تحصيل العيش والثقافة
ذكرنا جملة عوائق تمنع الثقافة أو لا تيسِّرها بالقدر الذي نرغب فيه، ويجب مع ذلك ألَّا يفوتنا ذكر عائق كبير وهو تحصيل العيش؛ فإن ٩٠ في المئة من الأمة يعيشون في قلق على عيشهم، وهذا القلق يحمِّلهم همومًا مختلفة تجعلهم ينفقون كل وقتهم تقريبًا في جمع المال كي يطمئنوا على عيشهم هم وأولادهم، ونظام المباراة الذي نعيش فيه يجعل الاطمئنان على العيش مزعزعًا ويجعل الخوف من المستقبل مائلًا دائمًا، فالأب لا يعرف ماذا يكون مصير أولاده، بل لا يعرف هل يجد هو نفسه الشيخوخة الهنيئة، وهو حين يَفِرُّ من عمله، ويلجأ إلى بيته للراحة، يجد أن جوَّ المباراة التي يكتنفه ماديًّا وروحيًّا قد انتقل إليه، فهو يفكر في الكسب ويحلم بالثراء حتى حين يكون في فراشه.
وهذا الاتجاه المادي لإيثار الكسب على كل شيء وإرصاد الجهد للصحة والوقت لجمع المال، يجعل الرغبة في التثقيف الذاتي معدومة أو كالمعدومة، وكثيرًا ما رأينا أشخاصًا قد حملتهم هستيريا الكسب على النفور من الكتب والكراهة للقراءة كي يجدوا الوقت للعمل الكاسب، وكلنا يعرف ذلك «العصامي» الذي يفخر بثقافته السابقة وثرائه الحاضر ويعدد صفات الاستقلال والرجولة والمثابرة التي يمتاز بها، ولكنه مع ذلك جاهل لا يزال ذهنه فجًّا غشيمًا لم يهذب أو يصقل، كذهن حصان أو دب لا يدري من شئون هذا الكوكب سوى تلك المعارف المحدودة التي تتصل بكسبه عن أثمان هذه السلع أو رواج تلك السوق نحو ذلك.
وليس شك في قيمة المال في عصرنا، عصر المباراة هذا الذي يُدَاسُ فيه المحرومون، ولكن يجب ألَّا نجعل جمع المال هوسًا أو هستيريا؛ فإن غاية المال في النهاية هي الاستمتاع بالمسكن والغذاء واللباس وسائر الاعتبارات الاجتماعية، والثقافة هي أسمى ضروب الاستمتاع.
وليس من السهل أن نجذب ذلك المنغمس في الكسب المسحور بالمطامع المالية إلى الثقافة؛ لأنه في الواقع في حال من الإيحاء النفسي تحتاج إلى المعالجة السيكلوجية، وهو نائم يحتاج إلى الإيقاظ، وهو أعمى يحتاج إلى التبصير؛ فإنه ألِف عادات نفسية وذهنية جعلته غريبًا عن مواطن الثقافة، يتغطرس ويتعجرف كلما ذكرت له ميزات التربية الذاتية وترقية الشخصية والتوسع الذهني.
ومثل هذا الشخص يجب أن نحتال عليه كي نبعث الحرارة في ذهنه البارد ونوقظه من بلادته وسباته، ونشعره بالخجل إن لم يكن بالخزي من جهله، ونحن نعرف مثلًا أن الأوساط تختلف في إثارة التنبيه الذهني، فالوسط الزراعي مثلًا يخلو من المنبِّهات الذهنية لأنه وسط الاستقرار، أما وسط المدينة فيحفل بالمنبهات للتغير الدائم فيه؛ ولذلك فوطن الثقافة هو المدينة وليس الريف.
والأزمنة كالأوساط تختلف أيضًا في قدرتها على التنبيه الذهني؛ ففي زمن الحروب نقرأ الجرائد بشهوة حادة، وفي أيام الفتنة أو الثورة نحب أن نسمع ونقرأ ونرى، وفي أيام الغلاء والقحط والأزمات نتحدث عن المشكلات الاقتصادية ونحاول أن نفهم ونستنير.
ونحن نعرف أيضًا أن الثري للطمأنينة التامة يركد ويترهل، ولكنه يتنبه عندما يحف به خطر اقتصادي، أو تنزل به كارثة مالية، وقد يشرع عندئذٍ في الدرس بعد حياة طويلة كانت مجالة بسواد الجهل.
والمغزى الذي نقصد إليه هو أن الباعث على التفكير والدرس هو مقدار معتدل من القلق، أي إن الطمأنينة يجب ألَّا تكون تامة، وهذا القلق نجده في المدينة أكثر مما نجده في الريف، وهو أكثر في أيام الحرب والقحط ممَّا هو في أيام السلام والرخاء، وهو أكثر عند المشتغل بكسب عيشه ممَّا هو عند الوارث المطمئن.
على أنه يجب أن لا تُمسك المعايش بخناقنا؛ لأنه من الواضح إذا كان القلق عظيمًا فإنه يمنع من التفكير السليم أو الرغبة في الدرس، ولكنا نقصد إلى القلق المعتدل الذي يحدث لنا غمًّا أو همًّا خفيفين، والنفس في مثل هذه الحال تلجأ إلى الخيالات المضادة التي تحدث السرور، ونحن حين نفكر إنما نرتب هذه الخيالات ونجعلها تسير مع المنطق، ونستعين بالدرس كي نحسن التفكير ونصل إلى النتائج.
وهذا المنغمس في تحصيل العيش، الذي ينفر من الثقافة، يجب أن ننبه ذهنه عن سبيل العمل الذي ينغمس فيه، بأن نحدث له قلقًا يستتبع غمًّا أو همًّا يحمله على التفكير والدرس، فإذا عمدنا إلى ثري يكتنز النقود وتحدثنا إليه عن نزول النقد، وأن الذهب لن يعود إلى التعامل، وأن المبادئ الاشتراكية تعم العالم رويدًا رويدًا؛ فإننا بلا شك ننبهه من ركوده ونبعثه على أن يتساءل: ما قيمة الاكتناز للثروة إذا كان مصيرها يومًا ما مصير المارك الألماني سنة ١٩٢٢؟ وقد يحمله هذا على درس الاقتصاديات، ومتى شرع فإنه لن ينكص، ومتى تنبَّه فإنه لن يركد.
وكذلك الشأن في غيره من أولئك المنغمسين في تحصيل العيش إلى حدِّ إرصاد الوقت والجهد في سبيله، فإنَّنَا نعالجهم عن سبيل انغماسهم، فنوضح لهم حينًا مقدار المنفعة التي تعود عليهم إذا درسوا وتوسَّعوا في مهنتهم، وحينًا نبين لهم الأخطار التي تتعرض لها هذه المهنة في المستقبل، بل نحتاج إلى أن نبين أيضًا أن الوجاهة والمكانة والاحترام تُنال كلها بقليل من الثقافة، ولا تُنال بكثير من المال الذي ترافقه جلافة الجهد والعصامية المزعومة.
واختيار الأصدقاء من المثقفين — كما سبق أن ذكرنا — هو أفعل الوسائل لبعث الشوق إلى الثقافة؛ لأن للقدوة أكبر الأثر في الإيحاء، وكما أن ثري الحرب يقتني الأثاث الفاخر للمباهاة، فإنه كذلك يجب أن يباهي بالأصدقاء المتعلمين، وهؤلاء يستطيعون أن يوجِّهوه ويرشدوه في تعليم نفسه وأعضاء عائلته.