الفصل الخامس عشر
كان الشيخ سلطان جالسًا إلى رضوان أفندي في المقهى، وكان صندوق النرد بينهما مقفلًا لا يُحس واحد منهما الرغبة في فتحه، وقد خيَّم عليهما صمتٌ لم يتنبَّها إليه حتى قال رضوان أفندي في محاولة تبسُّط: ألَا تلعب عشرة؟!
ونظر إليه الشيخ سلطان وظلَّ رانيًا إلى وجهه لحظات، ثم قال في غير إقبال: نلعب.
ثم صمت لحظات أخرى وقال: يا أخي أنا مشغول على مرقص أفندي.
وقال رضوان أفندي: وأنا مثلك، لماذا لا نقوم إلى بيته لنعرف سبب غيابه؟
– لقد ذهبتُ إلى بيته أمس.
– هيه، ماذا؟
– لقد تركَ البيت.
– ماذا؟!
– وجدته قد ترك البيت، وقال لي الجيران إنه ذهب إلى مصر الجديدة.
وقال رضوان أفندي في دهشة: مصر الجديدة! لماذا؟! إن بيته هنا أحسن بيوت المنطقة وهو قريب من عمله، وقضى فيه سنوات طويلة.
– قرابة عشرين سنة.
– فلماذا؟!
– والأغرب من هذا أنه ترك البيت لصاحب الملك ولم يطلب مقابل إخلائه شيئًا، وحين حاول المالك أن يُساومه قال له لا أُريد شيئًا، وترك البيت.
– ألَا تعرف عنوانه الجديد؟
– حاولتُ اليوم أن أترك المكتب لمدة نصف ساعة لأذهب إليه في الوزارة ولكني لم أستطِع، كنتُ مشغولًا طول اليوم.
ونظر رضوان إليه مليًّا، ثم قال: الواقع أنني لم أُرِد أن أشغلك، لقد ذهبتُ أنا إلى مكتبه في الوزارة.
وقال الشيخ سلطان في لهفة: هيه، وماذا قال لك؟
– لم أجِده، وجدته في إجازة تنتهي غدًا.
– إجازة، ونقل من الحي، لعله طلب الإجازة ليتفرَّغ للنقل.
– انظر.
– ماذا؟
– أليس هذا مرقص أفندي؟
– أين؟
– هذا القادم من هناك.
– ماذا؟ … نعم … لا … نعم … ما هذا؟ … كأنه خارجٌ من قبر … ماذا به؟
وقام الرجلان يخفان لاستقبال صديقهما، وأخفى كلاهما المشاعر التي تتماوج في نفسَيهما من خوف بثَّه إليهما منظر مرقص أفندي المتهدِّم كالصريع، وما إن اطمأنت بهم الجلسة حتى قال الشيخ سلطان: أين أنت؟
وقال رضوان أفندي: لماذا أخذتَ إجازة؟
وقال مرقص: كنت متعبًا بعض الشيء.
وقال الشيخ سلطان: لا، سلامتك.
وقال رضوان: ماذا بك؟
وقال مرقص بعد أن أخرج تنهيدة عميقة: تعب يا رضوان، تعب، الدنيا كلها تعب.
وقال الشيخ سلطان: يا أخي قل لنا ماذا بك.
وقال: لا عليك يا شيخ سلطان، لا عليك.
وصمت، وكأنما أراد أن يصمتا ولكن رضوان أصر: ما المرض؟
وصمت مرقص لم يتكلَّم، وقال الشيخ سلطان: ماذا يا مرقص أفندي؟ لماذا لا تتكلَّم؟
وسكت مرقص لحظة، ثم قال: سأقول لك يا شيخ سلطان، سأقول لك.
وقبل أن يتم جملته جاء صديقان ممن تعوَّدا أن يشهدا مبارياتهم وجلسا. وقال أحدهما: ألم تبدءوا بعد؟
ولكن السائل رأى الوجوم ماثلًا على وجوه اللاعبين فسكت، وما لبث مرقص أفندي أن قال للشيخ سلطان: أتسمح بكلمة يا شيخ سلطان؟
وقام الشيخ سلطان مع صديقه وانفرادا. وقصَّ مرقص مصيبته، وظلَّ الشيخ سلطان ذاهلًا بضع دقائق لا يقول شيئًا إلا: لا حول ولا قوة إلا بالله! لا حول ولا قوة إلا بالله!
وظلَّ مرقص أفندي مطرقًا يكبح دمعه وألمه وخزيه. وقال الشيخ سلطان: ألَا تأتي المصيبة إلا منِّي؟ مني أنا؟ حكمتك يا رب.
وقال مرقص أفندي: هذه حكمة الشيطان يا شيخ سلطان.
وقال الشيخ سلطان: اسمع يا مرقص أفندي، عباس سيتزوَّج إيفون، سيتزوَّجها ورجله فوق رقبته، سيتزوَّجها شاء هذا أو أبى، أُقسم بالله العلي العظيم ثلاثًا!
وقاطعه مرقص: انتظر يا شيخ سلطان، انتظر، كيف يتزوَّجها؟
– يُصلح خطأه.
– لو تزوَّجها لأصبحت المصيبة أعظم.
– ماذا؟
– أنسيت؟ نحن مسيحيون يا شيخ سلطان. لو تزوَّجها لأصبحت البنت على غير الملة، وكفاني وكفاها مذلة واحدة!
– وكيف نُصلح هذا الخطأ يا مرقص أفندي؟ سأفعل كل ما تأمر به.
– كان الولد قد وعدها بالزواج، وسيكون هذا الزواج هو الفضيحة التي لا أحتملها. إن كل ما أرجوه منك أن تُبعده عنها، ونحن يتولَّانا الله.
– ماذا ستفعل يا مرقص أفندي؟
– أمها وعدتني أن تُدبِّر الأمر، إنما المهم أن يبعد عباس عن البنت. كفانا ما حصل.
– أكل ما تُريده أن يبعد عباس عن البنت؟ ألَا أستطيع أن أصنع شيئًا آخر؟
– هذا كل ما أُريده منك.
– يا مرقص هذا طلب بسيط، أنا لن أشعر حين أُنفِّذ لكَ هذا الطلب أنني كفَّرتُ عن الجريمة التي ارتكبها الولد.
– أرجوك يا شيخ سلطان، كل ما أرجوه أن يبعد عنَّا ويتركنا في حالنا. أنتَ على كل حال لن تستطيع التكفير عن هذه الجريمة.
– اعتبر أن طلبك قد تم.
– ليس لي غير إيفون يا شيخ سلطان، لا أُريد أن أفقدها.
وأطرق الشيخ سلطان متأثِّرًا وهو يقول: ربنا يُعطيك القوة يا مرقص أفندي.
وقام مرقص دون أن يزيد شيئًا وأخذ سمته إلى الترام، ومكث الشيخ سلطان مكانه قليلًا، ثم قام قائلًا: أنا ذاهب إلى البيت يا رضوان أفندي، هل ستبقى أم ستجيء معي؟
وقام رضوان أفندي قائلًا: أنا قادم معك.
وفي الطريق سأل رضوان: ماذا قال لكَ مرقص أفندي؟
– لا شيء يا رضوان.
وسكت قليلًا، ثم قال: لن نرى مرقص بعد اليوم.
وقال رضوان دهشًا: ماذا؟!
وقال الشيخ سلطان: لن نراه بعد اليوم، مسكنه في مصر الجديدة سيبعده عنا ولن يستطيع المجيء إلينا.
وقال رضوان في دهشة لا تُفارقه: هل أغضبناه في شيء؟
وأطرق الشيخ سلطان ولم يُجِب، ولم يجِد رضوان بدًّا من السكوت هو أيضًا، وواصلا طريقهما صامتَين.
ما كاد الشيخ سلطان يبلغ البيت حتى سأل وهيبة وهي تفتح له الباب: الولد عباس هنا؟
وقالت وهيبة في دهشة: نعم يا أبي.
– أين هو؟
– في حجرته.
فاتجه إلى حجرة ابنه وهو يقول: لا تجعلي أحدًا يأتي إلينا.
وحين دخل حجرة عباس أقفل الباب من خلفه، ثم استقرَّ على كرسي. وقام عباس واقفًا، وظلَّ الشيخ سلطان ينظر إليه بعينَيه الحمراوَين، وطال صمته وعباس يكاد يدرك ما ينوي أبوه أن يُحدِّثه عنه، وأخيرًا قال الشيخ سلطان: ماذا فعلتَ بمرقص أفندي صديق العمر؟
وقال عباس بلا ريث تفكير: سأتزوَّجها.
وارتكز الشيخ سلطان بيدَيه على ركبتيه وتشبَّث بهما في غيظ وقال: اسمع! والله العظيم، والله العظيم، والله العظيم ثلاثة، وأنت تُدرك قيمة هذه اليمين عندي، لو فكَّرت يومًا أن تذهب إلى بيتهم، أو فكَّرت أن تتزوَّجها كما تقول لتُظهر لنفسكَ أنكَ حر لأبرأ منكَ لا ترى منِّي مليمًا واحدًا، وسأبيع كل ما أملكُ بيعًا صوريًّا لأختك. لن تنال مليمًا واحدًا بعد موتي، ولا أراكَ في حياتي ولا أعرفك، بل وأُقاطع كل من يُحاول أن يتصل بك.
وأحسَّ عباس بشعور عجب له، أحسَّ بالراحة، أحسَّ كأن نوعًا من القلق الذي يُلازمه يزول عنه، هدوء ساد قلبه لم يستطِع أن يتبيَّن سببه، وصمت عباس وأطرق واستأنف أبوه: لو كنتُ أعلم أن قتلكَ يمحو العار الذي ألحقته بهذه الأسرة المفجوعة لقتلتك وأنا مرتاح الضمير هادئ النفس. وقد كنتُ أعلم يوم هزأتَ بدينك أنكَ ستنحط إلى أسفل درَك، ولكن لم أن أتصوَّر أنكَ تبلغ من حقارة الشأن إلى الدرك الذي يسمح لكَ أن تغول أسرةً كانت صديقتنا طول العمر، وتهتك حرمتها، ولكنك سافل، سافل ووضيع، وإني أُطعمك في هذا البيت ولا أُريد أن أراك فاجتهد ألَّا تُريني وجهك. سأكون سعيدًا يوم تنتهي من كليتك لا لأنك تعلَّمت ولكن لأني أنا سأكون قد أدَّيت واجبي، ولو أنِّي أكون قد أدَّيته لكلب لا يستحق. وعلى كل حالٍ سأبحث عن أحسن طريقة تحميني من رؤيتك. خيبة الله عليك، وأخزاك في الدنيا كما أخزيتني، وأنزلكَ إلى جهنم في الآخرة وبئس القرار.
وقام الشيخ سلطان هادئ الحركة ثائر النفس، وخرج وأغلق الباب من خلفه وهو يقول: حسبي الله ونعم الوكيل! حسبي الله ونعم الوكيل!