البيئة العائلية والثقافة
من أسوأ الأحوال الاجتماعية في مصر أن التكافؤ الثقافي بين الزوجين نادر أو معدوم، فالزوج أحيانًا متعلم مثقف، والزوجة لم تحصل من التعليم إلا على نصيب صغير، وهي لم تتعود الثقافة، وبعض التبعة في هذا يعود إلى تقاليدنا التي نزلت بالمرأة إلى مركز اجتماعي دون مركز الرجل، ولكن بعض هذه التبعة أيضًا، بل ربما معظمها، يعود إلى قوات إمبراطورية قاهرة، كما نرى مثلًا في تلك الحقيقة المخزية، وهي أن وزارة «المعارف» لم تؤسِّس مدرسة ثانوية للبنات إلا في سنة ١٩٢٥ كما سبق أن ذكرنا.
وقد نشأ عن هذا الإهمال أن البيت المصري لا يزال إلى الآن يجهل المكتبة، وأن الكتاب والصورة والتحفة ليست من أثاثه، وليس من شك في أن نهضتنا منذ سنة ١٩٢٢ قد عالجت هذه الحال بعض الشيء، كما يدل على ذلك آلاف التلميذات والطالبات في الأقسام الثانوية وفي جامعاتنا، فنحن ناجحون في مكافحة ظلام القرون الماضية ومظالم القرون العشرين معًا، ولن يبعد اليوم الذي نرى فيه نور الثقافة يشع من بيوتنا حين يعيش الزوجان متكافئين يتحدثان بلغة واحدة على مستوي راق من الفهم والتفاهم.
وما دامت الزوجة جاهلة في حالا الأمية، أو لم تحصل إلا على الدرجات الأولى من التعليم، فإنها تعارض زوجها فيما ينفق من وقت أو نقد على الكتاب، وهو لظروف المعيشة الزوجية، وتكرار الإلحاح أو التوبيخ، قد يضطر في النهاية إلى مسايرة زوجته، فيكف عن شراء الكتاب أو يرضى بتجميد ذهنه إيثارًا للسلام العائلي، ولكنه إذا كان على شيء من المتانة الأخلاقية استطاع أن يتغلب على جهل زوجته ولو في مشقة.
وبدهي أن خير الوسائل لهذا التغلُّب هو تعليم الزوجة حتى ترتفع إلى مستوى زوجها، ولكن هذه الوسيلة شاقة؛ إذ من البعيد أن تتعود امرأة عادات الثقافة بعد أن قضت نحو عشرين سنة في الجهل أو ما يقاربه، وكثيرًا ما يجد الزوج أن التفاوت الثقافي بينه وبين زوجته قد استحال إلى هوة فاغرة، حتى لتعود الحياة الزوجية معاشرة غايتها التعارف البيولوجي التناسلي وضمان الراحة في الطعام والمأوى فقط؛ لأن لكل منهما اتجاهًا فكريًّا يمنع الاشتراك في الحديث وسلوكًا معيشيًّا يحول دون تحقيق المثليات.
ولكن الزوجة على وجه عام، حتى حين تكون متعلمة نوعًا ما، تبخل بثمن الكتاب، وتجد في التفات زوجها إلى الدرس إهمالًا لها أو قلة في العناية بها، فهي تغار من الكتاب كما لو كان ضُرَّتَهَا، وسوف تبقى هذه الحال عامة إلى أن نحطم التقاليد السوداء ونجعل تعليم المرأة مثل تعليم الرجل سواء في الكم والكيف؛ لأننا بهذه التسوية نرفعهما إلى مستوى مشترك حيث يتحدثان ويفكران ويتجهان في غير انفصال.
وإلى أن نصل إلى هذه الحال، يجب على الزوج أن يعالج زوجته المعالجة الإيجابية البنائية؛ فإنه يسهل عليه مثلًا أن يوضح لها أن القراءة، وإن تكن تلهيه عنها، فهي تمتاز بأنها تجذب الزوج إلى البيت، حيث يكون مع زوجته وأولاده يقضي فراغه معهم بدلًا من تلك الملاهي الأخرى التي تجذبه إلى المقهى أو النادي حيث يكون عرضة لغوايات مختلفة، والفراغ إذا لم يملأ بالكتاب سوف يُملأ بأي لهو آخر قد يضر بالصحة الجسمية أو النفسية أو المالية، ثم الكتاب مع ذلك يمكن أن يكون من الأثاث الفاخر للبيت، إذا عُنِينَا بتجليده واقتنينا الخزانة الفاخرة أو الرف الأنيق الذي يحمله.
والزوجة لاتجاهها الاجتماعي تقدر الأثاث الحسن، ومن أعظم العقبات في اقتناء الكتب أنَّنَا نشتريها في مصر بغلاف من الورق سرعان ما يتمزق أو يتفكك، فيشوه الكتاب، ويجعله ناشزًا بين أدوات من الأثاث المنسَّق حتى لتحتاج الزوجة إلى إخفائه ودسِّه في مكان ما، فإذا عني الزوج بتجليد الكتاب، واقتناء خزانة فاخرة لا يقل ثمنها أو التأنق في صنعها وتزيينها عمَّا نفعل بخزانة الملابس، وجدت الزوجة فخرًا وسببًا للمباهاة، فلا تعارض في اقتناء الكتب.
وإلى الكتب يجب أن تُضاف تحف أخرى، مثل الصور وبعض الطرف الجميلة، وفي هذه الحال يزيدان الصالون المخصَّص للضيوف بالكتب والتحف والصور كما يزدان بالكراسي أو المناضد؛ وعندئذٍ تقدر الكتب كأنَّها من أدوات البيت الضرورية التي تتنافس ربات البيوت في اقتنائها، بل ربما في قراءتها.
وليس مفر للزوج، إذا شاء أن يعيش سعيدًا في بيته، مثقفًا في ذهنه، مربيًا لنفسه، أن يرفع مستوى زوجته، وأن يجعل الثقافة جوًّا مألوفًا في البيت، فإذا كانت الجريدة والمجلة تصِلَان إلى البيت في نظام لا ينقطع؛ فإن حديث أعضاء البيت يرتفع من القيل والقال إلى السياسة العامة، وطنية أو عالمية، وصحيح أن معظم مجلاتنا لا تسمو على القيل والقال، لكن الزوج البصير يمكنه أن يناقش أعضاء عائلته في الشئون الخطيرة، ويوجههم، فينتفع هو في النهاية بهذا التوجيه، وعندئذٍ يجد العطف، بل التقدير، حين يقبل في حماسة على ترقية ذهنِه وترقية نفسه بثقافة عميقة قد لا تصل إليها الزوجة ولكنها لا تنكر قيمتها، فلا تعارُض فيما ينفق عليها من مال ووقت، وعندئذٍ يكون الزوج قدوة للأبناء، فلا يأسف على عجزه لأنَّه لم يستطع أن يكون قدوة لزوجته.