بذور ثقافتي
من حق القارئ أن يسأل ما هي بذور ثقافتي التي أرعاها بالنمو وأسترشد بها في معنى الحياة ودلالتها، بل لعله يرى أن مثل هذا الكتاب الذي يُقرأ يجب أن يكون مؤلفه مغرمًا بالثقافة، ينفعل ويجدد نفسه بها في تطور لا ينقطع.
ولكن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى كتاب مستقل تسرد فيه ظروف البيئة العائلية أيام الطفولة، ثم التعليم والتربية في الصبا والشباب، إلى التكوُّن والنضج بالتفاعل المستمر بين الشخصية وظروف الثلاثين أو الأربعين من السنين الأخيرة، وهذا ما لا يستوعبه فصل موجز، وهذه دراسة موضوعية شاقة.
على أن المؤلف يستطيع مع ذلك إلى أن يشير إلى القليل من أعلام الطريق البارزة في حياته الثقافية، لعل القارئ يجد فيها بعض الفائدة في الاسترشاد.
وأول ما أقول وأنبِّه عنه أني لا أكاد أجد شيئًا من ثقافتي يعود الفضل فيه إلى المدارس التي تعلَّمت فيها، فقد تعلمت في هذه المدارس مواد، وأخذت معارف لم تكن كبيرة القيمة، ولكني لم أتعلم فيها سلوكًا، ولم أتِّخذ منها أسلوبًا لتربيتي، وقد نسيت معظم ما تعلَّمته في المدرسة من قواعد النحو، وأسماء في الجغرافيا والتاريخ، وعمليات في الجبر والهندسة إلخ … نسيت كل هذا أو معظمه عن ظهر قلب، متعمدًا، راجيًا النسيان، حتى أخلي ذهني لما يستحق أن يُدرس ويُعرف من شئون هذا الكوكب.
وكثير ممَّن يعرفونني يعجبون لسعة ثقافتي، ولهم الحق في هذا؛ فإني كثيرًا ما أجدني بالمقارنة مع غيري قادرًا على أن أناقش الأديب والطبيب والسيكلوجي والجيولوجي والمؤرخ والديني والمادي وغير هؤلاء على قدم المساواة، ليس في كل ما يعملون، بل في كثير منه ممَّا له دلالة في ثقافتنا، وهذه السعة في الثقافة تتيح لي، بل تحملني على النظر التكويني التأليفي البنائي للشئون العالمية البشرية، بدلًا من النزوع إلى التحليل والنقض والهدم، ولكني مع ذلك أذكر أني في حمى الثقافة التي أصابتني حوالي الثامنة عشرة من عمري كنت أنزع إلى التحليل والنقد، بل النقض، كما يرى القارئ مثلًا في أول ما نشر لي سنة ١٩٠٩ في مجلة المقتطف وعنوانه «نيتشه وابن الإنسان»، وليس أكثر إمعانًا في الهدم من افتتاح الحياة العلمية الصحفية بنيتشه، فقد كان هذا المؤلف رمزًا لحياتي الكفاحية.
وقد كان من المصادفات الحسنة أن أعرف المقتطف في سن مبكرة وأشترك فيها، وآخذ عنه ذلك الأسلوب الاقتصادي البعيد عن الثرثرة اللفظية، كما آخذ أيضًا عنه تلك النزعة العلمية، وما زلت إلى الآن علمي المزاج تلغرافي الأسلوب، حتى إني لأوثر أن أقرأ كتابًا عن الغدد الصم أو عن جيولوجية الفيوم على قصة روسية من الطراز العالي، ولست أعني أني أهمل القصة، بل أرجئ قراءتها إلى ما بعد الكتاب العلمي، أحاسب نفسي فيه على الكلمة الزائدة كما لو أخطأت في نصب الفاعل أو رفع المفعول.
ثم أتاح لي الحظ أن أعيش في باريس ولندن سنوات استطعت فيها أن أجد التربية والتوجيه والفلسفة؛ فإن الجرائد اليومية والمجلات الشهرية والأسبوعية في كلتا العاصمتين، وخاصة في لندن، كانت تنظر النظر العالمي للشئون السياسية والاقتصادية، حين كانت جرائد مصر تنظر النظر القروي، وكان كفاحنا للإمبراطورية البريطانية في مصر يجعل التفكير في الرقي الاجتماعي أو في أي رقي آخر بعيد عن أذهاننا؛ لأن كل همِّنَا واهتمامنا كان منصبًّا على الاستقلال، وكنا على حق في هذا، ولكن هذا الكفاح كان يحول دون الرؤيا العالمية والتوسُّع الثقافي لقارئ الجريدة المصرية.
فكانت الجريدة والمجلة في باريس ولندن من بذور ثقافتي، فقد وجدتني أدرس وأهتم بالمزاحمة التجارية بين بريطانيا وألمانيا، وأدرك ما وراءها من عوامل، كما صرت أقرأ عن الصين والهند وتركيا ببصيرة تسبر الحاضر وترصد المستقبل، وعرفت كارل ماركس، فصرت أجد الدلالة التي لا يجدها غيري ممن يجهلون الاشتراكية في الأحداث العالمية الكبرى.
ومن هنا يجب أن نكثر من شأن التعرُّف إلى لغة أوروبية حية كي نجعلها وسيلة الثقافة العصرية؛ لأن لغتنا في طورها الحاضر لا تكفي لتخريج الرجل المثقف الذي يمتاز بالعقل العام.
ولست أعني أني أهملت تراثنا العربي العظيم؛ إذ لا يكاد يوجد كتاب عربي قديم لم أقتنه الاقتناء الذهني، ولكني أشك في الاقتناء النفسي، ومعظم الذين يدرسون الآداب العربية من الكتاب في مصر يقصدون إلى اكتساب الأسلوب القديم والتأنق اللفظي، وهذا آخر ما عنيت أنا به؛ لأن نزعتي ليست تليدية تقليدية، وقد كان غرضي الأول في دراسة الآداب العربية الاستنارة عن حياة العرب؛ ولذلك عنيت بقراءة طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة وتاريخ الطبري المطوَّل وتراجم ابن خلكان وياقوت وكتب الرحلات لابن بطوطة وغيره، ومع إعجابي العظيم بالجاحظ والمعري، من حيث النزعة الثقافية الموسوعية في الأول والتفكير الإنساني الحر في الثاني، فإني أتوقَّى الأسلوب الجاحظي كما أستهجن زهد المعري.
وفي كنوز الآداب العربية، وخاصة في الشعر، جواهر لا تزال تتلألأ كلما كشفنا عنها وأنعمنا التأمل في معانيها، ولكن الآداب العربية في مجموعها هي آداب القرون الوسطى؛ ويجب لهذا السبب ألا نطلب منها تكوين الشخصية الأدبية في العصر الحاضر، وعبرتها هي قبل كل شيء تاريخية، والأديب الذي يقتصر عليها يعيش في عزلة ثقافية بعيدًا عن التيارات العالمية، بل يعيش في عزوبة أدبية بالمقارنة إلى الذين تزوجوا الآداب الأوروبية.
أما المؤلفون الأوروبيون الذين كانوا بذورًا حية في تكوين شخصيتي وإنماء ثقافتي فكثيرون — وذكر أسمائهم فضلًا عن تبيان ميزاتهم — يشغل الكثير من الصفحات، ولكني أقول إني التفتُّ التفاتًا خاصًّا إلى الإغريق القدماء، وكسبت منهم كثير من الخصائص الذهنية وخاصة في حرية الضمير ونزاهة الفكر، كما أني عنيت بدراسة الأدب الروسي في سن مبكرة، فارتفعت به إلى مستوى عالٍ من التمييز الفني حال دون ذلك الشغف الذي نجده في الشبان يغرمون بالقصص والمجلات التي تتحرش بالغريزة الجنسية، وإنه لحظ حقًّا أن يعرف الإنسان دستؤفسكي وجوركي وتولستوي قبل سن العشرين ويحبهما.
ومنذ سنة ١٩٠٨ إلى الآن وأنا أقرأ هـ. ج. ولز، وقد وجدت فيه التوجيه العالمي والإرشاد العلمي، وكذلك وجدت في برناردشو، ولا أظن أن هناك كتابًا كتبه أحدهما لم أقرأه.
ولكن مزاجي النفسي يعود في أكثره إلى داروين ونظرية التطور؛ فإن هذه النظرية هي منطق في ثقافتي، وأسلوب في دراستي، ودين في حياتي، وقد كانت بذرية من حيث إنها فتحت لي أبوابًا في دراسات أخرى كالسيكلوجية والاجتماع والجيولوجية والتاريخ والسياسة والاقتصاديات والأدب وغيرها؛ لأن نظرية التطور أكسبتني أساليب جديدة واتجاهًا جديدًا في دراستي، وأنا لهذا السبب أمتاز من كثير من الكُتَّابِ بأني أنظر النظر التطوري للغة والأدب، ومن يجهل نظرية التطور يعتقد الركود أو الجمود صفة عامة في الحضارة والثقافة والطبيعة، وهو لذلك قد يكره التغيُّر في اللغة والأدب، ويخشاه، ويبرر هذه الكراهة بالولاء مهما كانت حال كل منهما آسنة متعفنة.
وهذه النظرية هي التي حملتني على أن أتوقى الغيبيات، فأغتني عن إضاعة الوقت والجهد فيما لا طائل وراءه من أبحاث مظلمة، كما صرت أحسن الفهم والولاء لهذا الكوكب بهذا التوقي.
ولو شئت أن أذكر المؤلِّفين العشرة الذين أوثرهم على غيرهم لأني وجدت لهم أكبر نصيب في تربيتي لقلت أنهم: أفلاطون ودستؤفسكي ونيتشه وجوتيه وروسو وداروين وشو وولز وماركس وفرويد.
أما أفلاطون فلأني تعلمت منه النزاهة في التفكير، والجرأة على الترسيم الاجتماعي، كما نجدهما في كتابه الجمهورية.
وأما دستؤفسكي فلأنه علَّمني التمييز الفني، وحملني على أن أفكر بقلبي وأحس بذهني وهذا واضح في قصته العالمية «الإخوة كرامازوف» وسائر مؤلفاته التي تجعل قارئها إنسانيًّا.
وأما نيتشه فلأنه علمني شيئًا كثيرًا عن الأخلاق، من حيث تاريخها وقيمتها وبشريتها.
وأما جوتيه فهو الشخصية المُثلى التي أذكرها كلما ذكرت الرقي الشخصي والتوسُّع الذهني، بل هو الضمير الواخز الذي يبعثني على النهوض كلما ركدت أو يئست.
وأما روسو زعيم الحركة الرومانسية في أوروبا، فقد تأثرت به لأني لا أستطيع أن أفهم الثورة الفرنسية الكبرى وتطوُّر الآداب والانقلاب الروسي بدونه، ودعوته إلى العودة إلى الطبيعة هي البذرة لعدد كبير من الحركات الاجتماعية والأدبية.
وأما داروين أبو التطوُّر فحسبي ذكر اسمه.
وأما شو فلأني انتفعت بذهنه الصافي في التعليق مدى خمسين سنة على الحوادث السياسية والاجتماعية، فهو الصحفي الذي يدرس شئون هذا الكوكب بروح الاحترام الديني.
وأما ولز فقد وجَّهني الوجهة العالمية، وجعل الثقافة عندي عطشًا لا يطفأ، وكثير من تفكيري يجري بلا وجدان على الأساليب الولزية.
وأما ماركس فحسبي أن أقول إنه لولاه لكنت أعد نفسي أميًّا لا أفهم مجرد قراءة الجريدة اليومية، بل لا أفهم كيف تنشأ العواطف والأخلاق وتتغير المجتمعات.
أما فرويد فقد فتح لنا أبوابًا كانت مُقْفَلَةً من الدراسة في السيكلوجية جعلتني طالبًا أبديًّا لهذا العلم وبسطت لي عوالم جديدة.
•••
لقد ذكرت هؤلاء العشرة كي أتوخى الإيجاز، ولو أطلت لجعلتهم مئة أو أكثر، ولكل قارئ ظروفه ومزاجه، ونصف القرن الماضي يختلف عن نصف القرن القادم، فلا بد أن يتغير البرنامج الثقافي للقارئ، وهو وحده القادر على الاختيار والإيثار للمؤلفين البذريين.
على أن القارئ يجد من هؤلاء العشرة أني طلبت الثقافة لشيء واحد هو ترقية شخصيتي وفهم المجتمع عن سبيل دراسة العصر الحاضر، على أني يجب أن أنبه أنه ليس واحد منهم معصومًا من الخطأ، ولم أسلم قط التسليم الأعمى لأحدهم.
وقد كان نابليون يقول في ستراتيجية الحرب إن الجيش المحارب يجب أن يمتاز امتيازًا كبيرًا في سلاح معين، قد يكون سلاح البطريات أو المشاة أو الفرسان، ولا يبالي بعد ذلك أن يكون عاديًّا في سائر الأسلحة، وهذا هو أيضًا ما يجب على المثقف؛ فإنه يجب أن يمتاز في مادة معينة ولا يبالي بعد ذلك أن يكون عاديًّا في سائر المواد، وهو في تعمقه لإحدى الدراسات المتوهجة التي يخرج منها عشرات الأشعة إلى موضوعات أخرى، يجد أن الأبواب تفتح أمامه لاهتمامات جديدة.
وقد كانت البيولوجية — أي علم الحياة — بؤرة ثقافتي، تكوَّنت عندي في حمى الشباب حوالي الثامنة عشرة من العمر حين يستحيل القلق الجنسي بكمياء النفس إلى قلق ثقافي، فكانت الحيرة الدينية مثلًا بشأن المذهب الدارويني، ثم حملتني دراسة هذا المذهب إلى دراسات عديدة ما زالت إلى الآن — بعد ما يقرب من أربعين سنة — في شبكتها، وحسب القارئ أن يعرف عن تعمقي لهذا المذهب أني ألَّفت كتابًا «نظرية التطور وأصل الإنسان» مقالات متوالية أولًا في جريدة البلاغة دون أن أحتاج إلى الرجوع إلى كتاب؛ فإنه كله من الذاكرة.
ثم حملتني دراسة البيولوجية إلى دراسة السيكلوجية والاجتماع والدين والتاريخ والجيولوجية.
واحترفت الصحافة، فبل أن تنحدر إلى القيل والقال والتسلية، فتموت بها، وصار التفكير في الشئون الاجتماعية والسياسية عالمية ووطنية حرفتي التي تحملني على الدوام على التكمل والاستزادة.