الفصل الرابع عشر
خرج عباس إلى الطريق مطرقًا خزيان، ينتابه شعورٌ لم يعهده قبل. كان يتمنَّى أن يكون أبوه راضيًا عنه في لحظته ليستطيع فقط أن يجلس إليه دون أن يُكلِّمه. كان يُريد قلبًا حانيًا يلجأ إليه، أي قلب. كان مناه جميعًا أن يرى إنسانًا ويُحادثه، أي حديث. لأول مرة يُجابه الحياة وحده. كان يُردِّد في نفسه أنه لا بد أن يُكفِّر عن خطئه ولا بد أن يتحمَّل المسئولية، مسئولية تحرُّره، تحرُّره؟
«ما لحريتي ولهذا الذي أنا فيه؟» إنها هي الذي أنا فيه؛ لقد فعلتُ ما فعلتُ يوم تحررتُ من سلطان أبي وأعلنتُ تحرُّري من الدين؟ ما لي ولهذا؟ لقد صنعتُ بحريتي ما أردتُ أن أصنع، وأنا كفيل أن أُصلح ما فعلت وأتحمَّل مسئوليتي. سأتزوَّجها، أتزوَّجها. نعم، أتزوَّجها. إن أباها اليوم ثائر ولكنه بعد أيام سيهدأ، وسأذهب أنا إلى أبي أطلب إليه الزواج منها. أتراه يقبل؟ فإذا رفض؟ أعمل وأتزوَّج. والكلية؟ ولماذا لا أعمل وأُذاكر في وقتٍ معًا؟ نعم، أعمل وأُذاكر وأتزوَّج في وقتٍ واحد. هل أنا أول من فعل ذلك؟ ولن أكون آخرهم. ولكنها كلية الهندسة، وقد أوشكتْ على النهاية. وماذا يهم؟ في سبيل، في سبيل ماذا؟ هل أحب إيفون؟ لا أدري. نعم أُحبُّها، حبًّا يكفي للحياة القادمة كلها، حبًّا لا يزول باللحظة النشوى، حبًّا لا يختلف بعد اللقاء عنه قبل اللقاء، حبًّا يجمع القلب والجسد في بوتقة واحدة فهما مزيج مؤتلف مُشع قاهر عاصف بكل العراقيل. أُحبُّها هذا الحب؟ لا بد أن أتحمَّل مسئولية ما صنعت، أُريد أن أُحادث إنسانًا. فإذا رفض أبي؟ فإذا رفض أبوها؟ أكون قد أدَّيت واجبي. أأكون قد أدَّيت واجبي؟ لماذا أُفكِّر في أبيها وأبي ولا أُفكِّر فيها هي؟ هي التي نفيتُها عن عالم الطُّهر، وهي التي وثقت فيَّ؟ ولكنها هي من أسلمتني نفسها، هي شريكتي. ألم أعدها بالزواج؟ كان عليها أن تحذر، إنه مستقبلها. لقد ذكرتُ وقوفي أمام بيتها واحتيالي لأركب العربة وفرحتي باللقاء، وسنة ونصف سنة من اللقاء العفيف فاطمأنت. ما كان لها أن تطمئن. أُريد أن أُحادث أحدًا. هل أنا سعيد بحريتي الآن؟ هل أنا حر؟ لا، ألَا تستعبدني هذه الأفكار؟ ألَا تفرض عليَّ نفسها فرضًا؟ أأستطيع أن أتحرَّر من أفكاري؟ أأستطيع أن أُفكِّر في أي شيء آخر؟ فيمَ أُريد أن أُفكِّر؟ في ليلي. وكيف أُفكِّر في ليلي وأنا في هذا الموقف الضنك؟ لعلي أُفكِّر فيها لأنها الوحيدة بين كل الناس التي تهتم بأمري، ألَا تهتم إيفون؟ أمَا كان في وثوقها بي وإلقاء شرفها ومستقبلها بين يدَي أكبر دليل على اهتمامها بي؟ أجل ولكن، ماذا؟ لم يكن لها أن تفعل. لماذا؟! لماذا؟! لأننا … لأننا لم نكن زوجَين؛ إذن فأنت عبد ما تزال، عبد ترسف في أشد الأغلال عنفًا، وأقسى القيود جمودًا. ما الزواج أيها الحر؟ إنه مباركة الدين للعلاقة التي قامت بينك وبين إيفون، لا أقل ولا أكثر. لا، لا، بل انتظر، إنه إعلان العلاقة، إنه إشهارها على ملأ الناس. الناس؟! عبد، عبد، ألم أقل لكَ إنكَ عبد سجين الدين والتقاليد معًا لا تستطيع منها فكاكًا. أين هي الحرية التي نِلت؟ أين هي الحرية التي زعمتَ أنكَ ملكتَها لا تبيعها بالحياة؟! عبد، عبد، وسادتك الدين والناس والتقاليد. أنت غير راضٍ إذن عن العلاقة بينكَ وبين إيفون لأنكما لم تتزوَّجا، فلو كنتما تزوَّجتُما؟ إذن فلا جناح عليها ولا ملامة. ومن قال إنني غير راضٍ عنها؟ ها أنا أُريد أن أتزوَّجها. أتَحمل لها في نفسك احترام المحب لحبيبته أو الزوج لزوجته؟ وإن لم فلماذا؟ لأنكما لم تتزوَّجا. أجل أُحبُّها، وسأتزوَّجها. أُريد أن ألقى إنسانًا. أليس لي أصدقاء؟ نعم لقد كنتُ أُمارس حريتي حين التقيتُ بها، ولكن أكانت هي أيضًا تُفكِّر هذا التفكير؟ لا أخشى إذا تزوَّجتها أن تخدعني مع غيري كما خدعتْ أباها وأمها معي. كيف أطمئن إلى بيتي ومن فيه قد تزوَّجتني قبل الزواج؟ نعم قد وثقت بي، وأحبَّتني. كيف تطمئن أنها لن تثق في رجل آخر وتُحبه؟ يا لها من أفكار! كيف أطمئن إلى أي زوجة أخرى؟ فيمَ تختلف إيفون عن أي فتاه أخرى؟ إنها سلَّمت نفسها لي بغير زواج؛ أي بغير ورقة من المأذون الذي يُمثِّل شرع الله، ويُمثِّل المجتمع والتقاليد وكلَّ ما أُحاول التحرُّر منه. أُحاول؟! بل إنه يُمثِّل كل ما تحرَّرتُ منه فعلًا. أنا لا أومن بغير الإنسان، الإنسان وحده، وهو القوة العظمى في الحياة. وإيفون إنسان فعل ما يُريد أن يفعل، وإني أُحبُّها لأنها فعلت ما تُريد أن تفعل. هل أُحبُّها؟ لا بد لي من صديق أُكلِّمه في غير هذا الحديث. شعبان، شعبان، أين شعبان الآن؟ ما لي ولشعبان الخيالي الحالم؟ وهل أُريد الآن إلا خياليًّا حالمًا؟ لا بد أنه في البار، نعم، يسكر ويُصلِّي مسرورًا في الصباح بالصلاة وفي المساء بالخمر، يقول إن الخمر تشعشع الروح. ما لي وللخمر؟ إنِّي أُريد شعبان. هو في ذلك البار الضيِّق الصغير بشارع عماد الدين، هناك أجده خلف الحاجز الذي يستخفي وراءه الشاربون عن عيون الناس. ممَّ يستخفون؟ إن الدين جعل الشعور بالإثم يُلازم النفوس لا يتركها. كم هم مجانين هؤلاء الناس! لماذا لا يشربون ما داموا يُريدون أن يشربوا؟ أفسد الدين حياتهم. أسعيد أنا بغير الدين؟ نعم سعيد. عدنا إلى إيفون، ماذا يُهم ما دمتُ سأُصلح خطئي؟ وما شأن الدين بهذا؟ إن حريتي ملكي وأنا وحدي من أتحمَّل مسئوليتها وسأتحمَّلها. على أية حال سأتزوَّج من إيفون.
وكان قد ركب السيارة الكهربائية التي تُؤدِّي به إلى صديقه، ونظر إلى الساعة.
قيد آخر، هذا الزمن قيد لا يمكن الفكاك منه شأنه شأن الطعام وإيفون، عدنا إلى إيفون، لن أُفكِّر فيها، لن أُفكِّر مطلقًا حتى أصل إلى شعبان. السيارة حافلة بالناس. ما هذا الزحام؟ ولكن ما لي غير ضيِّق بالناس أو بزحامهم اليوم؟ أليسوا هؤلاء هم المجتمع والتقاليد؟ ما لي لا أضيق بهم الآن؟ بل ها أنا ذا أبحث بينهم عن صديق. أمَا لي بين هؤلاء جميعًا صديق؟ مساكين الناس! التعب بادٍ عليهم، كل فرد منهم قطعة من الإجهاد تسعى حياتها في رهق، تدفعهم الحياة فيندفعون، وتُلهب ظهورَهم بالسياط فيجهدون؛ منهم من لا حياة له إلا إذا عمل، ومنهم من لا حياة لأولاده إلا إذا اجتهد. أيلقَون من حياتهم كفء ما يدفعون لها من جهد؟ أو يلقَون من أولادهم عدل ما يبذلون في سبيلهم من شقاء؟ بل مساكين. ها هو ذا مرقص أفندي لم يرَ شقاءً أشد من شقائه بابنته الليلة. أنا من صنعتُ هذا الشقاء. ذئاب هؤلاء الناس. ما ذنب الناس؟ إنِّي أنا وحدي الذئب. قلنا سأُصلح خطئي، سأتزوَّجها. هذا الرجل الواقف مكدود ضيِّق متبرِّم، مسكين تُرى أي مصيبة يُعانيها؟ أأترك له مكاني؟ لن يُصدِّق، سيحسبني أسخر منه. لماذا يتقبَّل الناس الخير في حذر؟ لأن الشر من طباعهم. مسكين مرقص أفندي. يبدو أن الشر طبعي أنا وحدي. ما لهذه السيارة بطيئة؟ ألَا يأتي شارع عماد الدين أبدًا؟ أُريد صديقًا. أتراني ألجأ إلى المجتمع؟ ما لي وللمجتمع؟ فما لي أبحث عن صديقي؟ أُفٍّ من طول الطريق! ما أطول الطريق! ألَا يأتي شارع؟ ها هو ذا أخيرًا.
ولم ينتظر أن تقف السيارة، بل قفز منها إلى الطريق، وكبا وكاد يقع، ولكن اثنَين من المارَّة أمسكا به وأوقفاه، وسأله أحدهما في إشفاق: هل حدث شيء؟
وقال بلا وعي: لا شكرًا، بسيطة.
وقال الرجل: طيب مع السلامة، وعلى مهلك.
وقال وهو يمضي: شكرًا.
واندفع في طريقه إلى البار الذي يجلس فيه صديقه، وحين دلف عباس من الساتر المقام أمام باب البار أشرق وجهه بالسرور؛ فقد رأى شعبان جالسًا هناك بين رفقة يُؤلِّف هو بينهم على مزاجه، جماعة ليس فيها اثنان يُمثِّلان رأيًا واحدًا ولا فكرةً واحدة؛ لا انسجام بينهم في الرأي، ولا صلة لأحدهم بالآخر في العمل، لكلٍّ منهم عمل يختلف كل الاختلاف عن الآخر. شيئان يُؤلِّفان بينهم هما شعبان والخمر، وما كان شعبان ليستطيع أن يجمع هذا الشتيت من الناس إن لم يجعل لهم الخمر إغراءً؛ فهو يُقدِّم لهم كأسًا هديةً ويترك كئوسهم الأخرى تتولَّاها جيوبهم، ويشترط إزاء ذلك أن يشرب ليلتَين في الأسبوع على حسابهم مجتمعين. وكان يخسر في سبيل ذلك جنيهَين أو ثلاثةً في الشهر، ولكنه كان يجعل من جِلستهم عوضًا له عن كل الملاهي الأخرى؛ فقد كانت أسباب الخلاف بينهم لا تنتهي، ومن هذا الاختلاف كانت متعته ضحكًا عاليًا يُرطِّب به صراعَ النقاش وصراع الدنيا معًا. ولكن خلافهم على اتساعه حين وصل إلى الخمر أصبح اتفاقًا؛ فهم يشربونها في تلذُّذ، ولو أتاحت مواردهم لهم مزيدًا ما تركوها ليلهم أو نهارهم. ولكم كانوا يقومون والأسف يملأ نفسوهم أنهم لم يصلوا إلى مرتبة السكر الكامل؛ فيلعنون الفقر الذي يقف بهم دون أمانيهم. كانوا ثلاثة نفر رابعهم شعبان؛ فأمَّا شعبان فقد فرغ من كلية الحقوق منذ قريب، فهو الآن محامٍ وإن كان تحت التمرين. وأمَّا الأصدقاء فهم محمد حسن موظَّف بوزارة الشئون الاجتماعية، ولكن الصفة التي يُريدها أن تغلب عليه أنه شاعر. وإلهام الزيني ويعمل مديرًا لنادي الأخوة. وسليم فوزي ويعمل كاتبًا لدى سمسار في بورصة الأوراق المالية، ويقول إنه سمسار. يجلس بينهم شعبان يُغري كلًّا منهم بالآخر، فإذا أبَوا ليلةً أن يختلفوا تركهم وقام إلى بيته آسفًا. وكان عباس يعرف بهذه الخلافات التي يُثيرها شعبان بين أصدقاء الليل. وكان يعجب كيف يُتاح لشعبان الذي لا يراه أحد في الصباح إلا مطرقًا خجلًا يتمتم الألفاظ ولا ينطقها، ويُهَينِم بالحديث لا يقوله، كيف يُتاح له أن يُصبح عند الليل هذا العربيد المشاكس الضاحك الصاخب؟ بل كيف يشرب الخمر وهو لا يترك فرضًا من الصلاة إلا أدَّاه؟
سأله يومًا: أتُصلِّي وتشرب الخمر؟
فقال باسمًا في سخرية: كل بثوابه.
– ما ثواب الخمر؟
فيقول شعبان: الحرية، أُحس كأن لا صلة لي بخجلي هذا الذي تراه، ولا صلة لي بالمكتب ولا بالقضايا، إنما هي نشوة تستخفني وضحك سادر متحرِّر.
ويُلحُّ عباس: ألَا تجد فيما يسمح به الدين ما تنشده من الحرية؟
فيحمرُّ وجه شعبان ويقول: والله ما شربتُ الكأس الأولى إلا قلتُ: اللهم إنه منكرٌ لا يُرضيك. ولكني يا عباس أُريد أن أضحكَ ولا أجد في هذه الدنيا ما يُضحك. أنا أشترى الضحك بالمعصية. وإني أحاسب نفسي عليها حسابًا عسيرًا. لعلي إذا تزوَّجتُ ووجدتُ زوجتي وأطفالي من حولي، لعلي أسعد بهم ولا أحتاج إلى الضحك.
وكان عباس يقول: إنك ضعيف، تستعين بالخمر لتنال حريتك وهي في يدك، ما الذي يربطك بالمجتمع والتقاليد؟ ما الذي يربطك بهذا الأسف الذي تُحسه حين تشرب الخمر وأنت تسعد بشربها؟ انطلق، حطِّم الأغلال، مزِّق القيود، وانطلق. اشرب لأنك تُريد أن تشرب، واسعد لأنك حرٌّ ولا تُؤذي أحدًا بحريتك.
وينظر إليه شعبان مليًّا، ثم يقول: الكلام سهل.
– والعمل أسهل لو أنك حازم.
ويقول شعبان في وعي: سأُجرِّب فيك الحرية، إذا نفعتْ ألحق بك.
كثيرا ما كان مثل هذا النقاش يدور بين الاثنين إذا اجتمعا في الصباح وشعبان مفيق، أمَّا في الليل فقلما كان يأتي عباس إليه، فإذا جاء فإنه لا يُناقشه هذا النقاش الطويل، وإنما يكتفي بسؤال عابرٍ أو لمحة من رأيه خاطفة، ثم ينصرف إلى الخلاف الذي يكون مستعرًا بين الأطراف الثلاثة.
حين أهلَّ عباس على الجلسة في ليلته تلك خالجتْ نفسَه ومضةٌ من هدوء ما لبثت أن زالت: أأكون قد جئتُ اليوم لأنني مخذول بحريتي فشلتُ أن أُواجه بها الحياة؟ ثم سرعان ما نفى عن ذهنه هذه الخاطرة. قلنا سأتزوَّجها، أي فشلٍ إذن وأي خذلان؟ وأقبل على الجلسة، ورحَّب به الأصدقاء الخصوم في إقبال سكارى. وندَّت عنه ابتسامة ذهلوا عنها فما أبصروها. وقال شعبان في مرح: المباراة الليلة في أروع حالاتها، لا بد أن تشرب كأسًا.
ودُهش عباس قائلًا: أشرب؟! أنت تعرف أنني لا أشرب.
– نعم أعرف ولكن ما البأس أن تُجرِّب؟
– ولماذا أُجرِّب؟
– لتنال حريتك … آه نسيت … أنتَ عندكَ حريتك. ألَا تريد حريةً أخرى جديدة؟ … لا بأس بكثرة الحريات فيما أعلم.
– أنت سكران.
– لا … أنا منسجم … من الشجار لا من الخمر … الشجار حياة … وأنا أُحب الحياة … أتشرب كأسًا؟
وصمت عباس هنيهة، ثم قال: أشرب.
وضحك شعبان: يبدو أن حريتك تُريد أن تتركك.
وذُعر عباس كأنما مسَّته جمرة،ث أحسَّ كأن شعبان قد لمس بجملته الهازلة مكمن الصراع في نفسه، وكمن يخاف الحق قال في غضب: هل جننت؟
وضحك شعبان هازلًا وقال: لا تخف … الله … آه أنت لا تُريدني أن أدعو لكَ فأنتَ لا تؤمن بالدعاء … إذن فقل لي كيف أرجو لكَ الخير؟ … أسأل من إذا شئتُ أن أتمنَّى لكَ دوام الحرية؟
وقال عباس: هل انتهى الخلاف بين إخواننا وأصبحتَ لا تجد غيري؟
وقال شعبان: لا … لا … أبدًا … يالمبو … هاتِ كأسًا … اشرب واسمع ولن أُكلِّمك … أنت حر …
ودون وعيٍ قال عباس: طبعًا حر.
والتفت شعبان إلى إلهام الزيني وقال: هيه يا إلهام … ألَا تُريد أن تدعو محمد حسن ليُلقي شعره في النادي؟
– شعره! … أي شعر هذا؟ … ما رأيتُ له عمري قصيدةً في مجلة أو حتى قصيدةً مطبوعة ولو في نشرة.
ويقول محمد حسن في غضب: وأنت ما شانكَ بالمجلَّات التي نشرتُ فيها؟ … ما الذي يوصلك أنت لقرَّاء المجلَّات الأدبية الراقية؟
ويدخل سليم فوزي في الموضوع ويتحدَّث في تؤدةٍ وثقة بالنفس: أتعرف يا محمد ما هي مشكلتك؟ … إنها اسمك … محمد حسن. كم مليونًا لهم هذا الاسم؟ … اسم عادي جدًّا لا يجذب الأنظار.
ويقول شعبان ضاحكًا: فعلا … لماذا لا تستعير اسم إلهام؟ … إن اسمه أقرب إلى الشاعرية.
ويقول محمد: لم يبقَ إلا السمسار ليتحدَّث في الشعر أيضًا.
ويقول سليم في وقاره لا يزال: يا أخي أنا أتحدَّث عن اسمك لا عن شعرك.
ويدور النقاش ويدور عباس يُتبع الكأس بأخرى وبثالثة. وينصرف عن الحديث الصاخب، وقد صعدت حميَّا الخمر إلى رأسه. يتحدَّثون، يتحدَّثون ويقضون أيامهم ولياليهم يتحدَّثون، لا يبحثون في الحرية ولا في المجتمع ولا في التقاليد ولا في إيفون, سأتزوَّجها، سأتزوَّجها، فما لي لا أفعل مثلهم؟ أأرضى أن أكون مثلهم؟ ما هذه الخمر؟ ما لي وكأنما يقف بيني وبين تفكيري ستارٌ لا أدري كنهه، مزيج من الشفافية والعتمة وألوان من الهروب لا أُريدها، وأريدها. لقد استطاعوا بحديثهم أن يصرفوني عمَّا أنا فيه، ولكن ها أنا ذا أعود إلى نفسي وحيدًا وأنا بينهم. أهي الخمر، أم أنا الذي ضربت دون الناس ودوني حجابًا صفيقًا؟ لا، ليست الخمر هي ما أُريد، لقد كنتُ أُريد صديقًا فحين وجدته عزلتني عنه الخمر وأفكاري. حلقة مفرغة، دُوامة لا أدري لها بدايةً من نهاية.
ودون أن يُكلِّم أحدًا من الجالسين قام صامتًا وأخذ سمته إلى بيته، ضاربًا في المساء المظلم لا يحفل بالمصابيح على جوانب الطريق.