الفصل السابع عشر
تخرَّج عباس في كلية الهندسة؛ فقد استطاع أن يفرغ لمذاكرته من هذه الأحداث حتى نجح. ولم يكن لقاؤه لأبيه يسمح له أن يُخبره بنجاحه؛ فقد كان أبوه لا يراه إلا إذا شاءت الصدفة أن يراه. وعرفتْ أمه بالنجاح فأقبلتْ على أبيه فرحانةً أن تُزيل بهذا النبأ الهام في تاريخ الأسرة ما يحمله الأب على ابنه من غضب وسخط، ولكن لم يُفلح حصول عباس على شهادة الهندسة أن يمحو بعضًا من غضب أبيه، وإنما كل ما قاله في غير اهتمام: غريبة.
وصمتت الأم قليلًا فقال الشيخ سلطان: اسمعي يا زكية، أنا لا أُريد هذا الولد في البيت، ولم يبقَ له في عنقي إلا أن يتزوَّج فاسأليه؛ فإني أُريده أن يخرج من البيت بسببٍ مقبول أمام الناس، كما أنِّي أُريد أن أتخلَّص من مسئوليته تمامًا.
وقالت زكية في طيبة ساذجة: ألَا تريد ابنك في البيت؟
ونظر إليها الشيخ سلطان وأوشك أن يثور، ولكنه رأى السذاجة على وجهها، فقال في غضب مكبوت: ابني الكافر الملحد الزنديق خرَّاب البيوت الزاني. ابني هذا ليس ابني، إنه لم يُصبح عندي إلا مسئوليةً أُريد أن أُلقيها عن عاتقي، أفهمت!
وأطرقت زكية في استسلام وقالت: أمرك.
وقامت عنه كسيفة. ورآها عباس تعود إليه بوجهها الشفَّاف الذي لم يستطِع يومًا أن يُخفي شيئًا يعتمل في نفسها، وعرف ما تحمل أمه من فرحة صريعة وبهجة وأَدَها أبوه قبل أن تتنفَّس، فقام تاركًا البيت يبحث عن مكانٍ آخر يستطيع فيه أن يقول نجحت، ويجد انعكاس كلمته فرحةً على وجه، وابتسامةً طليقةً غير موءودة.
واستقبله بيت خالته في حنان. كانت ليلى هناك وكان لطفي وكانت الخالة وكان رضوان أفندي، كانوا جميعًا وكانوا فرحين؛ فقد نجحت ليلى كما نجح لطفي، وحين رأَوا عباس والفرحة الحائرة على وجهه قالت ليلى: نجحت؟ أخذتَ الدبلوم أليس كذلك؟
وامتلأتْ نفس عباس غبطةً أن أدركت ليلى ما بنفسه وقال: نعم.
– وأطلقتْ خالته زغرودةً كبيرة، ثم قالت: ألف مبروك يا بني، ألف مبروك.
وقال عباس: الله يُبارك فيكِ يا خالتي.
وضحكت ليلى وهمست في تساؤل: قلتَ الله؟!
لم يكن المجال متسعًا ليُناقش؛ فقد عاجله رضوان أفندي بالتهنئة وتقدَّم إليه لطفي يُقبِّله. وقال عباس وهو بين أحضان لطفي: وأنتَ نجحتَ يا لطفي طبعًا، إنكَ لا تتنازل عن مرتبة الامتياز.
وقالت ليلى: وأنا نجحتُ بجيد فقط، أصبح لطفي أحسن منِّي. زمن!
وقال لطفي: لو أحسنتِ المذاكرة لمَا كنتِ في حاجة إلى الحسد.
وقالت الأم في جد: ماذا جرى لك يا ليلى؟! ستحسدينه. سأرقيكَ يا لطفي يا بني، ما يحسد المال إلا أصحابه.
وضحكت ليلى قائلة: لا تخافي يا نينا سأُحضر له أنا خرزةً زرقاء.
ودار الحديث وأحسَّ عباس أنه مطمئنٌّ غير قلق، وأنه في المكان الذي يجب أن يكون فيه. ولم يكن هذا الشعور جديدًا عليه؛ فقد تعوَّده في هذه الجلسة، بل تعوَّده! نعم لقد تعوَّده كلما نظر في عينَي ليلى. إنه يرى الاطمئنان ينثال من عينَيها فيعصف بالقلق الذي لا يزايل قلبه. ويرى في وجهها الأبيض الناصع نورًا يرود نفسه المظلمة فيمحق الظلام في نفسه، وبراح إلى لون من الهدوء والأمن هما غاية ما يصبو إليه فلا يجده.
ماذا تُحاول الفلسفات جميعًا أن تصنع؟ بل ماذا تُحاول الأديان كلها؟ أي غرض للأنظمة السماوية وغير السماوية إلا أن تُشيع الأمن في نفوس الناس وتجعلهم يُقبلون على الحياة إقبالة مطمئن؟ كفرتُ بالدين وآمنتُ بنفسي لأن الدين كان يتمثَّل في نفسي قلقًا وخوفًا من أبي. وكفرتُ بنفسي وأصبحتُ أومن بالعلم لأن نفسي خذلتني ولم تستطِع أن تقف إلى جانبي حين احتجت لها أن تقف إلى جانبي.
يوم تركتني إيفون في مقعدي بالحديقة أحسست أنني الإنسان الضعيف، لا أستطيع أن أفعل ما يجب عليَّ أن أفعل، وإنما تُسيِّرني الأهواء، ويرسم لي المجتمع طريقي لا أستطيع عنه حولًا. واليوم بماذا أومن؟ بالآلة، إنها الشيء الذي يسير في طريقه المرسوم، لا تُؤثِّر عليها عوامل الحب والكرة، أو الخوف والجرأة، أو الرغبة والعزوف، إنما هي تسير طريقها فتجتاح العالم وتُسيطر على مسالك الحياة فيه. ولكني مع ذلك أخاف هذا الإيمان الجديد. أنا لا أجد الأمن إلا في وجه ليلى. إنها مطمئنة دائمًا. أراها فأطمئن. هادئة دائمًا. أراها فأهدأ. ما الذي ألقى في نفسها هذا الهدوء وهذا الاطمئنان؟ أهو فلسفتها البسيطة من إيمانها بالسماء، ومن أن المعجزات مقبولة ما دام الإنسان لم يستطِع أن يصل إلى سر نفسه؟ لعل الأمر كذلك، فما لي لا أفعل مثلها؟ ولكن كيف؟ كيف أومن بما لم أرَ، وما أراه جبارًا شاهقًا؟ الإنسان يصك جبين القمر ويُسيِّر آلته حول الأرض، وأنا أسير وراء هؤلاء القوم الطيبين الذين لا يرون شيئًا إلا قالوا في خدر وسذاجة: «سبحان الله! علَّم الإنسان ما لم يعلم.» ولكني أطمئن حين أرى ليلى، فلْألتمس من وجهها الهدوء، ولْيكن لها رأيها ولْيكن لي رأيي، وأي ضير في ذلك؟
وصحا عباس من تفكيره على صوت ليلى تقول: هيه، أين أنت؟ فيمَ تُفكِّر؟ طبعًا ليس في خالق السموات والأرض.
وقال عباس: كم الساعة الآن؟
وقالت ليلى: أنت ستتغدَّى عندنا اليوم.
– ولكن … ولكنهم في البيت لا يعرفون.
– لا عليك، سأُرسل لهم سيدة تخبرهم.
واستراح إلى هذا ومكث.
وحين طالت جلسته بعد الغداء أحسَّ أنه لا بد أن ينزل، وكان الوقت بعد الظهيرة، وكان يُريد أن يرى شعبان، فقصد إليه في بيته فوجده يلبس، فجلس معه في الحجرة حتى يتم لبسه، ولكنه وجده يُحاول التأنُّق محاولةً واضحةً لا سبيل إلى التغاضي عنها.
– إلى أين؟ أراكَ مهتمًّا بملبسك.
– أقول لكَ ولا تضحك؟
– قل.
– لا، ستعرف في الوقت المناسب.
– إذن فأنت بسبيلك إلى الزواج.
– أعتقد أنكَ لم تكن محتاجًا إلى ذكاءٍ كثير لتعرف؛ فقد كانت إجابتي موحيةً بهذه الفكرة.
– مبروك يا شعبان. والبار، والرفاق؟
– لي شهر الآن لم أشرب نقطة خمر، ولم أطأ البار بقدمي.
– كل هذا التغيُّر في الفترة التي تركتكَ فيها.
– كنتُ محتاجًا إليكَ في هذه الفترة يا عباس لأقول لكَ ما لم أقُله لأحد، ولكني كنتُ أخشى أن أُعطِّلكَ عن المذاكرة.
– قل، قل يا شعبان.
– أصبحتُ لا أحتاج إلى الضحك، نفسي كلها مشرقة بغير حاجةٍ إلى صنع الضحك. أصبحتُ أُصلِّي يا عباس فأُحس بخشوع ٍكبير أمام الله. عرفتُ الحب فأحببتُ الله. كنتُ أعبده إيمانًا به، فأصبحتُ أعبده لأني أحبه، ولأنه هيَّأ لي كل هذه السعادة. نفسي تضحك، تضحك دائمًا فالقهقهة التي كنتُ أُدبِّرها. أصبحتُ إذا قارنتها بالضحك في نفسي ضجة لا لزوم لها.
– ما أسعدك!
– ألم تُحب؟ أحب يا عباس. إذا أحببتَ استطعتَ أن تفهم المعجزات التي تراها في الدين، واستطعتَ أن تستسيغها، بل إنك سترى أن كل من لا يؤمن بها مجنون لا يفهم. ألم تحب يا عباس؟ ألم تحب أبدًا؟!
وأطرق عباس وطافت بذهنه ليلى، ثم تذكر إيفون، ثم هزَّ رأسه وهو يقول: لا أدري، لا أدري يا شعبان.
– لا تدري؟! هذا غير معقول! أنت فقط لا تُريد أن تدري، ولكن هيهات لك أن تُخادع نفسك في الحب! إنه طاغٍ قاهر يفرض نفسه عليك، شئتَ هذا أم أبيت.
– يفرض نفسه عليَّ؟!
– إلى الجحيم حريتك، إلى الجحيم. كم ستسعد لو أنكَ صارحتَ نفسكَ بحبك! وكم ستسعد وأنتَ ترى حريتكَ مهزومةً أمام حبك، تتخلَّص من سيطرتها عليك؛ لتتركَ المحب وحده يُسيطر عليك.
– حريتي مهزومة؟!
– الحرية حرية القلب. إذا أحببتَ ستُحس أنكَ تستطيع أن تقول كلَّ ما تُريد أن تقول، وأن تفعل كلَّ ما تُريد أن تفعل. اتركْ قلبكَ يحب. لا تقف أمامه بحريتك هذه البغيضة، ولا تُحاول أن تردَّه عمَّا يُريد.
– كلام شعراء.
– لقد عاش أجدادكَ وأجدادي آلاف السنين على كلام الشعراء هذا. لولا كلام الشعراء لانقرضَت البشرية.
– البشرية حقيقة ثابتة، وكلامكَ خيال وأوهام.
– يا أخي صلِّ على النبي! أيستطيع أحد أن يعرف أين الوهم وأين الحقيقة في هذا العالم؟ من الأوهام والأحلام تولد الحقائق، وعن الحقائق تنثال الأحلام والأوهام. ما الطائرة؟ لقد كانت حلمًا. وما الصعود إلى القمر؟ حلم امتزج بالحقائق. دَع عنكَ هذا التفريق.
– كلام محب.
– أليس جميلًا؟
– لستُ أدري.
– أطلق لحبكَ العِنان. لا تمسك به. اقبله وأحب حبك وسترى.
– هل حان موعدك؟
– هيَّا بنا.
ونزلا وذهب شعبان إلى موعده، وراح عباس يضرب في الطريق على غير هدًى.
كان الوقت متأخِّرًا حين عاد إلى البيت، فوجد أمه جالسةً في حجرته وقد عبَّقت الحجرة بالبخور، والأم ممسكة بسبحة تُسبِّح عليها في هدوءٍ خاشع: أتتركنا يوم نجاحكَ ولا تجعلني أراكَ طول اليوم؟
– كنتُ عند خالتي.
– قل لي يا عباس، ألَا تُفكِّر في الزواج؟
– يبدو أنني لا أُقابل أحدًا اليوم إلا وكلَّمني في الزواج.
– يا ابني أجبني.
– افرضي أنني فكَّرت، كيف أستطيع أن أدفع المهر وأنفق؟
– لا شأن لك.
– أبي لن يقبل.
– قلتُ لا شأن لك.
– إذن.
وصمت، لماذا لا يتزوَّج؟ إنه يعرف من يريد، ويستطيع أن يترك البيت فيُريح أباه ويستريح هو أيضًا. وقالت أمه: لماذا لا تُجيب يا عباس؟
– نعم يا أم، أتزوَّج.
– أتترك لي أن أخطب أم؟ …
وقال عباس فجأةً ودون مداورة: اخطبي لي ليلى.
ونظرت الأم إلى ابنها في فرحة غير مصدقة، ثم قالت والفرح يكاد يعقد لسانها وقلبها شديد الخفق عالي الوجيب: هل أنت جاد يا عباس؟
وقبل أن تسمع جوابه اندفعت في الليل البهيم زغرودة مجلجلة، أطلقت فيها زكية فرحها الذي ظلَّ يملأ قلبها طوال اليوم، محاذرًا أن يُعبِّر عن نفسه في غير الابتسامة المتوارية عن عين الشيخ سلطان.