الفصل الثاني عشر
كانت إيفون تنتظر عباس مشوقةً إليه تحمل في نفسها كلامًا كثيرًا تُريد أن تقوله له، ولم يطُل بها الانتظار فقد جاء عباس في موعده المحدَّد، وما إن أغلق الباب من خلفه حتى احتواها في أحضانه وراح يُقبِّلها في نهَم، ولكن إيفون قطعت عليه قبلاته قائلة: عباس، انتظر، أُريد أن أُكلِّمك.
وتوقَّف عباس ونظر إليها، ثم جلس إلى السرير وجلست هي على المقعد وقالت: أليس هناك شيء تُريد أن تقوله لي؟
ودُهش عباس من السؤال وقال: مثل ماذا؟
– لا أدري، فإننا كنا نتكلَّم … نتكلَّم كثيرًا … ولكننا منذ … منذ … منذ جئتني على غير موعد … أتذكر تلك الليلة؟
وأومأ عباس برأسه أن نعم، فاستأنفت إيفون الحديث: منذ تلك الليلة لم تتكلَّم، أصبحتَ كأنك تجيء لغرضٍ واحد تناله، ثم تنصرف.
وصمت عباس واستأنفت إيفون: اختلفتَ مع أبيكَ فلم تقل لي حتى عن سبب خلافك.
وقال عباس دون أن يُبين في حديثه ما يعتمل بنفسه من ضيق: وماذا أقول؟ وعلى كل حال هذه المسألة قديمة وقد استطاع أبوك أن يُنهيها على خير.
– نعم، استطاع أن يجعلك ترى أباكَ فقط، ولكنه يعرف كما تعرف أنت أن أباك ما زال غاضبًا عليك.
– على كل حال هذه مسألة انتهت من زمان.
– كنتُ أرجو أن أكون أنا موضع سرك وأعرف كلَّ ما يدور في نفسك.
– لم أكن أدري أنك تُريدين أن تعرفي.
– ماذا تظن بي؟ ماذا أنا عندك؟
– وما يُهمُّكِ من هذا؟
وحملقت فيه إيفون ذاهلةً حائرةً غاضبةً خائفة: ألَا تدري ماذا يُهمُّني؟
وأطرق عباس لحظة، ثم قال: لم أقصد ما يغضبك، وإنما نجتمع لوقتٍ محدود وأعتقد أن الفرصة لا تسنح لمثل هذا الحديث.
– عباس، أتحبني؟!
– أتشكين في هذا؟
– نعم.
– فأنت مجنونة.
– أرجو أن أكون واهمةً في هذا الشك.
– أنتِ واهمة طبعًا.
– أتنوي أن تتزوَّجني؟
– ألم نتكلَّم في هذا من قبل؟
– أجِب على سؤالي يا عباس.
– أنت تعرفين جوابي، طبعًا سنتزوَّج.
– عباس! لا أُحس روحك في ألفاظك!
– ألا تصدقينني؟
– أرجو أن أُصدقك.
– أليست أمامنا سنوات طوال للبحث في هذا الأمر؟
– سنوات! هل نسيت؟ لم يعُد أمامكَ إلا سنة واحدة وتتخرَّج.
– وهل السنة شيءٌ قليل؟
– ليست السنة شيئًا قليلًا؟ ولكنني أخاف بعد السنة … أخاف …
– ما الذي بثَّ هذا الخوف في نفسك؟
– ما صرتُ إليه.
– فقط؟!
– ومنى …
– ابنة عمك.
– نعم.
– ولماذا تُخيفك؟
– إنها معذورة، تعرف أنني أُحبك وترى العقبات التي تقف بيننا، وتخشى إذا تخليَّت عني …
واغرورقتْ عينا إيفون بالدموع، فقال عباس: كنتُ أنتظر منها أن تُشجِّعك لا أن تُخيفك.
– كيف؟! إنها واقعية، ترى الحقائق المجرَّدة.
– هل عرفَت الحب؟
– إنها تُحب زوجها.
– وهل ما زالتْ تحبه؟
وامتقع وجه إيفون وقالت وقد جفَّ ريقها من الخوف: وهل المفروض ألَّا تُحبه بعد الزواج؟!
– لا، لم أقصد، ولكن أعتقد أن الحب يقل بعد الزواج.
– لماذا … لماذا؟
– أعتقد أن النار تبرد بعض الشيء.
– إذن، فقد بردت نارك!
– وهل تزوَّجنا؟
– عباس … حديثك يُخفيني.
– ماذا يُخيفك؟ ماذا بك؟
– يُخيَّل لي أنكَ نلتَ منِّي كلَّ ما تُريد.
– إيفون كفِّي عن هذا الحديث.
– لأنه الحق.
– إيفون أرجوك.
– أهو الحق؟
– تُريدين أن تثيري شجارًا، حسبنا، فأنا منصرف.
– منصرف؟! بهذه السهولة؟!
– ماذا أصنع معك؟
– أنت المسئول وحدك عمَّا صرتُ إليه، ولا بد أن تتحمَّل المسئولية؟
– يا إيفون الوقت لم يحن …
وقبل أن يُكمل عباس الجملة فُتح باب الحجرة فجأةً وبدا مرقص أفندي في جلبابه. وشمل الحجرةَ صمتٌ مليء بالضجيج، بالثورة، بالخجل، بالرعب، بالأسى. لحظة مرَّت تجسَّم فيها الشقاء والعار والامتهان، صمت مرقص وظلَّ ناظرًا، وطال الصمت وطال حتى خُيِّل للآخرين المطرقين في الأرض أن الصمت لن ينتهي. أحسَّ عباس لأول مرة في حياته أن عقله لم يعُد يفكر … كل ما كان يفكر فيه لحظة ذاك أنه لم يعد يفكر. وأحسَّت إيفون أنها لا تُريد شيئًا في لحظتها تلك إلا أن تسمع صوت أبيها، تُريد أن تسمعه يقول أي شيء، ولا تدري لماذا أحسَّت أنه لو تحدَّث ستستطيع أن تقول شيئًا يُرضيه. ثم أحسَّت — ولا تدري لماذا — أنها لو ألقت بنفسها بين ذراعَيه ستستطيع أن تنال منه قبلة. كأنما كانت تُحس أن حضن أبيها لن يخذلها، ولكن هذا الصمت المليء بالضوضاء لا يُريد أن ينقطع، وأبوها لا يُريد أن يتكلَّم، لا يُريد أن يقول شيئًا، أي شيء.
وأخيرًا انقطع الصمت ولكن لم يكن الأب هو من قطعة وإنما عباس: يا عم مرقص أفندي.
وكان مرقص أفندي قد تمالك نفسه فقاطع عباس في حزم: اخرس!
وقال عباس: المسألة …
وقال مرقص: اخرس قلت لك! … وامشِ … انزل.
وقالت إيفون: يا بابا.
قال مرقص: لا تنطقي هذا الاسم مرةً أخرى.
وقالت إيفون: إنه سيتزوَّجني.
وقال مرقص أفندي: انزل يا عباس! ولا تُرني وجهك أبدًا!
وقالت إيفون في تشبُّث: إنه يُريد أن يتزوَّجني … قل له ذلك … قل له يا عباس.
ومشى عباس إلى باب السُّلم وفتحه وانزلق منه إلى الخارج صامتًا لا يلوي على الحريق الذي أشعله في بيتٍ كان آمنًا.