم هي محدودة لأنها تحصر أخبارها في العرب ومصر، وتروي الحوادث رواية زمنية بلا تمييز أو وزن للخطير منها والتافه، ونحن نقصد من دراسة التاريخ إلى أن نصير بشريين، وليس عربًا أو مصريين فقط، وحرمان لغتنا من كتب التاريخ المسهبة هو تحديد للتفكير العالمي بين شبابنا، والكتب المدرسية الشائعة صغيرة القيمة، وهي أشبه بالهيكل العظمي للتاريخ منها بالتاريخ.
والكتب القليلة التي يمكن أن تُقْرَأَ في التاريخ القديم هي كتاب برستد «العصور القديمة» ترجمة داود قربان، وكتاب عبد القادر حمزة باشا «التاريخ المصري القديم»، وقد ترجم قسم كبير من كتاب هـ. ج. ولز.
وليس في لغتنا كتب عن تاريخ الإغريق أو الرومان أو الهنود أو الصنيين أو اليابانيين أو الأمريكيين، ولا تزال القرون المظلمة مخيمة في ظلامها الحالك على القارئ العربي، والنهضة البشرية الكبرى في القرن الخامس عشرة ليس فيها مؤلف في لغتنا، مع أنها جديرة بأن تحدِث في قارئها العربي ثورة فكرية.
ولا بد لهذا السبب أن نقول إنه يجب أن نتعلم لغة أجنبية كي ندرس التاريخ البشري، وقد أنفق على المجمع اللغوي إلى الآن نحو مئتين وخمسين ألف جنيه كي يسك لنا كلمات جديدة، ولو أننا كنَّا أنفقنا هذا المبلغ على ترجمة الكتب الأوروبية الحسنة لأغنينا لغتنا بنحو مئة كتاب في التاريخ وغير التاريخ، ولما كانت تربيتنا لهذا السبب ناقصة.
ودراسة التاريخ تحتاج إلى هذا النظام التالي الذي نذكره.
ونحن نعرف أن لا فائدة منه للقارئ الذي يجهل اللغات الأجنبية العصرية.
-
(١)
يجب أن ندرس تاريخ هذا الكوكب منذ تكوَّن إلى أن ظهر عليه الإنسان، أي ما نسميه التطور.
-
(٢)
ثم ندرس حياة الإنسان البدائي إلى أن اهتدى إلى حضارة الزراعة في مصر.
-
(٣)
وهنا يتحتم علينا درسُ أربعة آلاف سنة من تاريخ مصر والفراعنة؛ لأنه تاريخ التطور الاجتماعي والاقتصادي والديني في أشكاله الأولى.
-
(٤)
يجب بعد ذلك أن ندرس الأمم القديمة، كالبابليين والفينيقيين والإغريق والرومان والصينيين والهنود.
-
(٥)
ثم دراسة العرب، مع زيادة في التفصيل لعلاقتنا الخاصة بهم.
-
(٦)
دراسة القرون الوسطى.
-
(٧)
دراسة النهضة.
-
(٨)
ثم دراسة التطور الاقتصادي الذي نشأ في أوروبا منذ ١٧٠ سنة والذي ما زلنا في سياقه، وهنا نحتاج إلى دراسة نظرية التفسير الاقتصادي للتاريخ.
وعلى القارئ أيضًا أن يدرس نحو عشر ثورات عالمية، كثورة الإنجليز على الملك تشارلس الأول، وثورة الفرنسيين على البوربون، والثورة الأمريكية، وثورات روسيا وتركيا والصين والهند؛ فإن الرقي البشري احتاج مرات كثيرة إلى الثورة.
وكتابي «الثورات» يستحق هنا عناية القارئ.
وخير من أن نقرأ تاريخ أمة، بعد أمة، يجب أن ندرس تاريخ العلوم والفنون، فإذا درسنا مثلًا تاريخ الكيمياء، وكيف انتقلت من مصر إلى أوروبا وانتهت بإيجاد عوامل اقتصادية في الصناعة والزراعة، أو درسنا تاريخ الطب أو تاريخ القوانين انفتحت بصيرتنا للفهم أكثر مما لو قرأنا تاريخ مصر أو تاريخ إنجلترا؛ لأن الطريقة الأولى توجهنا وجهة بشرية عالمية، أما الثانية فتحد من تفكيرنا بحدود القطر الذي ندرس.