كتب رمزية وكتب بذرية
هناك مؤلفون كثيرون قد كتبوا في الأدب والفلسفة والعلوم، كالطب والكيمياء والفلك، وقد عاشوا في عصور مختلفة منذ ألفين أو ثلاثة آلاف سنة، ونحن حين نقرأ لهم لا نقصد إلى الانتفاع بمحتويات مؤلفاتهم، وإنما نرمي إلى أن نفهم العصور التي عاشوا فيها عن طريقهم، فهم بهذا رموز عصورهم، أي إن قيمتهم رمزية.
فكتاب الحيوان للدميري أو تذكرة الأنطاكي الطبية أو طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، هذه الكتب الثلاثة لا ننتفع بفوائدها الطبية أو البيولوجية لأنها إما مخطئة وإما غامضة، وهي حافلة بالخرافات، ولكنها تنكشف لنا عن صفحات تاريخية، فنتعرف عن طريقها إلى الأحوال الثقافية، بل أحيانًا الاجتماعية، التي كان يعيش فيها هؤلاء المؤلفون.
ولهذا السبب يجب ألَّا نرفض قراءة كتاب لأنه يحوي الخرافات، أو لأن المعارف التي يشرحها تخالف الصحة، ما دامت لهذا الكتاب دلالة رمزية عن العصر أو الأمة التي ظهر فيها؛ فإن قوانين حمورابي البابلي، وكذلك دعوات أخناتون المصري، تدلنا على الحال الاجتماعية في مصر وبابل قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، ورحلة ابن بطوطة من أحفل الكتب بالخرافات، ولكن قَلَّ أن يجد القارئ كتابًا منيرًا عن الأمم التي جول فيها المؤلف في القرن الثالث عشر مثل هذا الكتاب؛ فإننا نطل من فصوله على الأحوال الاجتماعية في أقطار مختلفة من المغرب الأقصى إلى الصين، وكذلك الحال في كتاب البغدادي عن مصر، بل كذلك يجب أن نقرأ الكتب القديمة في التاريخ، مثل هيرودوتس وبلوتارك والطبري.
والقرون الوسطى سواء عند الغرب أو الأوروبيين حافلة بالمؤلفين الذين ليست لهم قيمة كبيرة من حيث الموضوع الذي بحثوا، ولكنهم في اختيارهم الموضوع، وأيضًا في أسلوبهم في البحث وحدود المعارف التي وصلوا إليها، كل هذا له قيمة رمزية للعصر الذي عاشوا فيه، فنحن نعرف منهم الاهتمامات الثقافية التي شاعت بين المثقفين في القرن الثالث أو الرابع للميلاد مثلًا.
ونعرف كيف مارس العرب الطب، مع أنهم كانوا يُحَرِّمُونَ تشريح الجثة البشرية، ونعرف كيف خلطت الأساطير بالحقائق عن النبات والحيوان إلى عصر قريب.
ولا يمكن القارئ أن يكون مثقفًا، وأن يعرف قيمة العصر الحاضر ونزعاته العلمية التدريجية أو الانفجارية إلا إذا عرف الحضيض الذي هوى إليه الذهن البشري في المجادلات الدينية العقيمة والأبحاث الغيبية السخيفة في القرون المظلمة، وكذلك مجموعة الأساطير عن الكيمياء والطبيعيات ونشأة الإنسان وغير ذلك.
•••
وهناك نوع آخر من الكتب نسميها الكتب البذرية، نعني بها تلك الكتب التي تنزل من نفوسنا منزلة البذرة في التربة الخصبة، بل هي أكثر من البذرة في التربة؛ لأنها زيادة على نموها لها قوة الخميرة؛ إذ تبعث النمو في غيرها ممَّا كنَّا نظن أنه بعيد ليس له علاقة بما ندرس، مثال ذلك كتاب داروين «أصل الأنواع» في نظرية التطور؛ فإن القارئ لهذا الكتاب لا يكاد يجد فيه سوى البحث، بل البحث الساذج، في تربية الناس للحيوان وعلاقة الحيوان بالبيئة الطبيعية التي يعيش فيها، ثم استنتاج واضح بأن الحيوانات جميعها من أصل واحد أو من أصول قليلة جدًّا، ولكن على الرغم من هذه السذاجة نستطيع أن نقول إنه لم يؤلَّف في تاريخ البشر كتاب غيَّر الاتجاه الثقافي مثله؛ فإن كلًّا من المذاهب الفاشية والشيوعية والاشتراكية والديمقراطية تأخذ منه، وقد تأثرت به جميع العلوم، فأصبحت فكرة التطور عامة، وانتقل التاريخ من بضعة آلاف من السنين إلى ألف مليون سنة، وصرنا بهذا الاتجاه نبحث عن الأصول «البشرية» للأخلاق والأديان والمجتمع، بل صرنا نبحث مستقبل البشر في تبصر دون أن نتخبط؛ لأن الماضي قد وضح أمامنا فاستضاء لنا المستقبل، بل زادتنا هذه النظرية إحساسًا دينيًّا لارتباطنا بالكون، كما صرنا نحس قرابة تطورية بالحيوان والنبات، زيادة على ما نجد من سبب بيولوجي للإخاء البشري، وقد بدأت هذه النظرية رأيًا ثم صارت عقيدة ومذهبًا، أما الآن فهي منطق المفكرين عامة.
ومن الكتب البذرية أيضًا مؤلفات جان جاك روسو التي تتلخص في أن الطبيعة البشرية حسنة وأن ما فينا من سوء، إنما يرجع إلى مظالم الملوك والحكومات وإلى عادات اجتماعية بالية، وقد أحدثت هذه الفكرة الساذجة خمائر لا تزال إلى وقتنا هذا تعمل وتحرك المجتمعات، ويمكن أن نعزو الانقلاب الروسي إلى هذه النظرية إذا عدنا إلى جودوين وأوين وبرودون ودعاة الاشتراكية الطوبوية الأولى قبل ظهور ماركس الذي دعا إلى الاشتراكية العلمية، بل إن في عصرنا من مظاهر النشاط الاجتماعي ما نستطيع أن نرده إلى جان جاك روسو؛ فإن الاستحمام في البحر، والتجوال في الريف، وحركة الرواد، والاعتماد على المعالجة الطبية، بل حركة العري نفسها، كل هذا وأكثر منه، يُعزى إلى فكرة روسو في أن الطبيعة حسنة والعادات الاجتماعية سيئة.
ومن الكتب البذرية أيضًا مؤلفات فرويد الذي كشف عن الكامنة، أي العقل الكامن، وأوضح أن نشاطنا الذهني يعود إلى محركات خفية من الشهوات والرغبات؛ فإن السيكلوجية الحديثة، على الرغم من كثير من متناقضاتها وانفلاتها من فرويد تعود إلى هذا الكشف.
ولا أذكر كتاب «رأس المال» لكارل ماركس؛ فإنه الخميرة التي تحرِّك المجتمعات الأوروبية في رفق التطور أو عنف الحروب، ولما نصل إلى نهاية الاختمار، ولكن ثِقْ أيها القارئ أنَّ الرجل الذي يجهل هذا الكتاب هو رجل غير متعلم، أي إنَّه يجهل حتى فهم الجريدة اليومية التي تروي له الأخبار، وقد دعا كارل ماركس إلى الاشتراكية، وقد يكره القارئ هذا المذهب ولكن حتى مع هذه الكراهة لا يمكنه أن يستغني عن التحليل الماركسي أو عن نظرية التفسير الاقتصادي للتاريخ، وقد وصلنا في مصر إلى أن نعرف أن المرض والجهل والفقر ثالوث مدنس يحطم كيانات لا تتألم بدرس كارل ماركس، وعرفنا أن عرقلة الصناعات في مصر وعرقبتها من القيصريين الإنجليز تعود إلى التطور الصناعي البريطاني في التفسير الماركسي، والحرب الكبرى الثانية لا يمكن أن نفهمها بدون هذا التفسير.
•••
وخلاصة هذا الفصل أننا يجب أن نُعنى بالكتاب إذا كانت له قيمة رمزية للعصر أو البيئة التي ظهر فيها، حتى ولو لم يكن للمؤلف براعة أو عبقرية؛ لأن هذا الكتاب، مع ما يحتويه من خرافات أو تفاهات، يكشف لنا عن الجو الذي وضعه فيه المؤلف.
وأهم من هذه الكتب الرمزية تلك البذرية التي بعثت الخمائر في النشاط الثقافي العام، وقد ذكرنا أربعة من المؤلِّفين لهذه الكتب، وهم داروين وروسو وفرويد وماركس، والذهن المثقف الذي ينشد النظام والنظافة والوضوح، في فهم المشكلات البشرية العصرية، يحتاج إلى دراسة هؤلاء الأربعة وأكثر منهم.
•••
ولكن ذكر الأسماء للكتب لا يعني كثيرًا، وليس هو «الوصفة» التي تنفع لكل قارئ؛ ذلك أننا نطلب الكتاب كما نطلب الغذاء أو الدواء، ولذلك يختلف كل منَّا عن الآخر؛ ولهذا نقول إن الأساس للثقافة هو الاهتمام الذي يمكن أن نعده حالة نفسية اقتضتها الظروف مكانًا وزمانًا وهو — أي الاهتمام — الحافز الأصيل الذي يحمل الشاب على الفهم والاستزادة من الفهم، وهو الذي يعين له الأسماء الكتب وموضوعاتها.