الفصل الثالث عشر
حتى البيت يأبى على مرقص الطمأنينة والهدوء، بل إن البيت أصبح شر ما يُواجهه في الحياة. لقد استطاع الشر الذي يتوقَّاه خارج باب البيت أن يتسلَّل إلى داخل أبوابه ويصرع أمله الوحيد الذي يحيا به وله. كيف استطاع هذا الشر أن ينفذ إلى بيته وهو حريص أشد الحرص أن يُغلق الأبواب ويُحكم الرتاج؟ وكيف استطاع أن يختار من البيت أعز من في البيت؟ أهكذا يخترق السهم قلبه مصوَّبًا من خلال وحيدته التي ما أحاطت به الهموم وذكرها إلا هدأ ثائره وقرَّ مضطربه؟ فقد أصبحت هي اليوم ثائره، وهي هي من أصبحت مضطربه، بل ومقتله! كيف يقوى على هذا المصيبة؟
كان جالسًا بالبهو على الأريكة حين طلعت إليه مريم من حجرتها ورأته ورأت باب ابنتها مفتوحًا. وسألت مرقص فرفع عينًا شاخت فكأنما سعى بها العمر عشرات من السنين، ثم أطرق مرةً أخرى. لا ليس هذا مرقص! ودخلت إلى ابنتها فوجدتها متكوِّمةً كقطعةٍ مهملة من الملابس فوق السرير وقد اعتمدتْ رأسها على ركبتَيها، وسألتها، فرفعتْ إليها عينَين تحجَّرتْ فيهما الدموع، فصرخت: انطقي!
وقال مرقص من البهو في صوتٍ متهدِّج حاسم: لا يعلو صوتك.
وقالت في إصرار: ماذا بكما؟
ثم ذهبت إلى زوجها وجلست إلى جانبه مبهورة الأنفاس والهة: ماذا يا مرقص؟! ماذا حلَّ بنا؟!
ودون أن يرفع إليها بصره تمتم بكلمتَين كانتا كافيتَين غاية الكفاية. وهمَّت أن تقوم إلى ابنتها فأمسك زوجها بذراعها في قوة عنيفة: لن يعرف أحد ما حصل، حذارِ أن يعلو صوتك.
وتخلَّصت مريم من يده وقامت إلى إيفون: ماذا بينكما؟
وصمتت إيفون، فقالت الأم في بهرها الآخذ يكاد الخوف يعقد لسانها: هل أنت عذراء؟
وحينئذٍ اندفعت إيفون في نشيجٍ مجنون وأرادت أن تُلقي بنفسها إلى حضن أمها، ولكن أمها — وقد فهمت — ألقت بها إلى مكانها لتصبح مرةً أخرى قطعة من الملابس المهملة ملقاةً في السرير.
لم ينَم ثلاثتهم ولم يتحدَّث أحد. وطلع الصبح فما أحسُّوا بمطلعه، وأُلقيَت الجريدة وجاء اللبن ولكن أحدًا لم يستقبل الجريدة أو اللبن. وجاء موعد الديوان فما خفَّ له مرقص أفندي ولا حتى أحسَّ به، وظلُّوا ثلاثتهم في أماكنهم الضجيج في رأس كلٍّ منهم يقطع ما بينه وبين الآخرين. وكانت مريم أسبقهم إلى الإفاقة، قالت لمرقص: ماذا تنوي أن تفعل؟
وقال مرقص: ناديها.
وحين جاءت إيفون وجلست إزاء أبيها قال: ماذا تُريدين أن تفعلي؟
– سيتزوَّجني.
ودقَّت مريم صدرها في غيظٍ وقالت: ماذا؟
وقال مرقص في هدوءٍ عاصف: أتدرين ما تقولين؟
– نعم.
– واختلاف الدين.
– ديننا دين المحبة.
– هذا زواج لا تُقرُّه الكنيسة؛ فهو زنًا؛ كفر.
– المسيح يقول: «إني أُريد رحمةً لا ذبيحة.»
– لو تزوَّجتِه فقد خرجتِ من ديننا، دين المسيح.
وقالت أمها: اقتلها قبل أن تتزوَّجه.
وقال مرقص أفندي في حزم: لا يراك بعد اليوم ولا ترينه.
وحاولت إيفون أن تقول: ولكن يا أبي …
– لا مناقشة! قومي، اذهبي إلى حجرتك، ولا تريني وجهك.
ثم التفت إلى مريم وقال لها: اجمعي ملابسنا، سنترك هذا البيت، سنترك هذا الحي جميعه.