دراسة الاقتصاديات
قبل نحو مئتي سنة لم تكن «الاقتصاديات» علمًا يُدَرَّسُ؛ لأن قيمتها لم تكن معروفة، أو بالأحرى لم يكن الناس في حاجة إلى هذا العلم لأن طريقة الإنتاج كانت الزراعة، وكانت الصناعات يدوية، وكانت كل أمة تقريبًا تعيش عيشة الاستكفاء، تنتج حاجاتها وتستهلكها بنفسها، وكانت التجارة بين أمة وأخرى قليلة، وأحيانًا معدومة؛ لأن المواصلات كانت بطيئة، وأحيانًا معدومة.
وبكلمة أخرى نقول إن جميع الأمم كانت زراعية، فكانت اقتصادياتها راكدة، وحضارتها قروية، وكان التغير الاجتماعي بطيئًا أو معدومًا.
ولكن منذ نحو ١٧٠ سنة تغيرت الدنيا بتغير الوسائل في الإنتاج وانتقال الصناعات من اليد إلى الآلة، وبكثرة وسائل الانتقال وسرعتها، فاتصلت الأقطار البعيدة، وتحرك «رأس المال» وتضخم، وأصبحت الشركة «المساهمة» قوة اقتصادية كبيرة الأثر في الاستغلال والاحتكار والتحكم في الأسواق الداخلية والخارجية وبعث الاستعمار واستخدام السياسة، وهذه الحركة الاقتصادية الجديدة قد جلبت معها كوارث لا تُحْصَى للعمال وللأمم الزراعية في أفريقيا وآسيا، ولكنها أيضًا قد أحدثت وجدانًا جديدًا بوحدة العالم، أي بضرورة توحيده، وأن رأس المال إذا تُرِكَ حرًّا في الاستغلال فإنه سيعمم الفوضى والحروب والشرور.
ولذلك تغيرت المشكلة السياسية في عصرنا، فلم تعد خلافًا بين أمة أو أمة، أو بين ملك وشعب، بل صارت خلافًا بين طبقة الصناعيين والماليين والاستغلاليين وبين طبقات العمال الذين تستغلهم القوات المالية والتجارية والصناعية، وأصبحنا ندرك العوامل التي تحمل الأمم المتمدنة على الحرب والاستعمار والتسلط الإمبراطوري على الأمم الزراعية الضعيفة.
بل أكثر من ذلك، فإن كارل ماركس قد استطاع أن ينير أبصارنا وبصائرنا بما سمَّاه «التفسير الاقتصادي للتاريخ»، وبدون أن نقتني هذه الآلة الماركسية، ونستعملها في درس الحوادث الجارية في عصرنا، أو في التاريخ الماضي، فإننا لن نفهم التطورات السياسية أو الاجتماعية أو الأخلاقية في وطننا أو في غيره.
ومع الأسف لا نستطيع أن نرشد عن الكتب العربية التي تشرح هذا النظر الماركسي؛ لأنه ليس في لغتنا مؤلفات عن هذا الموضوع؛ فإن قوانيننا — مع غموضها — تجعل إخراج مثل هذه الكتب باعثًا على الشكوك من ناحية المسئولية، وعجيب بل غاية في العجب أن الحكومة المصرية التي بعثت إلى موسكو سنة ١٩١١ ببعثة كي تتعلم أساليب القيصر نقولا في مطاردة الأحرار ونفيهم إلى سيبريا لا تزال تكره الآراء الاشتراكية وتحاربها، مع أن هذه الآراء تعمل بها الآن بريطانيا التي أَمَّمَتِ الفحم والمواصلات وغيرها وهي تنوي تأميم مصانع الفولاذ.
وتاريخ مصر في مدى السبعين من السنين الأخيرة يوضِّح هذا النظر الماركسي توضيحًا عظيمًا، والمصري الذي يجهل التفسير الاقتصادي لكوارثنا وفقرنا وأمراضنا وتعطيل مواهبنا بمنع الصناعة مدى السبعين من السنين الماضية الأخيرة، يجهل تاريخ مصر، ولن تتفتق له بصيرة في فهم الحوادث الجارية الآن إلَّا بهذا التفسير الماركسي، والحكومة التي تمنع دراسة كارل ماركس لا تستحق الغضب من فولتير وحده لأنها تعمل على تقييد أقدس ما في الإنسان، وهو الذهن، بل تستحقه كذلك لأنها تعمل هي أيضًا لتعميم الفقر بشأن الأسباب الأصيلة التي جعلت مثل مصر أمة زراعية متأخرة في خدمة الماليين، تؤدي لهم الأقساط، وكأنَّ الغاية من وجودها في الدنيا تأدية هذه الأقساط فقط.
ودراسة بريطانيا في عصرنا الجديد هي دراسة بريطانيا في عصرنا الجديد هي دراسة للاقتصاديات أيضًا؛ لأنها هي الأمة التي جعلت الاشتراكية المندرجة بالتأميم نظامًا للدولة، فعلى كل من يبغي التثقيف الذاتي أن يجعل هذه الدراسة بؤرة يتفهم على ضوئها السياسة العالمية في تطوراتها القادمة، وهذا بالطبع لا يعني أن حكومة العمال البريطانية قد تخلَّصت من تقاليد الاستعمار.
ولكن الدراسة المثلى للاقتصاديات العالمية، الدراسة التي تبعث على الفهم والتبصر لسير التطور الاقتصادي، هي الدراسة الماركسية مع تطبيقها على ما يجري الآن بين ألف مليون اشتراكي في الصين والاتحاد السوفيتي وغيرهما.
وفي الوقت الحاضر كل ما أستطيع أن أقول في دراسة الاقتصاديات للقارئ الذي لا يعرف غير العربية، هو أن قراءة الأخبار اليومية العالمية في الجريدة خير من قراءة أي كتاب عربي؛ لأن القارئ إذا تتبعها بفهم وفراسة ذهنية، استطاع أن يرى خلفها العوامل الاقتصادية المحركة.
أما القارئ الذي يعرف اللغات العصرية مثل الإنجليزية أو الفرنسية فلا يحتاج هنا إلى أي إرشاد.