زيادة الفراغ وزيادة المسئولية
هناك أسباب أخرى تحمل كل شاب على أن يثقف نفسه.
وأول هذه الأسباب وأوضحها أن الفراغ يزداد؛ فإن استخدم الآلات، أي الحديد والنار والكهرباء، قد خفض ساعات العمل للكسب، وسوف يخفضها أكثر في المستقبل، ولن يكون اليوم بعيدًا حين نصل إلى مجتمع راقٍ يكفي أحدنا كي يحصل على عيشه، أن يشتغل ساعتين في اليوم، ثم يفرغ سائر نهاره وليله لراحته ومتعه الذهنية والجسمية والروحية، ونحن نرى في الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد السوفيتي ما يومئ إلى هذه الحال؛ فإن سكان الولايات المتحدة قد اشتبكوا حوالي سنة ١٨٦٠ في حرب أهلية بسبب العبيد، وكان فريق منهم يعتقد أن من حق الأبيض أن يملك العبد الأسود، يشتريه ويستغله ولا يتكلف في ذلك سوى طعامه.
ولكن الحرب أدَّت إلى إلغاء الرق، ومع ذلك صار الأمريكيون أكثر ثراءً وأوفر فراغًا مما كانوا أيام الرق؛ ذلك أن استخدام الآلات في الإنتاج قد جعل كل أمريكي يملك أكثر من خمسين حصانًا (من القوة) هي بمثابة مئة عبد، وكان الأمريكي يعمل حوالي سنة ١٨٦٠ نحو عشر ساعات أو ١٢ ساعة في اليوم كي يحصل على عيشه، أما الآن فهو يعمل نحو ست ساعات، مع عطلة أسبوعية هي يومان كاملان، وهذه الساعات الست سوف تكون خمسًا، ثم أربعًا … إلخ؛ ذلك لأن الآلات في تقدم لا ينقطع.
وكذلك الشأن في الاتحاد السوفيتي، حيث تخلَّص الشعب من عذاب القيصرية وأخذ في إنشاء المصانع فزاد الأفراد ثراءً وفراغًا معًا.
وهذه الحال — على الرغم من المبادئ الإمبراطورية والاستعمارية الشائعة — سوف تعم الدنيا، فيجب أن نوطن أنفسنا على أن الفراغ سيزداد، وهذا الفراغ سيثقل علينا عبئًا باهظًا إذا لم نشغله باهتمامات ثقافية حيوية، ونحن حين نتوسم طوالع المستقبل نحس أنه يجب على المدارس من الآن أن تعلم تلاميذها كيف يقضون فراغهم أكثر مما يجب عليها أن تعلمهم كيف يحصلون على عيشهم؛ ذلك لأن تحصيل العيش لن يحتاج إلى أكثر من ساعتين في اليوم، وهو لم يعد فنًّا؛ لأن العامل يندمج بين آلاف العمال فيتحيز جزءًا صغيرًا من العمل الذي يؤديه تأدية آلية خالية من المجهود العضلي تقريبًا، أما الفراغ فلن يقل عن ٢٢ ساعة، إذا فرضنا أن ١٠ ساعات منها تُقْضَى في الطعام والنوم، بقيت ١٢ ساعة يجب أن يشغلها بما يرقيه، فإذا جهل الوسائل لهذه الترقية فإنه يحس خواءًا ذهنيًّا لا يطاق، أو هو يملأ فراغه بتسليات سخيفة، أو ربما يقع في غوايات ضارة.
لقد كان الفراغ في العصور القديمة مقصورًا على النبلاء والأثرياء، وكان ترفًا غاليًا لا يحصل عليه الفقير، وجمهور الأمة كان من الفقراء، ولكن هذا الترف يستفيض — بفضل الآلات — بين جميع أفراد الشعب، حتى عمال الزراعة أنفسهم سوف يجدون هذا الفراغ حين يتركون آلاتهم البدائية ويستعملون آلات القوة البخارية والموطرية، والتثقيف الذاتي لهذا السبب ضرورة حتمية كي نملأ بها هذا الفراغ ونستغله.
وسبب آخر يجعل هذا التثقيف حتميًّا: أن المجهود العضلي الذي كنا نبذله في الزراعة والصناعة والتجارة قد استحال إلى مجهود ذهني؛ فالقوة العضلية في الإنسان لم تعد لها قيمة كبيرة إلا في المباريات الرياضية، والمصانع تؤسَّس الآن في الأمم المتمدنة التي نرجو أن نصل إلى مستواها، بحيث تكاد تعمل مستقلة أتوماتية، فتتسلم المواد الخامة من ناحية وتخرجها من ناحية أخرى مشغولة مهيَّأة للاستعمال، وكل ما على العامل أن ينظر ويشرف ويصل هذا المفتاح بذاك.
والعامل في هذا الحال موفر القوة العضلية، وهو يترك عمله مرتاحًا مستعدًّا لأن يقوم بأي مجهود آخر، فهو ليس مثل ذلك العامل الذي يترك عمله عندنا منهوكًا لا يستطيع النظر في الجريدة أو كتاب، حتى لو وُجِدَ الفراغ للقراءة.
ولكنَّنا أيضًا صائرون إلى هذه الحال في مصر؛ أي إن العمل لن يجهدنا، ولن يستهلك سوى أقل الوقت، فنخرج منه مرتاحين مستعدِّين للفراغ الذي نملؤه بما يرقينا ذهنيًّا ونفسيًّا وروحيًّا.
وسبب آخر يجعل التثقيف الذاتي حتميًّا، وهو في نظر المؤلف أهم الأسباب: أن مسئولية الفرد قد أصبحت خطيرة، فقد كانت الدنيا تسير في العصور السابقة بحكم الملوك والأمراء والنبلاء والوزراء، أما الآن فإن الدنيا كلها تتجه نحو الديمقراطية، حيث أفراد الشعب يجب أن يكونوا الحاكمين الحقيقيين، ولا يمكن الفرد أن يضطلع بالحكم إلا إذا كان مستنيرًا في شئونه، والحكم هنا هو حكم الدنيا كلها؛ لأن الشر — كالوباء — لا يتجزأ ولا يتحيز، فكما أن الوباء ينتقل من قطر إلى قطر، كذلك الشر والسياسة (مثل المبادئ الإمبراطورية والاستعمارية والفاشية) تنتقل بالعدوى، وتحدث الدمار والخراب في أنحاء العالم بالحروب والثورات والانفجارات.
وتقدم الآلات الذي ذكرنا، والذي قلنا إنه سيزيد فراغنا، هذا التقدم نفسه قد جعل خطر الحروب بل خطر الاستبداد كبيرًا جدًّا، فلا يمكن أن نتقيهما إلا إذا جعلنا كل فرد في أنحاء العالم مثقفًا مستنيرًا يميز بين المعرفة المرشدة وبين الدعاية المضلِّلة.
وظهور الأخطار الذرية والهيدروجينية يجعل التثقيف الذاتي ضرورة حتمية؛ لآن غير المثقف لن يفهم هذه الأخطار، بل هو قد يساعد بجهله على الدعاية لها وصنعها.
فإذا ألممنا بجميع هذه الاعتبارات، أمكننا في حقٍّ وصدق أن نقول إن التثقيف الذاتي هو واجب ديني على كل إنسان؛ لأنه الضمان للحكم الصالح على هذا الكوكب.