الرجعية المعارضة للثقافة
الرجعية في لُبابها دعوة إلى حل المشكلات الاجتماعية بالعقائد الجامدة والموروثة، بدلًا من التفكير الحر المبتكر؛ ففي مجتمع رجعي يعيش الفرد وهو خاضع في بيته وحكومته وتصرفه لألوان من العادات كأنها شعائر دينية يجب ألَّا تُخَالَفُ أو تُنَاقَضُ، وهذه الحال تنتهي به إلى أن يخضع في تفكيره لقواعد وسنن يجب ألَّا يخالِفها، بل يجب ألا يتحدث عمَّا يخالفها إذا خطرت له، والرجعي يلجأ عادة إلى الدين فيستند إليه في تحريم القراءة لهذا الكتاب، أو منع البحث لهذا الموضوع، فالكنيسة الكاثوليكية مثلًا تعيِّن نحو مئة كتاب أو أكثر لا يجوز في زعمها للمؤمنين بها أن يقرءوها، وقد كانت هذه الكنيسة تأمر — قبل قرنين أو ثلاثة — بإحراق الكتب التي لا تحب، كما فعل فرانكو في أسبانيا وهتلر في ألمانيا قبل سنوات، وقد ارتكبنا نحن في مصر شيئًا قريبًا من هذا في بعض الكتب الاشتراكية والشيوعية، وهذا الخزي الوطني قد أوقعنا فيه رجعيون، وفي كل أمة أفراد يؤثرون التفكير الأسلوبي الموروث، ويلتزمون العادات، ويخشون الابتداع.
ومما يذكر عن جريدة التيمس التي تقرؤها الطبقة الثرية في إنجلترا أنها كانت تقاطع كلمة «سفلس» إلى سنة ألف ١٩١٦؛ لأن هذه الكلمة أسم لأحد المرضين الزهريين المشهورين، ولما كانت الطبقة التي تجد التيمس قراءها بينها تتجنب هذه الكلمة في حديث أفرادها الذين ربما يقعون في هذا المرض؛ فإن التيمس جارتهم في هذا النفاق أكثر من قرنين، ويهمنا من الرجعية معارضتها للتثقيف الذي هو موضوع هذا الكتاب، فإذا كان المجتمع رجعيًّا لأنه مرهق بعبءٍ ثقيل من التقاليد الموروثة، وإذا كان رجال الدين رجعيين (وهم كذلك في أغلب الحالات) فإن الحكومة تستطيع بإنشاء المدارس وإباحة التفكير الحر أن تحيل هذه الرجعية إلى تجديد وانتهاض، ولكن إذا كانت الحكومة نفسها رجعية فإن التجديد والانتهاض بين المجتمع يحتاجان إلى جهد عظيم قد يعجز عنهما هذا المجتمع؛ لأن بذرة التجديد وريح النهضة تحاربان وتكافحان من رجال الحكومة أنفسهم، وقد رأينا في عصرنا كيف أن أمَّة متمدنة مثل ألمانيا وأمتين أخريين قد أوشكتا بالحرية والتعاليم أن تعمهما الحضارة، هذه الأمم الثلاث قد أحالتهن حكوماتهن إلى أمم رجعية تحارب التفكير الحر وتحرق الكتب، بل ترد المرأة إلى المطبخ. وقد أوشك المجتمع في هذه الأمم الثلاث على أن يعود رجعيًّا ساقطًا بعد نهضته.
والناس يتنفسون بعقولهم كما يتنفسون برئاتهم، وهم يحتاجون إلى حركة الفكر كما يحتاجون إلى حركة الهواء كي يصحوا وينتعشوا، ولكنهم أيضًا يعتادون الأفكار المحبوسة كما يعتادون الهواء المحبوس، وعندئذٍ يمرضون فيفقدون صحة الجسم والعقل، فلكي تنمو أذهاننا، وكي نربي أنفسنا بالثقافة البشرية العامة، يجب أن نعيش في جو حرٍّ تكفل حريته وتصونها حكومة عصرية مستنيرة تعلم أنه ليس في الطبيعة قرار وأن كل ما فيها يتغير، وأننا لم نصل بعدُ إلى المجتمع الأمثل حتى نستقر على مؤسساته ونقول إنه ليس في الدنيا ولن يكون أبدع منها؛ ولذلك يجب — كي نحصل على ثقافة حرة تربينا — أن نجيز النقد لجميع مؤسساتنا الاجتماعية ولا نضع أي قيد أو نعين أي حد يمنع التفكير الحر.
والحكومات الرجعية — مثل حكومة ألمانيا وإيطاليا سابقًا وأسبانيا الآن — قد أحرقت الكتب ووضعت غرامات باهظة على كل من يرغب في إنشاء جريدة أو مجلة، وجعلت للصحفيين والكتاب عقوبات قاسية خاصة على ما ينشرونه، وهذا إلى قصر التعليم على عدد معين على الطلبة، ولا يمكن شابًّا في مثل هذه الظروف أن يربي نفسه لأنه لن يجد الكتب الحرة النزيهة التي تربي، ولن يجد الجرائد والمجلات الحرة التي تنير، فالشرط الأساسي للتثقيف الذاتي أن نعيش في جو فكري يجيز التأليف وإنشاء الجرائد والمجلات بدون فرض غرامة مالية أو إيجاد صعوبات قانونية يقصد منها إلى تقييد التأليف والنشر، ولا عبرة بالدعاوى التي تقال في فرض هذه الغرامات، أو وصفها بأنها ضمانات، كما لا عبرة بدعوى الحماية للتقاليد لأن النهاية التي نصل إليها من كل هذه الدعاوى هي تقييد الحرية الفكرية التي هي حق لكل أمة عصرية لا يصح أن يمس أو ينتهك، بل هي حق لكل فرد ضد أمته، ولكل أمة ضد حكومتها.
وحسب القارئ أن يعرف أن فنلندا يقل سكانها عن أربعة ملايين ومع ذلك فيها ٢٠٩ من الجرائد اليومية و٥٥٧ مجلة أسبوعية وشهرية، ولكل من هذه الصحف قوة التوليد في الثقافة، هذا التوليد الذي هو الفرق الأساسي بين أمم الغرب الناهضة وأمم الشرق القاعدة.
ولا قيمة لاستقلال تناله أمة بعد التخلص من الاستعمار إذا كان الرجعيون أو المستبدُّون سيتولون الحكم ويثقلونها بقيود الفكر والجسم، فالمستبد والرجعي والاستعماري سواء.
بل إني حين أقارن بين الشعوب العربية التي رزحت تحت الاستعمار، وتعذَّبت به سنين، وبين الشعوب العربية الأخرى التي لم تعرف الاستعمار، بل عاشت «مستقلة»؛ أجد أن كلمة النهضة تنطبق على تلك الشعوب التي أذلَّها الاستعمار ولكنه في الوقت نفسه بعث فيها حركات ناهضة بالاتصال بالثقافة الأوروبية العصرية، فاستطاعت أن تتخلص من بعض تقاليدها وأن تتمدن وتحيا الحياة العصرية.
أما الشعوب العربية «المستقلة» فلا تزال مقيدة بتقاليدها، تأسن في رجعيتها وتخشى الثقافة وتجهل الدستور، بل لا تزال تمارس الرقَّ أحيانًا وترفض تعليم المرأة.
ويستطيع القارئ بمقارنة سريعة أن ينظر ويستنتج، ولا بد أنه سيجد عندئذٍ أن رجعية الشرق عند أبنائه لا تنقص في استبدادها بهم عند استعمار الغرب لهم، بل أحيانًا أسوأ وأتعس.