الفصل الحادي عشر

أحسَّت إيفون أنها غريبة في بيت أبيها. كان حنانه وعطف أمها المشوب بالشدة، كما هما لم يتغيَّر منهما شيء، ولكنها مع ذلك كانت تُحس أنها غريبة. كان هذا الشعور يُطالعها من داخلها هي، ليس لشيء ممَّا يُعاملها به أبوها أو أمها أي صلة به، إنها غريبة؛ أفكارها لا تنسجم وحياتها اليومية، آمالها بعيدة غاية البعد عن الآمال التي يرسمها لها أبوها أو تحلم بها أمها. غريبة هي في بيتها لا تدري لماذا؟ أهو هذا الذي حدث بينها وبين عباس؟ ولكنه السر الذي لم يعرفه أحد.

ولكني أنا أعرفه، أعرفه، وما الجديد فيه؟ ألم يكن العهد بيننا على الزواج، وقد تمَّ الزواج؟ أهو قد تم؟ لا، لا، لم يتم؛ فأين زوجي إذن إن كان الزواج قد تم؟ أين عباس؟ هناك في بيته.

كانت تُحس أن هذا السر الذي تُخفيه هو الذي يجعلها غريبة. شتى من المشاعر، وألوان من المخاوف، ونيران من الحسرة تُراوحها نسمات من الطمأنينة. تذكر مستقبلها إذا خذلها عباس فتراه أسود داكنًا تُطل منه المخاوف ويملؤه الرعب، ثم تذكر وجه عباس الصافي الأمين فتنفي عن قلبها الخوف ولا تذكر غير السعادة. أيقبل أبوها وأمها؟ وما لها هي؟ إنها ستتزوَّجه قبلا هذا أم لم يقبلاه.

فما مصيرها إذا هو لم يُرد الزواج بها؟ وتنهدم الآمال وتُطل عليها المخاوف مرةً أخرى، فلا تجد وسيلةً إلا أن تذكر وجه عباس الصافي الأمين؛ فتعود إليها الطمأنينة وانيةً كأنها طيف حذِر يتلفَّت قبل أن يُقدم، يستوثق دون خطاه.

وقد ترى أمها ما يُلم بابنتها من قلق، ويُداخلها ما يُداخل أمًّا تُحب ابنتها فتسألها: ما لك؟

وتنظر إليها إيفون مليًّا، ثم تقول: ما لي؟

– ألَا تعرفين؟ تُفكِّرين وتُطيلين التفكير، وتسكتين فتمر بك الساعات لا تنطقين.

– يا سلام يا ماما! إنما يتهيَّأ لك. لا شيء بي.

وتسكت الأم، وقد تطمئن نفسها أن إيفون أصبحتْ في السن التي يجوز لها فيه أن تُفكِّر وتسكت، ويُصيب هذا النوع من التفكير مكانًا في قلب الأم يُحب أن يطمئن فتطمئن.

كان اليوم جمعة، وكانت إيفون جالسةً إلى أمها في البهو تنتظر قدوم مرقص أفندي، وكانتا تعلمان أنه قادمٌ مع الأذان بصلاة الجمعة؛ فقد كان أصدقاء القهوة يتركونه في هذا الموعد. وجاء مرقص أفندي وحيَّاهما، ورأت مريم في وجه زوجها هذا الأسى الذي تعرفه فيه إذا صادف خارج البيت ما لا يُرضيه. وعلى عادتها أخذت في حديث، وعلى عادتها صمتت. وتنهَّد مرقص أفندي وساد الصمت قليلًا، ثم قال مرقص: مسكين أبو الأولاد.

– خير يا مرقص؟

– الشيخ سلطان، الرجل الطيب على خلاف مع ابنه عباس.

– خلاف؟! أي خلافٍ يمكن أن ينشأ بين أب وابنه؟ فلْيضربه فينتهي الخلاف.

– لم يُفِد هذا العلاج في هذه المرة.

– كيف؟ أنا أعرف الشيخ سلطان رجل شديد في بيته، وكلهم يرهبونه.

– المسألة ليست مسألة إرهاب، عباس — طبعًا — لم يقُل لأبيه كلمةً جافية، ولكن يبدو أن الخلاف أعمق من هذا.

– وما الخلاف؟

– أنا ذاهب إليه بعد الظهر في القهوة وسأرى.

كانت إيفون صامتةً لم تتكلَّم؛ فهي قد علمت من عباس أن هناك خلافًا، ولكنه لم يُبِن لها عن أسبابه. وقد كانت تنتظر أن تعرف من عباس في زيارته القادمة ما لم تعرفه، ولكنها مع ذلك أبت أن تسكت فهي تقول لأبيها: لماذا لا تُحاول أن تُصلح ما بينهما؟

وقالت مريم: ونحن ما شأننا يا إيفون؟ لنكن في حالنا.

قال مرقص أفندي: كيف تقولين هذا يا مريم؟ الشيخ سلطان صديق العمر. طبعًا سأفعل كل ما أستطيع أن أفعله.

وقالت إيفون في فرح: ربنا يُبقيك يا بابا.

– يا بنتي ربنا يحفظك ويبعد عنا السوء. يا إيفون يا بنتي، إن أعظم مصيبة يُلاقيها الإنسان في حياته هي المصيبة التي تناله في أولاده.

وغامت عينا إيفون بالدمع وأوشكت أن تجهش لولا أنها قامت مسرعةً إلى حجرتها، وتعلَّقت عين أبيها بها حتى اختفت عن ناظرَيه، ثم استرد هو الآخر دموعًا أطلَّت فغاضت بين حب لابنته وإشفاقٍ عليها ممَّا أثاره في نفسها بحديثه.

وحين ألقت إيفون نفسها إلى السرير وأصبحت وحيدة لا أحد حولها، أطلقت الإجهاشة المكبوتة وهي تتساءل: ماذا هو فاعل حين يعلم؟ ماذا هو فاعل حين يعلم؟

وحين أتمَّ الشيخ سلطان حديثه إلى مرقص أفندي قال: استكبرتُ يا مرقص أفندي أن أشكو همِّي لرضوان، وهو عديلي وزوج خالته. لم أُرِد أن يعلم أحد أن ابني يعصي أمري، ولكن المصيبة أكبر من أُخفيها في نفسي. لم أجد بين أصدقائي من أروي له إلا أنت؟ ماذا أقول يا مرقص؟ ماذا أقول لهم؟ أأقول إن ابني … ابني أنا مفتش الوعظ والإرشاد ملحد؟ كيف سينظر إليَّ زملائي؟ كيف أُريهم وجهي؟ أيبلغ بي الفشل في عملي إلى درجة أنني لا أستطيع أن أجعل … ابني … ابني الوحيد مؤمنًا؟! يجب أن أستقيل، وإذا استقلتُ ماذا نأكل وكيف نعيش؟ بل كيف يعيش حضرة الملحد الذي يضمُّه بيتي؟ لا رأيتَها أبدًا يا مرقص أفندي، لا رأيتَها أبدًا.

وصمت مرقص أفندي قليلًا ورفع رأسه من إطراقه، ثم قال: هوِّن عليكَ يا شيخ سلطان.

– أمثل هذا الخطب يهون؟

– قل لي، ألَا تُحس أنكَ قد أدَّيت واجبكَ نحوه؟

– وما فائدة أنني أدَّيت واجبي إذا كان لم يُثمر؟

– المفروض يا شيخ سلطان أننا نُؤدِّي واجبنا نحو أولادنا، وحين يبلغون من السن ما بلغه عباس يُصبحون هم مسئولون عن أنفسهم أمام الله والناس، هل قصَّرتَ في شيء؟

– وهل أدري؟

– كل إنسان يُؤدِّي واجبه بالطريقة التي يعتقد أنها صحيحة، فهل أنتَ مقتنع أنكَ أدَّيت واجبكَ بالطريقة التي يرضاها ضميرك؟

– كان ضميري مستريحًا، أمَّا الآن، فلا أدري.

– لا أحد يدري إلا أنت، وإذا كنتَ مقتنعًا أنك أدَّيتَ واجبكَ فالنتائج ليست بيدكَ أنت.

– إنه يرفض أن يُصلِّي يا مرقص.

– عدم الصلاة لا يدل على الإلحاد يا شيخ سلطان، كثير منا لا يذهبون إلى الكنيسة ولكنهم مؤمنون.

– قال لي إنه غير مقتنع.

– اسمع يا شيخ سلطان، أنا أعتقد أن أي ضغط في هذه الناحية سيُؤدِّي إلى عكس النتيجة التي تُريدها، اترك صلته بربه له هو يصنع فيها ما يشاء، وأكمل أنت واجبك.

– أيظل في بيتي يأكل من شقائي ونظل متخاصمَين؟

– أبدًا يا شيخ سلطان، سأُناديه أنا وأجعله يُقبِّل يدك ويعتذر إليك.

– والصلاة؟

– دعْ هذه لله يُحاسبه عليها يا شيخ سلطان.

– افعل ما تراه يا مرقص فأنا واثق من حُسن تصرُّفك، وليستْ هذه أول مرة ألجأ إليكَ فيها لتحل مشكلاتي، وإن كانت هذه هي أعظم مصيبة واجهتها.

– كل شيء يهون يا شيخ سلطان، كل شيء يهون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤