الفصل الأول
تأنَّق الشيخ سلطان عبد الصبور وبالغ في تألُّقه متخذًا الجُبَّة الخضراء الزيتونية اللون على القفطان ذي الأرضية الفستقية والخطوط الضاربة إلى الخضرة، وأحكم لفَّ العمامة، وطالع نفسه في المرآة مراتٍ عديدة، وحاول في كل مرة أن يستوحي من هذه الخضرة التي يكسو بها نفسه بعض إشراقٍ يجوب نفسه الضيقة الملول، ولكنه لم يُفلح في محاولاته جميعًا. كان الشيخ يُعدُّ نفسه للذهاب إلى مكتبه بالوعظ والإرشاد بالأزهر الشريف، وهو مكتب ألِفه منذ ترك وظيفته في التفتيش على خطباء المساجد في المنوفية، وقد مرَّ على هذه النقلة سنوات وسنوات؛ فقد انتقل من هناك وابنه عباس في المهد، وها هو ذا عباس اليوم يتقدَّم لينال شهادة التوجيهية. سنوات وسنوات، وهو كل يوم ذاهب وعائدٌ إلى المكتب، ومنه يُشرف مع المشرفين على الوعظ والإرشاد في الدولة المصرية، فما أفلح وعظٌ ولا نجح إرشاد، والناس تسمع بآذان متعجِّلة تُريد أن تُسارع لتُفرغ ما قد سمعته في حان، أو فيما هو شرٌّ من الحان، وإبليس اللعين يُلاحق قسم الوعظ في العميق العميق من نفوس الناس، وخطباء القسم لا تمتد ألسنتهم لغير آذان إن سمعت لا تعي، وإن وعت فما هي إلا تسلية الصلاة حتى يقطعون ما بينهم وبين الله، ويرجعون إلى إبليس الذي يُصاحب نفوسهم ولا يزال بها يُغريها بكل ما يملكه من وسائلَ للإغراء، وإنها في يده كثيرة.
وأين وجه الشيخ عكاشة أفصح خطباء الوعظ والإرشاد من فتاةٍ غيداء؟ بل أين أناقة الشيخ سلطان، وهي أناقة بالغةٌ من فستان مهما يكن رخيصًا؟ … إنها حرب لا تكافؤ فيها ولا عدل. وماذا يمكن أن يصنعوا جميعهم إزاء نظرةٍ حالمة، أو ابتسامة مستدعية، أو — والعياذ بالله — كلمة رقيقة؟ ألَا إنها قسمة ضيزى، وإن نصيبهم لأبخس الأنصبة. وحسبه من الزمان أنه ذاهبٌ كل يوم إلى مكتب الوعظ عائدٌ منه. وحسبه أيضًا أنه يُؤدِّي الصلوات الخمس مع كل سُنة، بل إنَّه لا يترك المأثور من شفعٍ ووتر. وإنه ليُطيل الركوع والسجود إطالةً قد تضيق بها زوجته زكية في كثير من الأحايين، ولكنه لا يبالي ضِيقها فهو يعلم أن إطالة السجود والركوع واجبٌ في الصلاة لا سبيل إلى التغاضي عنه. وحسبه أنه يُصلِّي الفجر في موقته؛ فلم يكن النوم عنده خيرًا من الصلاة في يومٍ من الأيام. وإنه لحريص كل الحرص على أن يُصلِّي ابنه عباس الصلوات جميعًا، وكذلك تفعل ابنته وهيبة، لكن أين هذا جميعه ممَّا هو مفروض عليه من وعظٍ وإرشاد؟
كان الشيخ قد أكمل ارتداء ملابسه ولم يبقَ إلا الحذاء، فجلس إلى الكنبة البلدية ذات الوسائد التي تعترض مقعدها وتذود ظهر الجالس إليها عن الحائط، وكانت المنضدة بجانب الكنبة لا تبتعد عنها أبدًا، وكانت لبيسة الحذاء على المنضدة لا تبرح مكانها إلا إلى حذاء الشيخ ثم تعود. وهكذا مدَّ الشيخ سلطان يده إلى اللبيسة دون أن يُكلِّف نفسه عناء النظر إلى موضعها، وقد أصابت يده مُرادها في غير تردُّد، ولبس الشيخ الحذاء وعادت اللبيسة، وصاح الشيخ كعادته: يا زكية!
وأصاب النداء الأذن التي أُرسل إليها وصاحت زكية من البهو: هل انتهيتَ من اللبس يا شيخ سلطان؟
ويصيح الشيخ مرةً أخرى: هل أعددتِ الإفطار؟
– دقيقة واحدة.
وتنحنح الشيخ وصمت هنيهة، ثم صاح: ألَبس عباس؟
ولم يُجبه أحد في هذه المرة، فعاد إلى الصمت، ولكنه ما لبث أن ضاق به كما ضاق بنفسه داخل الحجرة لا يفعل شيئًا، فقام مرةً أخرى إلى الصوان وفتح ضلفته ذات المرآة وأخرج من الرف الأعلى زجاجةً صغيرة الحجم يغشى الزيتُ ظاهرها ذات غطاء زجاجيٍّ دقيق، لا يقف عمله على تغطية الزجاجة، وإنما هو أيضا مِرود يجعل من يتزوَّد بعطرها حكيمًا غير جائر، فلا يُصيب من العطر إلا قدرًا قليلًا ينمُّ ولا يفضح. وتعطَّر الشيخ، ثم أعاد المِرود إلى الزجاجة، والزجاجة إلى الصوان، ثم أقفل الضلفة وعاد ينظر إلى المرآة … ويل للعطر! … إنه لم يزِد من أناقة الشيخ شيئًا!
وقبل أن يمدَّ الشيخ يده إلى شاربه الكث ليُحاول أن يلم شعثه أو يُهذِّب ثائره، تراءت له من تحت الجبة قطعة من القفطان تكوَّم تحتها الصدار، فراح يُسوِّي ما تجمَّع ويُعدِّل ما التوى، حتى عاد إلى ملبسه ما كان عليه من نظام قبل لبس الحذاء، ثم عاد هو ينظر إلى المرآة … ما زال كما هو … عينان واسعتان فيهما سطوة وفيهما قدرة على الخضوع، ووجه متردِّد بين الاستدارة والاستطالة يُغشِّيه الشعر في غزارةٍ وكرم؛ فاللحية كثة يُكلِّفه حلقها كل يوم موسًى جديدًا ووقتًا طويلًا، والحاجبان كثيفان كقطعتين من ليلةٍ في مُحاق، وإن كان الشعر الأبيض قد بدأ يرود طريقه فيهما فيبدو كالنجوم التي تسعى إلى السماء الداكنة خائفةً تبحث عن الأنيس أو الرفيق، والشارب كثٌّ ضخمٌ والشيخ دائمًا حائر فيه؛ فهو حينًا يجور عليه بالمقص، حتى ليصبح غير جديرٍ بوقار الشيخ ومكانته، وهو حينًا يُعفيه من التهذيب فترةً طويلةً فيبدو كالطفل المدلَّل دائم العربدة بادي الفوضى. وللشيخ بعد ذلك بقية من شعر في رأسه، ولكنِّي أحسب أننا لن نرى هذه البقية أبدًا؛ فالشيخ لا يترك العمامة إلا إذا لبس القلنسوة، فما هي إلا وَمضة حتى تُغطِّي واحدة منها رأس الشيخ، وما تكفي وَمضة لنُدرك مقدار ما بقي له من شعره، إلا أن سالفَيه غنيَّان بالشعر يُكسبان العمامة والقلنسوة كلتيهما رُواءً، كما يُكسبه هو طوله واتساع عارضَيه مهابةً وجلالًا.
هذا هو الشيخ سلطان في مظهره العام، إلا أن في الشيخ خاصيةً يختلف بها عن سائر الناس اختلافًا ما هو بالبعيد وما هو بالضئيل الذي تعبره العين ولا تلتقطه؛ كانت عينا الشيخ حمراوَين دائمًا، سواء أكان الشيخ مريضًا أم صحيحًا، مصيبًا من النوم حاجته أم قلق النوم غير هادئ. العينان حمراوان على أية حال، ولعل هذا الاحمرار هو الذي يُضفي عليهما هذا البريق من السطوة، وهذا الاستعداد من الخضوع كأنهما عينا مخمور. ولن تجد محبًّا للسطوة مثل مخمور، أو مسارعًا إلى الخضوع مثل مخمور أيضًا، إلا أن الشيخ لم يكن مخمورًا، بل أقسم غير حانثٍ أنه لم يذق الخمر أبدًا إلا ليلةً واحدةً تاب بعدها، وقد عذَّبه ضميره أي عذاب. إنها ليلة سحيقة الغور في أعماق تاريخ الشيخ، وما كان أحراني أن أكتبها على الشيخ فلا أفضحه وقد ألقى عليها الزمان أثوابًا وأثوابًا من الأيام.
ولكن ماذا أفعل وقد زلَّ القلم كما يزل اللسان؟ وأصبحت الآن ولا بد لي أن أذكرها. وعلى أية حالٍ فإنها حكاية صغيرة مرَّت بالجميع في هذه السن الباكرة التي كان عليها الشيخ.
عفا الله عنه الشيخ عبد التواب فلولاه ما سقط الشيخ سلطان، وقد كانا يومذاك مجاورَين بالأزهر الشريف، وكانا قد تعوَّدا أن يخرجا معًا بعد الدرس فيرودا الشوارع في تؤدةٍ ووقار، فهما ينقُلان الخطوات بطيئةً متعاظمةً وكأنما أثقلهما العلم أن يُطلقا لأقدامهما الحرية، وينفلتا إلى انطلاقة الشباب وبحبوحة الدماء الفائرة في عروقهما، وقد ضاقت بالوقار وبالجبة وبالعمامة جميعًا. وكانت النزهة عندهما غاية النزهة أن يتنقَّلا بين مسجد الحسين والسيدة زينب والإمام الشافعي، أمَّا الذهاب إلى الهرم فهو مغامرةٌ يُدبِّران لها التدابير، ويُعدَّان العتاد، ويُحكمان الخطط.
وكان الحديث بينهما تعليقًا على الدروس والهوامش وآراء الأساتذة واختلاف العلماء. وكان غاية ما يذهبان إليه في أحاديثهما من جُرأةٍ أن يذكرا اختلاف مشايخ الأزهر وكره بعضهم لبعض — وكان المشايخ يُهيِّئون لهم من هذا الحديث مادةً لا تنفد — فقد كان جميعهم مختلفًا مع جميعهم، وكان جميعهم لا يكتم غيظه وكرهه لجميعهم.
قد كان هذا، ولكن في ذلك اليوم المشهود من تاريخ الشيخ سلطان بدأ الشيخ عبد التواب حديثه بعد الدرس بدايةً لم تكن في أولها غريبةً على الشيخ سلطان، إلا أنها أدَّت في آخر اليوم إلى قطعةٍ من تاريخ الشيخ سلطان يجدها أحيانًا قطعةً جميلةً فيها جرأة وفيها شباب وفيها حلاوة، ويجدها أحيانًا أخرى قطعةً شوهاء فيها معصيةٌ وفيها كفرٌ وفيها مروق.
قال الشيخ عبد التواب: نُصلِّي اليوم في جامع عمرو بن العاص.
– لا بأس، ولكن لماذا اخترت عمرو بن العاص وقد كنَّا به منذ أيام قلائل؟
– عرفت عنه معلومات ما كانت لتخطر لي على بالٍ.
– وماذا عرفت؟
– ألَا تُحب أن تنتظر فتجمع إلى متعة المغامرة متعة المفاجأة؟
وداعبت صدر الشيخ سلطان عوامل اختلفت بين الخوف والرغبة والإقدام والإحجام: وهل هناك مغامرة؟
– سوف ترى.
وانتقل الشيخ عبد التواب إلى حديثٍ آخر؛ فقد كان يخشى أن يتضح من نيته أكثر ممَّا ظهر، وكان يخشى أن يثنيه الشيخ سلطان عمَّا عزم عليه أمرَه. وبلغ الشيخان المسجد وأقاما الصلاة، حتى إذا أتمَّاها قال الشيخ سلطان: ألَا نقوم فنصلي المغرب في الحسين، ثم نذهب إلى البيت لنذاكر؟
– ألَا نُصلِّي السنة؟
– نُصلِّيها.
وصلَّيا السنة، ثم أراد الشيخ سلطان أن ينصرف، فظل الشيخ عبد التواب يُغريه بصلوات أخرى، حتى إذا انتهى ما يعرفه من أنواع الصلاة صارح الشيخ سلطان برغبته في أن يُصلِّيا المغرب حيث هما. وفهم الشيخ سلطان أن المغامرة تكمن لهما بعد المغرب، فتظاهر بالغفلة ومكث. وحلَّت صلاة المغرب وصلَّياها أيضًا، وتظاهر الشيخ سلطان بالغفلة مرةً أخرى، ومكث حيث هو ليرى المفاجأة التي أعدَّها له الشيخ عبد التواب. ولم يطُل به الانتظار؛ إذ ما لبثت سيدة ملفوفة في مُلاءة أن وقفت بباب المسجد وأخذت تُجيل عينَيها في أنحائه، حتى إذا اطمأنت إلى قلة من به خلعت حذاءها ودخلت. وما إن اقتربت من عمودَين في وسط المسجد حتى خلعت مُلاءتها، وحينئذٍ لكز الشيخُ عبد التواب الشيخَ سلطان ليرى إن لم يكن قد رأى، ولم يكن الشيخ سلطان في حاجةٍ إلى هذه اللكزة؛ فقد كانت عينا الشيخ على الفتاة منذ لاحت بباب الجامع. ولم تعبأ المرأة بنظرات الشيخَين، بل راحت تحشر جسمها بين العمودَين وهي تُتمتم بكلمات لم يسمع منها الشيخان شيئًا. وبدت الدهشة في عينَي الشيخ سلطان، وارتسمت على فم الشيخ عبد التوَّاب ابتسامة العالِم ببواطن الأمور، ولم يُمهله الشيخ سلطان: ماذا تفعل؟
– تحمل.
وقفز الشيخ سلطان قفزةً كادت تُوقعه على قدمَيه وهو يقول: ماذا؟!
– إنهن يجئن هنا معتقدات أن المرور بين هذَين العمودَين يجعلهن يحملن.
ومصَّ الشيخ سلطان شفتَيه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! … ألمثل هذا جئتَ بي؟!
– ماذا؟! ألَا يُعجبك؟ … أنقوم؟
وتخاذل صوت الشيخ سلطان وقال في استخذاء: أمَا كان الأَولى بكَ أن تُخبرني؟
– إننا ما زلنا على البر، أتحب أن نقوم؟
– ماذا؟! على البر! … أتنوي أن ننزل إلى البحر؟
– ويحك! لن نمضي من هنا إلا والبحر في يدنا.
– يا شيخ حرام عليك!
– إن كان الحال لا يُعجبك نمشي.
– أتعرف كيف تجيء بالبحر؟
– لقد وصف لي الشيخ عبد الباسط امرأةً معيَّنة، وقال إنها صديقة طلبة الأزهر، وإنها ترضى بالقليل.
– وما القليل؟
وهكذا نمت التجرِبة للشيخ سلطان، فقد جاءت المرأة وكانت كما وصفها الشيخ عبد الباسط، وكانت ليلة.
ثم كان صباح غادر الشيخ سلطان القاهرة والأزهر الشريف وأخذ سمته إلى قريته ميت جحيش، وما هي إلا أيام قلائل حتى كان قد عاد إلى الأزهر وقد عقد عقده على خطيبته وابنة خالته زكية التي كانت تنتظره أن يُتمَّ علومه بالأزهر، ولكنه بعد مغامرته لم يُطق أن ينتظر الشهادة. وكان أبوه ميسور الحال يستطيع أن يُعينه على الحياة بلا عون من الوظيفة. وتمَّ زواجه. شرب الشيخ سلطان الخمر في هذه الليلة الخالدة؛ فقد علَّمه الشيخ عبد التواب أن الأُنس لا يتمُّ إلا بالكأس، ولكنه لم يعُد إليها بعد ذلك أبدًا، كما لم يعد إلى أمثال هذه المغامرة، وإن كان الشيخ عبد التواب قد أعجبه هذا الحال وواصل جهاده فيه.
تلك هي المغامرة الوحيدة في حياة الشيخ سلطان؛ فاحمرار عينَيه إذن لا صلة له بالخمر، كما أنه ليس مرضًا فما يحسُّ فيهما بألم، إنما هو احمرار رُكِّب فيهما بدلًا من البياض.
كان الشيخ سلطان أمام المرآة ما يزال يُجري على شاربه محاولات يائسة، حين طرقت الباب ابنته وهيبة، فتنحنح الشيخ وقال في تؤدة: ادخل.
وبدت وهيبة على الباب فتاةً في مطالع الشباب الأولى، يحرمها البيت أن تُبدي من شبابها شيئًا؛ فمنديل يكسو رأسها، وجلباب يوضع عليها لا أثر فيه للحلية أو الزينة. ولكن الطبيعة التي تُحارب الشيخ سلطان في كل الناس تُحاربه في ابنته أيضًا؛ فعلى خدَّيها حمرة الشباب، وفي عينَيها إشراقة تُطالع الشيخ في تحدٍّ يضيق به أشد الضيق، فلو يملك لقال لفتاته احجبي نور الشباب أن يسطع من محيَّاك، ولو يملك لألقى على وجهها غُلالةً أو حجابًا كثيفًا، ولكن لا سبيل له أن يفعل. كل ما استطاعه الشيخ هو أن يأمر بها ألَّا تذهب إلى المدرسة، فمكثت مع أمها تُدبِّر شئون البيت أو تتعلَّم تدبيرها.
وقالت وهيبة: الفطار جاهز يا آبا.
– ألَبس عباس؟
– لا أدري؛ فقد رأيتُه منذ الصباح مشغولًا براديو يُحاول إصلاحه.
– عظيم! … نفتحها ورشةً إذن لراديوهات أصحاب سي عباس.
– سأُناديه حالًا.
وخرج الشيخ إلى البهو وقد أُعدَّت به المائدة، وصاح: يا عباس!
وجاءه الرد قبل أن يُتمَّ النداء: نعم يا أبي.
ومع الإجابة خرج عباس من غرفته مرتديًا ملابسه وقد بدا عليه العجل في ارتدائها، وسأل الشيخُ ابنه في حزم: أصليت؟!
وقال الابن وقد بدا وكأنه أعدَّ الإجابة: نعم.
– فهيَّا كُل لتذهب إلى المدرسة.
وجلس عباس إلى أبيه في أدبٍ صامتًا، ومدَّ يده إلى رغيفٍ واقتطع منه لقمةً وهمَّ بإلقائها إلى فمه، ولكن أباه يُعاجله: ابدأ باسم الله … بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال عباس في استخذاء: بسم الله الرحمن الرحيم.
ثم راح يأكل وقد بدا عليه حرج من نظرة أبيه التي ظلَّت عالقةً به، وما إن أحسَّ أن أباه انصرف عنه بالطعام حتى عاد إلى سجيته وراح يأكل في بعض هدوء.
وما إن أتمَّ الاثنان إفطارهما حتى قام الشيخ وغسل يدَيه وتبعه ابنه، ثم نزل عباس يتبع أباه حتى بلغ باب البيت الخارجي، فالتفتَ الشيخ سلطان إلى ابنه وقال: مع السلامة، واحذر الطريق.
وافترق الشيخ عن ابنه، وما إن نظر عباس إلى ظهر أبيه وهو يُولِّي عنه حتى عاد إلى كامل طبيعته الشابة المتوثبة … ومضى إلى طريقه.
وما إن بلغ نهاية شارع الملك الناصر حتى التفت وراءه فوجد أباه في النهاية الأخرى من الشارع يكاد يصل إلى شارع خيرت، فعبر هو شارع نوبار ووقف على الطوار، وألقى نظرةً أخرى إلى ظهر أبيه المتباعد وهدأ طائره، ومضى يسعى في شارع نوبار تاركًا المدرسة إلى شارع المبتديان، وأمام منزلٍ هناك وقف وظل رانيًا.