كيف نربي أنفسنا
كان جرانت ألين الأديب الإنجليزي يقول على سبيل التهكم بالمدارس: يجب أن نمنع المدارس من التدخل في تربية أولادنا.
وهو بذلك يعني أن المدارس لا يمكنها أن تربي الناس، وأنها إذا حاولت ذلك فلن تنجح، وأن مكان التربية الحقيقي هو البيت أو الشارع أو المجتمع، ولا يشك أحد الآن في أن قدرة المدرسة على التربية لإيجاد النزعات، وتكوين الأخلاق، والتوجيه الاجتماعي أو الفلسفي، صغيرة وأننا نحصل على هذه الأشياء جميعها من بيئات أخرى غير المدرسة، وهي تتكون وتنمو معنا نمو الحياة.
ولكن على فرض أن المدرسة تربي كما تعلم، فإن الناس ليسوا سواء في الحصول على الفرص المدرسية أو الجامعية؛ فإن منهم من يقتصر على التعليم الابتدائي، ومنهم من يصل إلى الشهادة الثانوية، وعدد الذين يحصلون على تعليم جامعي صغير محدود.
وتكاد التربية تكون عملًا فسيولوجيًّا؛ فان الجسم لا يطلب الطعام إلا عند الجوع، ولا يطلب الماء إلا عند العطش، وهو يأخذ من الماء والطعام بالقدر الذي يحتاج، وفي الوقت الذي يحس فيه عاطفتي الجوع والعطش، وهو يختار ما يحب، ويعزف عمَّا يكره، وكذلك الشأن في التربية؛ فإن الإنسان متى جاز طور الطفولة أو الصبا عرف كفاءته وبراعته، وأدرك حاجته الثقافية، وطلبها بالقدر الذي يمكنه أن يهضمه ويمثله، وكما أن الطعام يستحيل شيئًا آخر في الجسم غير ما كان عليه قبل أن يهضم ويمثل، كذلك المعارف تمتزج بنفوسنا وتحرك نشاطنا وتبعث طموحنا، ويختلف تأثيرها من شخص إلى آخر لاختلاف الحاجة النفسية عند كل منهم؛ ومن هنا قولنا إن التعلم عمل فسيولوجي لأن له دورة في النفس، كما أن للطعام دورة في الجسم؛ ولذلك خير من يربي الشاب هو الشاب نفسه لأنه حين يشتهي الوقوف على موضوع ما إنما يشتهيه لحاجة نفسية، وهذه الحاجة هي بمثابة الجوع الذي يهيئ للهضم والتمثيل.
وأعظم ما يعاب على المدرسة أنها تعلمنا المواد، أو تعطينا المعارف، ولكنها لا تعلمنا المنهج أو الطريقة التي يمكننا بها أن نحصل على هذه المواد والمعارف ونتزيد منها، وصحيح أن المدارس «الناهضة» التي اتبعت طريقة «المشروع» وغيره من الطرق قد انتبهت إلى هذا الركن الأساسي من التربية وشرعت تعالجه. ولكن، إلى أن تعم المدارس الناهضة، سيبقى شبابنا وهم قاصرون مقصرون في المدارس، وسيبقى فضل التربية الذاتية واضحًا بارزًا على التربية المدرسية لهذا السبب.
وبواعث التربية الذاتية تختلف، فهي عند أحد الشبان حاجة يحسها بشأن العمل الذي يمارس، من حيث إنه يريد الاستزادة أو التكمل فيه، وعند غيره هواية قد شغلت ذهنه، وهي تتفتح أمامه بضروب من الارتياد الذهني، وعند آخر قد يكون الباعث قراءة الجريدة اليومية، والرغبة في الوقوف على العوامل الكامنة التي تختبئ وراء السياسة الظاهرة.
ولكل شاب فترة في حياته، تقع بين السابعة عشر والخامسة والعشرين، يحس فيها رغبة حارة للاطلاع كأنها الحمى، وقد يسوء استغلال هذه الفترة؛ لأن الأبوين يكُفَّان ابنهما مثلًا عن هذا الاطلاع ويميتان فيه اليقظة، ولكن الأغلب أن الشابَّ يجد في هذين السِّنَّيْنِ بواعث قوية تطلق ذهنه على الرغم من جميع القيود للتعرف إلى كثير من المشكلات الإنسانية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية، وقد يكون لهذه الحمى الثقافية علاقة فسيولوجية بتطور النمو في الشاب وانتقاله من الصبا إلى الشباب، وما يؤدي إليه هذا الانتقال من حيرة تبحث على التطلع الجنسي أولًا، ثم يتسع هذا التطلع إلى أن يصير بعد ذلك تطلعًا ثقافيًّا.
وفي هذا الفترة يتعوَّد الشاب القراءة حتى تصير هواية يشغف بها، وبعيدٌ أن يتعلق بالثقافة إذا فاتت سن الشباب، وفي هذه الهواية يجد من النظريات والأفكار ما يُعَدُّ محوريًّا أو بذريًّا في نموه الذهني فإن المعارف ليست سواء؛ لأنَّ بعضها يقع في التربة الذهنية جامدًا لا يلقح، وبعضها يجد خصوبة فينمو ويمتزج ويتفرع إذ هو بمثابة البذرة الصالحة للنمو، وبتوالي السنين وباصطدامنا بالحوادث التي تتفاعل أذهاننا بها، تتجمع عندنا طائفة من الأفكار نعتنقها كأنها المبادئ أو العقائد أو المذاهب، فنحن نقرأ كي نتوسع فيها وندافع عنها، فتصير لنا بمثابة الحافز الذي يحفزنا على الاستزادة من الدرس والتوسع.
كل قارئ تقريبًا سيجد الأفكار المحورية أو البذرية تنشأ ثم تنمو في ذهنه؛ وعليه عندئذ أن يرعاها بالتوسع في القراءة المنظمة والدرس المتواصل، وقد عرفنا كثيرين من الشبان، كان السبب لتعمقهم في الإنجليزية أو الفرنسية رغبة حارة في استقصاء أحد الموضوعات العلمية، كما عرفنا شبانًا آخرين كانت التربية المدرسية تنقصهم، ولكن حمى الاطِّلاع أصابتهم حوالي الثامنة عشرة من العمر، فاندفعوا في تيارها وحصلوا من الثقافة على لا ما يمكن لأي تعليم مدرسي أن يزود أحدًا من التلاميذ به، وعرفنا آخرين أصبحت التربية الذاتية عندهم عادة، فصارت لهم في بيوتهم مكتبات كفتهم عن التعرف إلى المفاسد التي يقع فيها زملاؤهم من الشبان الذين لم يَهْوَوُا القراءة، كما رفعتهم إلى درجة عالية من التمييز.
ولكن كيف يمكن للشباب أن يعمد إلى تثقيف نفسه إذا كان قد ساء حظه فلم يتعلَّم التعليم الكافي في المدرسة، ثم لم يجد في نفسه تلك الحمى التي أشرنا إليها، أو وجدها ثم لم يستطع الانتفاع بها لظروف مختلفة؟
وللجواب على هذا السؤال نقول: إن مثل هذا الشاب قليل؛ لأن هذه الحمى الثقافية تكاد تكون طبيعية، والمحموم بها يتغلب على جميع العوائق، ولكن لنفرض أن شابًّا بلغ العشرين أو الخامسة والعشرين ويجب أن يشرع في برنامج ثقافي، فكيف يفعل؟
يجب أن يعمد قبل كل شيء إلى الجريدة اليومية، يقرؤها في الصباح كي ينبه ذهنه إلى الحوادث الخطيرة ويتصل بالمجتمع العالمي ويلقي عليه نظرة عامة، وفي الجريدة مشروعات وأخبار وحوادث يجب أن تبعث التفكير عند الإنسان العادي، وبالطبع تختلف الجرائد في النزعة الثقافية ومقدار عنايتها بالفنون والعلوم السياسة، ولكن القارئ لا بد مهتدٍ إلى ما يلائمه.
ثم يجب عليه أن يتدرج من الجرائد اليومية إلى المجلة الراقية، ثم إلى الكتاب، ونحن نقول «يجب عليه» ولكن الحقيقة أن الرغبة ستدفعه في نشاط وحرارة إلى اختيار المجلات والكتب متطوعًا بلا إجبار، ومتى فعل ذلك فإنه يكون عندئذٍ قد وصل إلى «الطريق الملوكي» للثقافة؛ وذلك أنه سيعين لنفسه غاية ثقافية كأنها البوصلة، يتجه بها وينشد المعارف ويجمعها للوصول إليها، ولما كانت الثقافة فسيولوجية في أسلوبها فإن الرجل المثقف سيأخذ منها أنواعًا ومقادير تأتلف وطاقته ومزاجه؛ ولذلك كثيرًا ما ينسلخ الإنسان من ثوبه الثقافي ويستحيل شخصًا آخر، كما تنسلخ العذراء من الخدر وتصير حشرة كاملة.
ومع كل ما ذكرنا عن الضرر الذي ينشأ من التخصص، فإن الرجل المثقف يمتاز بالتخصص الذي يبدأ به قبل التثقيف العام، أو ينتهي إليه بعد التثقيف العام، فهو يهوى موضوعًا معينًا ينفق عليه من وقته وماله، وهذا الموضوع يكون له بمثابة المحور الذي يجمع إليه شتَّى المعارف تنتظم وتنمو وتتفرغ، فهو يبدأ في تعميم، يقرأ هنا وهناك، كأنه يتسكع أو يتنزه، ولكنه ينتهي إلى تخصص، فيحضر معظم قراءته في موضوع معين يتصل بحرفته أو هوايته، وعندئذٍ تنتظم دراسته؛ لأن التخصص يجعله يتعمق، ويأنف من المعارف السطحية. وكل شاب مثقف يجب لذلك أن يتعمق فرعًا معينًا من المعارف، بحيث يحاول أن يعرف كلياته وجزئياته، كما يعرف شيئًا ما عن سائر المعارف.
وفي عصرنا الحاضر من المشكلات ما يجعل كل إنسان محتاجًا إلى الثقافة إن لم يكن لحلها فلا أقل من تفهُّمها، ومن هنا قيمة التربية النفسية والنظر إلى شئون العالم بالفهم والدرس والرغبة في التعرف والاطلاع.
وعلى كل شاب أن يُعْنَى باختيار أصدقائه، بحيث يكونون من المثقفين أو الذين يهوون القراءة حتى يجد فيهم القدوة والمعونة، وحتى يستطيع أن يمتحن معارفه بالمقارنة إلى معارفهم من الحديث النيِّر والمناقشة المثمرة معهم، وأسوأ ما يعوق الشاب عن الثقافة أن يغويه آخر بالمفاسد والملاهي، وأن يكون أصدقاؤه من العابثين اللاهين وليسوا من الهادفين الجادِّين في الحياة.