الفصل العاشر
لم يكن حديث لطفي إلى وهيبة قد انتهى؛ فقد أضاع لطفي وقتًا طويلًا ليستطيع أن يبدأ حديثًا، أيَّ حديث؛ فقد كان قلبه واجفًا يُريد أن يقول شيئًا ولا يستطيع أن يقوله، فهو يبحث عمَّا كان يُريد أن يقوله فيجده قد راغَ منه في طوايا نفس كثيرة التلافيف اضطرم هادئها فهي موج لا قرار له من الاضطراب والإقدام والخوف والحب والخجل.
وحين استطاع لطفي أن يجد شيئًا يتحدَّث عنه، ما لبث أن تبيَّن أنه يُلقي بحديثٍ لا قيمة له، وأنه لو ظلَّ على هذا الحديث الذي أخذ فيه ما بلغ إلى شيء ممَّا يُريد. كان يتحدَّث عن المدرسة وعن تقدُّمه في الدروس، ولكن سرعان ما سكت. ثم عاد يبحث مرةً أخرى عن طريق يُؤدِّي به إلى ما تهفو إليه نفسه، ولكن وهيبة لم تسكت: قل لي بهذه المناسبة يا لطفي، ماذا جرى لك؟
– ماذا؟
– تُخبرني خالتي أنكَ أصبحتَ من الأوائل، وأنكَ أصبحتَ تُذاكر ليل نهار.
– وما العجب في هذا؟
– والكرة؟
– ما شأنها؟
– هل تركتَ اللعب؟
– أصبحتُ أتفرَّج عليها.
– ولماذا هذا التغيُّر؟
– أُريد أن أنجح، أُريد أن آخذ الشهادة.
– أنتَ لا تعرف يا لطفي كم أنا سعيدة بما سمعت منك!
– أنتِ لا تعرفين السبب الذي يجعلني أُحاول جهدي أن آخذ الليسانس.
– وهل هناك سبب أقوى من الليسانس نفسه؟
– نعم، هناك سبب مهم جدًا.
– ما هو؟
– ألَا تعرفينه؟
وابتسمتْ وهيبة وتجاهلتْ وأغضتْ عن خفَر غير متجاهل، واستأنف لطفي: أهم شيء أسعى إليه ليس هو الشهادة.
– إنكَ لا تزال في الثانوي.
– أعلم، ولكني سأجتاح السنين، سآكلها أكلًا، في غمضة عين سأصبحُ في الجامعة، وفي صحوة عين أكون قد خرجتُ من الجامعة.
– إن شاء الله.
– كل شيء بأمره، وسأذاكر، وأذاكر، ولا أفعل شيئًا إلا أن أذاكر، ولكنني فقط، أُريد أن تعرفي لماذا أذاكر.
– لطفي؟
– وهيبة أنا لا أستطيع أن أقول أكثر ممَّا قلت. وهيبة هل فهمتِني؟
– لا أعرف.
– بل يجب أن تعرفي، ويجب أن أعرف أنك قد عرفت.
– لطفي أنت تعرف أنني … أنني …
– أنك؟
– لطفي أرجوك.
– أرجوكِ أنت.
– أنت تعرف أنني …
– أنكِ ماذا؟
– لطفي لا أستطيع أن أتكلَّم …
– هل عرفتِ لماذا أُذاكر؟
– يا لطفي يا لطفي … أنت تعرف حياتنا … لا أستطيع أن أتكلَّم …
– أنا لا يُهمُّني إلا أنت.
– وأنا لا أملك في نفسي شيئًا …
– تقصدين عم الشيخ سلطان؟
– نعم.
– المهم أن أعرف رأيك أنت، أنتِ أولًا، ولا عليكِ بعد ذلك.
صمتتْ وهيبة وعادت إلى الإغضاء، فقال لطفي: ألَا تقولين شيئًا؟
– أنتَ تعرف … أنت تعرف.
– أنا لا أعرف شيئًا، هذه أول مرة أُكلِّمك فيها عمَّا في نفسي. قولي.
– ماذا أقول؟
– وهيبة.
– لطفي.
– وهيبة … هل لي عندكِ مثل ما لكِ عندي؟
– نعم.
قالتها وهي خائفة، ثم قامت عنه في سرعةٍ خجلانة لا تُريد أن تراه بعدها، ولكنه قال قبل أن تُغادر البهو: وهيبة، تعالَي.
وجدتْ نفسها تعود إلى مجلسها مطرقة، وقال لطفي: المسألة تحتاج منكِ إلى شيءٍ آخر.
وقالت وهيبة وهي مطرقة ما تزال: ماذا؟ ماذا يا لطفي؟ ألَا يكفي هذا؟
– لا، لا يكفي أبدًا، بل إن عليكِ واجبات مهمَّةً جدًّا.
ورفعتْ وهيبة إليه رأسها في دهشة وسألته: واجبات؟!
– نعم، فأنت الأن كبيرة … وقد … وقد …
– ماذا؟
وحينئذٍ جاء النداء من ليلى فلم يستطع إلا أن يهمس: سأُكلِّمك ثانيةً فيما يجب عليك.
– هيا ندخل لهما.
وقبل أن يدخلا كانت ليلى قد خرجت وصحبت أخاها إلى الخارج.