البرنامج للتثقيف الذاتي
نقصد من إعداد البرنامج للتثقيف الذاتي إلى نقل النشاط من العقل الكامن إلى العقل الواجد؛ أي من الكامنة إلى الوجدان، أو من الرغبة العامة في الرقي الذهني إلى الإرادة الخاصة لتحقيق هدف معين، أو من بعثرة النشاط، يجري جزافًا ويتفرق في نواحٍ أخرى مختلفة، إلى بؤرة يحتدُّ فيها ويلتهب، ثم يتشعَّع إلى أنواع أخرى، فيكون التوسع والتعمق معًا عن مركز أصلي.
والواقع أن هذا ما يحدث بالفعل لكل شخص يقصد إلى الثقافة؛ فإنك لن تجد رجلًا مثقفًا إلا وله بؤرة أو بؤرات قليلة، يتجمع فيها نشاطه، بل يلتهب، ثم يتشعَّع منها. فهو يتخصص في مادة، ثم ينتقل منها إلى مواد أخرى. وهذا هو الشأن حتى في الذهن العادي إذا أخذ صاحبه نفسه بالجد في الدراسة.
وإعداد البرنامج يهيئ هذا التخصص، أي تكون البؤرة؛ فإن ظروف الحياة تستهلك الوقت والمال والجهد، وتبعثر هذه القوات، فلا يجد الراغب في التثقيف كفايته منها كي يدرس، ولكنه إذا أعد البرنامج، استطاعَ أن يوفر منها الكثير لهذه الغاية، فإذا شاء مثلًا أن يدرس لغة أجنبية فإنه يحتاج أولًا إلى دراسة على يد أحد المعلمين كي يقطع المرحلة الأولى، حتى إذا وصل إلى الاستقلال الدراسي احتاج إلى شراء الكتب وتخصيص الوقت، ثم هذه الدراسة يجب أن تكون متصلة، لا تنقطع شهرًا أو ستة شهور ثم تعود؛ لأن هذا الانقطاع يبعثر النشاط وقد يؤدي إلى الفتور.
فكي نتثقف يجب أن نعد البرنامج، فنعين الوقت الذي سنتخيره للدراسة، ساعتين أو ثلاثًا كل يوم، ويجب أن نعد المال الذي سننفقه على الدراسة بشراء الكتب أو المجلات، نحو عشرة جنيهات أو عشرين جنيهًا في العام، قد يذهب بعضها في استخدام معلم للابتداء في المادة والاسترشاد بنصيحته، ثم نوالي الدراسة مدة عامين أو ثلاثة أعوام، فلا نجيز لاهتمامات أخرى تستهلك الوقت والمال اللذين خصصناهما للدراسة.
والعجب أنَّ أحدنا يؤدي لابنه خمسين جنيهًا في العام لنفقات تعليمه بالجامعة، أو عشرين جنيها لنفقات تعليمه بالمدارس الثانوية، ثم يبخل على نفسه بثلاثين أو أربعين جنيهًا يشتري بها الكتب كل عام، يعلم بها نفسه ويوالي تربيته الذهنية، ومجتمعنا للأسف لا يشجع على هذه التربية للعوائق التي سبق أن ذكرنا، مثل المباراة الاقتصادية المهلكة التي تجعلنا مسخَّرين في جمع المال خوفًا من المستقبل، ومثل الزوجة الجاهلة التي تعارض في شراء الكتاب ولا تدرك أن رفَّ الكتب هو أشرف الأثاث في البيت.
والقارئ لهذا الكتاب قد يحس أننا نُكبر من شأن الثقافة كأنها فوق الحياة، وأننا يجب أن نعيش لنقرأ، وليس شك في أن هناك أشخاصًا يفعلون ذلك؛ أي إن التثقيف قد أصبح الهواية التي تحتوي كل حياتهم، وهم سعداء بالجهد الذي ينفقونه في هذه الغاية، ولو قيل لأحدنا إن غاية الحياة هي المعرفة لما استطاع أن يُنْكِرَ قيمة هذه النظرية إنكارًا تامًّا، وإن كان في قدرته أن يتحيَّفها من بعض نواحيها؛ فإن الإنسان الراقي لا يجد في هذه الدنيا أسمى ولا أثمن من الفهم الذي تثمره المعرفة.
ومع ذلك يجب أن نقول إن التثقيف للحياة، وليست الحياة للتثقيف؛ لأن بيت القصيد في الحياة هو الحياة نفسها، بل إننا حين نقول هذا القول نوجِّه تثقيفنا إلى الوجهة المثمرة للفهم، فلا ننشد دراسات عقيمة كانت حية في عصر ما ماتت ولم تعد لها دلالة في حياتنا الحاضرة.
أجل، يجب أن نحيا من أجل الحياة؛ أي إن غاية الحياة هي الحياة، وحتى حين نقول إن الفهم أو الحكمة أو الفلسفة أو المعرفة أو الصحة أو الطمأنينة هي غاية الحياة، فإنما نعني في الواقع أن كل هذه الأشياء تؤدي في النهاية إلى الحياة، ونستطيع بعد ذلك أن نصف هذه الحياة بأنها هي الحياة الشريفة والسعيدة أو السامية أو الفهيمة أو الدالة.
وعندئذٍ نستطيع أن ننشد بدلًا من أسلوب الكتاب أسلوب الحياة، ويجب أن يعيب الكاتب أو الدارس أن يتوخى النثر الفخم الرائع، والشعر العالي الرصين، في حين هو لا يطلب من حياته أن تكون قصيدة سامية أو على الأقل نثرًا رائعًا؛ أي إنه لا يطلب أن تكون حياته فنية يطرد سيرها رقصًا وتلحينًا، وليس مشيًا مشوشًا، أجل بدلًا من أن نتوسع في الكيمياء أو التاريخ يجب أن نتوسع في الحياة ونتعمقها؛ لأن الحياة هي الأصل وهي الغاية.
ولكن، لأجل أن نتوسع، ونتعمق الحياة، ونستمتع بأشرف وألذ ما فيها، ولأجل أن نعيش الحياة البليغة الدالة، حياة النفس والجسم والذهن، ويؤلِّف كل منَّا من حياته علواء، كل خطوة فيها بيت من الشعر، أجل لأجل هذا كله يجب أن نثقف عقولنا ونربي أنفسنا.
والوسيلة إلى ذلك هي المعرفة التي نحصل عليها بالدراسة، فإذا تجمعت لنا المعارف من ميادين مختلفة في العلم والأدب والفلسفة، وإذا عالجنها بالفهم، فإننا نكوِّن منها الآراء السديدة.
على أن الآراء تستهلك مجهودًا نفسيًّا وذهنيًّا كبيرًا، ولا يمكننا أن نسلك في حياتنا بالرأي فقط؛ ولذلك فإن من قيم الثقافة هنا أن نحيل الرأي إلى عاطفة، ونعني الرأي السديد الذي وصلنا إليه بتقليب المعارف وتفهمها، فإذا صار الرأي عاطفة دخل في نظامنا النفسي وتغلغل في كياننا، ونحن نمارس العاطفة في سهولة وبلا وجدان، وعندئذٍ تستحيل العاطفة جزءًا من أسلوب الحياة.
والمعرفة تؤدي إلى الفهم والرأي والحكمة.
والرأي والحكمة يؤديان إلى أسلوب الحياة.
فغاية الثقافة، بل غايتها السامية، هي الحياة، أي الوصول إلى أسلوب سامٍ نعيش به، ومن هنا يجب أن تكون الثقافة «تطبيقية» غايتها مثل غاية الفلسفة وغاية الدين: معرفة ثم فهم ثم رأي ثم عاطفة، ثم الأسلوب الذي نعيش به، والمقياس الذي نقيس به الثقافة يجب ألَّا يختلف عن المقياس الذي نقيس به الديانة والفلسفة؛ أي: ما هو مقدار الفهم الذي حققناه منها؟ وما هي العواطف النبيلة التي بعثها في نفوسنا؟ وما هو أسلوب العيش السامي الذي أدت إليه؟