ليكن لنا كفاح ثقافي
يجب على كل مثقف أن يكون له كفاح؛ لأن الدراسة تحتاج إلى حوافز من العواطف الظاهرة أو المختفية تدفع إلى المثابرة والجهد، ولكن الحافز يضعف أو يقوى باختلاف البيئة والدراسة والشخص، فنحن نقرأ الجريدة في الصباح لأن عاطفة الاستطلاع تدفعنا إلى ذلك، ونحن ندرس الكتاب كي نتهيأ به للوصول إلى الهدف الذي قد يكون تكملًا في الفن الذي نمارس أو رغبة في الرقي الذهني أو نحو ذلك؛ فالطبيب يقرأ كتابًا في شرح أحد الأمراض لا أقرأه أنا؛ لأنه يجد الحافز الذي لا أجده، وأنا أقرأ كتابًا في السيكلوجية لا يرضى غيري بقراءته ولو أُجِرَ عليه.
فلكُلٍّ منا حافزه الذي يبعثه على الدرس، وقد يزداد هذا الحافز قوة حتى يحمل القارئ أو الدارس على الجهاد، وعندئذٍ يفتح هذا الجهاد أبوابًا للدرس مدى الحياة، فالشاب المصري الذي عاش فيما بين ١٩١٨ و١٩٤٣ وعاين الحركة الوطنية واشتبك فيها، وأصبح مجاهدًا للوطن يدعو للاستقلال والحرية، قد حمله هذا الجهاد على دراسة لا تنقطع، بالحديث وقراءة الجريدة ودراسة الكتاب، لكل ما يتصل بالاستقلال والحرية والاستبداد والدستور والإمبراطوريات واستغلال الشعوب الصغيرة وخيانات الملوك والأمراء والوزراء لأوطانهم رغبة في الانتفاع بسلطان الدول المتسلطة ونحو ذلك، وهو يجد نفسه مشتاقًا لدرس تاريخ الولايات المتحدة، وكيف استقلت، وهو يدرس مبادئ الثورة السوفيتية، بل جميع الثورات، وهو يعطف على الحركة الهندية التي يتزعمها غاندي أو نهرو، وهو أيضًا مضطر إلى التغلغل في الاقتصاديات، كي يقف على ألاعيب الماليين الذين جروا على وطننا الخراب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وهو يقرأ الجريدة بعناية واختيار ومراجعة، واشتباكه في الحركة الوطنية يرشده إلى الكتب التي يحتاج إلى قراءتها.
فهنا مثال الجهاد السياسي، يحمل على دراسات مختلفة تشع من بؤرة مفردة هي إرادة الاستقلال، وألوان الجهاد مختلفة متنوعة، فهنا مثلًا سيدة تسعى لمنع الخمور، وهنا سيدة أخرى تسعي للمساواة بين الجنسين في الحقوق المدنية والاقتصادية، وهنا شاب يدعو إلى الاشتراكية، وآخر يجاهد من أجل الفلاح، فكل هؤلاء يجدون الحافز الذي يعبئهم على الدرس والاستزادة من الثقافة التي تتصل بموضوعاتهم، وليس هناك موضوع مستقل؛ فإن الدعوة إلى المساواة بين الجنسين تتصل بدراسات اجتماعية وتاريخية وفسيولوجية، بل دينية، ومن ينصب نفسه لهذه الدعوة محتاج إلى المثابرة والجهد في دراسة عميقة، وهو بهذه الدراسة يستنير وينتفع من هذه الناحية بدعوته كما أن دعوته تنتفع به.
انظر مثلًا إلى شاب قد أحس أنه يجب أن يجاهد لتحقيق المجتمع الاشتراكي؛ فإن جهاده سيحفزه على الدرس الذي لا ينقطع طيلة حياته، وتاريخ البشر يعد عندئذٍ بعض موضوعاته، واقتصاديات الصناعة والزراعة، وكذلك الأخلاق والأديان، بل كذلك الاستعمار والحروب وإمبراطوريات المدفع والجنيه، كل هذا يعد من ميادينه الدراسية، وهو يرقى بهذه الدراسات، وينظر النظرة العلمية الفلسفية للمجتمع، وفي عصرنا الحاضر أجد الفرق عظيمًا جدًّا بين شاب يجهل الاشتراكية وآخر يدرسها؛ لأن الأول تجري الحوادث أمامه وهي لا تعني المعنى ولا تدل الدلالة، في حين يجد الثاني معناها ودلالتها واضحين، كما أن الأول يقرأ وهو راكد متثائب أما الثاني فيقظ متنبه، وقل أن تجد للأول مكتبة بل هو قد يهمل شراء الجريدة، أما الثاني فيعرف الشأن العظيم لهما في ترقية ذهنه، الأول ينظر إلى الحوادث متفرجًا والثاني يبصر بحركة التاريخ في الحوادث الحاضرة والمستقبلة.
وأستطيع أن أقول إن كل ثقافة حسنة تؤدي إلى جهاد من نوع ما، والثقافة السيئة هي وحدها التي لا تؤدي إلى جهاد؛ لأن الثقافة السديدة المتصلة بالمجتمع تسبق هذا المجتمع بمسافة قصيرة أو طويلة، وهي لهذا السبب تدعو إلى التغيير؛ لأنها ترسم لنا مُثُلًا جديدة نشتاق إلى تحقيقها، ومن هنا — أي من الرغبة في التغيير — نحس الجهاد.
وقيمة أخرى للجهاد في الثقافة أنه يكبر شخصيتنا ويجعلنا نشعر بأن لنا قيمة تاريخية، أي لنا رسالة نؤدِّيها بالدعوة إلى إصلاح معين، وهو يكسبنا الفلسفة التوجيهية التي يحتاج إليها كل شاب أو فتاة متمدنين في عصرنا، ونحن بهذا الجهاد نسير وقد رفعنا رءوسنا عالية وشخصنا إلى القمم، بل إننا لنحيى عندئذٍ حياة تاريخية.
ولست أستطيع أن أعين للقارئ الجهاد الذي يجب أن يختار؛ لأن لكل إنسان بيئته وظروفه واستعداده، فلعل القارئ المصري يطلب إصلاحًا للغة العربية، أو تعميم الكيمياء الصناعية، أو نشر المبادئ الاشتراكية، أو مكافحة الإسراف في الطلاق أو الزواج، أو تحديد النسل، أو غير ذلك، وهو وحده القادر على أن يقول أي الأنواع تحتاج إلى بيئته ويقوى هو على الاضطلاع به، إنما الذي أقرر هنا هو أن الجهاد حافز عظيم للدراسة، وقد وجدت هذا باختباراتي الشخصية؛ فإني أذكر أني في سنة ١٩٣٠ أنشأت جمعية «المصري للمصري» وكانت غايتها أن تدعو المصريين إلى أن يشتروا السلعة التي يصنعها، أو على الأقل يبيعها المصري دون الأجنبي. وذلك كي ترفع المستوى الاقتصادي بين المصريين وتشجع المصانع المصرية على الإنتاج، اعتقادًا بأن أساس مشكلاتنا هو الفقر، وبأن الأمة التي لا تمارس الصناعات العصرية هي أمة غير متمدنة، وقد كنت أعجب العجب العظيم حين كنت أجد الشاب لم يتجاوز سنه العشرين ومع ذلك يحضر إلى ومعه مستندات حافلة بإحصاءات عن وارداتنا من الأطعمة والأقمشة التي كان يمكن أن نصنعها في بلادنا، فهذا الجهاد من أجل الصناعة المصرية عند هذا الشاب قد استحال إلى حافز لدراسة الاقتصاديات المصرية بجميع أنواعها.
وعندما أراجع ذاكرتي أجد أن معظم الموضوعات، بل ربما كلها، التي شغلتني دراستها، إنما كنت مكافحًا فيها، فكانت الدراسة بهذه المثابة عضوية، تتصل بشهواتي الذهنية ومشكلاتي النفسية، وأحتاج إلى تحليل عميق كي أعرف البؤرة التي تشممتُ منها اهتماماتي الثقافية، وظني أنها الوطنية المصرية ومكافحة الإمبراطورية البريطانية.
والآن يطفر إلى ذهني حادثان كان لهما عندي أكبر الوقع النفسي، فقد صدمني حادث دنشواي وأنا في الثامنة عشرة، وبقيت أسبوعًا وأنا كالصائم لا أستمرئ الطعام، وحادث آخر كان له وقع في نفسي كله مرارة وأسى، ذلك أني كنت في باريس وأنا في التاسعة عشرة أو العشرين، وقد قعدت إلى بعض الفرنسيين في بهجة وأنسة تزيدهما الكأس نشوة حلوة، وإذا بالحديث يجرنا إلى السياسة، ثم استحال الحديث إلى مناقشة حادة، فإذا باحدهم يقول لي بصوت عالٍ في لهجة الزجر والاحتقار: «لا شان لك بهذه المناقشة، أنتم أمة مهانة، والإنجليز أسيادكم».
وكان هذا القول حقًّا، وتولاني غضب وحزن لم يخفف منهما توبيخ الحاضريين لهذا الشاتم، فقد كان عطفهم علي أكثر إيلامًا لي من شتمه، وقد بكيت كثيرًا تلك الليلة، وذهبت إلى الطبيب جملة مرات أشكو إليه ألمًا في الأمعاء وإسهالا دمويًّا مخاطيًّا لم أعرف أنا ولم يعرف هو سببهما الذي يتضح لي الآن، وظني أن هذا الطبيب لم يستطع وقتئذ أن يتخيل شابًّا في سني يمكنه أن يتحمل همًّا وطنيًّا كبيرًا يفتت أمعاءه إلى هذا الحد.
وعندما أنظر إلى جميع مؤلفاتي أرى أن جميعها أو معظمها يتشعع من بؤرة الوطنية ومكافحة الإمبراطورية البريطانية، بل أستطيع أن أقول إنه حتى دراستي البيولوجية وما تفرَّع منها لم تكن لشهوة العلم وحده، كما يتضح للقارئ من النية المضمرة في كتابي «التطور» وهي الإصلاح بقشع الخرافات العقيدية حتى تصير مصر أمة مصرية.
ولا أقول إن هذا التعليل مقنع، ولكن هذين الحادثين يومئان على الأقل إلى بعض البواعث الكفاحية لثقافتي، وعلى كل حال أقول إني لم أعش قَطُّ في البرج العاجي، وكانت كل دراستي كفاحية، ووجدت في هذا الكفاح خصوبة ثقافية وتوسعًا ذهنيًّا لمَّا أصل إلى حدودهما، والعبرة أننا يجب أن نمارس الثقافة لا متفرجين أو محايدين بل مكافحين مشتركين.