الفصل الحادي والعشرون
كانت ليلى في الشهر الأخير من حملها، وكانت مستلقيةً على كرسي يحنو عليها وقد أرخت رأسها إلى ظهره، وجلس عباس أمامها ينظر إلى عينَيها فينساب الهدوء إلى نفسه أنيسًا مطمئنًا. وفاجأته زوجته: ماذا سنُسمِّيه يا عباس؟
وابتسم عباس وقال في دعَة: هل وصلتك الأنباء أنه ولد؟
وفي استرخائها الحالم قالت: قل يا رب.
– أتظنين أنها تفيد؟ أعتقد أن هذه المسالة تتم دون الالتفات إلى الدعوات.
– وماذا يضيرك أن تقول يا رب؟!
– لا أُحب أن أقول شيئًا لا يُفيد.
– ألَا تُحس بالراحة أن تجد من تلجأ إليه؟ عجيبة!
– أنا لا أعرف إلا نفسي ألجأ إليها.
– ولكني أظن أن عم الشيخ سلطان هو الذي أنفق عليك حتى تخرَّجت، وأنفق عليك حتى تزوَّجت.
– هذا واجبه.
– وهل يُؤدِّي كل إنسان واجبه؟
وأحسَّ عباس أن السؤال يُخفي وراءه شيئًا، وإن كان واثقًا أنها تجهل موضوع إيفون جهلًا تامًّا، ولكنه قال بلا وعي: ماذا تقصدين؟
– حكمة عامة، لا أقصد شيئًا معيَّنًا.
– آه.
وصمتت ليلى قليلًا، ثم قالت: قُل لي يا عباس، ألَا تُحس أن غضب أبيكَ ومقاطعته لنا تجعلكَ تحتاج إلى شيء؟ ألَا تُحس الآن أكثر من أي وقت مضى أنكَ في حاجة إلى قوة عليا؟
– أُحس أنني في حاجةٍ إلى نفسي.
– كم أنت مغرور.
– أنا أُبصر، ولا أُصدِّق إلا ما أُبصر.
وسكتت ليلى وسكت، ثم قالت فجأة: ماذا نُسميه؟
وابتسم عباس وقال لها: وإن كانت بنية؟
– لا، أُريد ولدًا يا رب، والنبي يا رب، ولد.
– وحين تكون بنيةً جميلةً مثلك هادئةً حلوةً تُشيع الأمن والطمأنينة في كل الحياة التي تُحيط بها.
وفجأةً كست وجه ليلى مسحة من الجد، وزال عنها كل الخمول الذي كانت تُحسه: كيف تنوي أن تُنشئ هذا الطفل؟
– على حريته، سأترك له مطلق الحرية.
– أي حرية؟! أموت ولا يكون هذا، لا، إلا هذا يا عباس، إلا هذا.
– ماذا تُريدين؟
– لا بد أن يعرف أُسس دينه وقواعده، هذا واجبنا يا عباس.
– حتى أنتِ التي درستِ الفلسفة في الكلية ترين أن هذا مهم؟
– لقد عرفتُ ممَّا درستُ ومن عقيدتي أن الإنسان بغير دين ضائع، وبغير عقيدة يُؤمن بها إيمانًا ثابتًا سيكون تائهًا في هذا الوجود. وعرفت أن القلق والضياع وتيه الأفكار التي لا تعتمد على المشاعر الروحية هي شر ما يُلاقيه الإنسان في الوجود.
– أنا لا أُحس بذلك.
– بل أنت، أنت بالذات أكبر مثل أمامي لهذا الذي أقوله. أرجوكَ يا عباس، اترك لي تربية ابني.
– أتحسين أني ضائع؟
– أتظن أنني لم أُحسَّ بفترة القلق الطويلة التي عانيتَها؟
– أنا الآن مطمئن.
– مطمئن لأني أُشعرك بالاطمئنان، مطمئن لأني هادئة بجانبك واثقة. إذا فقدتني …
وقفز عباس من كرسيه صارخًا: لا! لا تقولي هذا.
– لماذا لا أقول؟ إنني بعد أسابيع قليلة سأكون بين يدَي الله، إذا اختارني إلى جواره؟
وصرخ عباس مرةً أخرى: أرجوك! أرجوك! أستحلفك بكل عزيز لديك، بالله، لا تقولي هذا.
– يجب أن تتوقَّعه ويجب أن نتفق على الطريقة التي سيُربَّى بها ابننا. إن شر ما نُلقيه إليه هو الضياع وعدم الثقة والقلق. إياك، إياك يا عباس، إذا لم أعِش. أنا …
وقال عباس: أرجوك!
واستأنفت ليلى حديثها كأنها لم تسمعه: إذا لم أعِش فبحياتي عندك، بحياتي عليك، بكل ما تؤمن به ولو أني أصبحت لا أعرف بماذا تؤمن. أستحلفك بأي شيء ذي قيمة عندك أن تجعل الولد يتلقَّى تعاليمه الدينية في إخلاص وفي إيمان عميق.
– ما ترين، ما ترين فقط، لا تقولي هذا الذي تقولينه.
– لماذا يا عباس؟ من يدري ما يُخفيه لي المستقبل؟
– أنت لا تعرفين ما أنتِ عندي.
– أعرف.
– فإذا … إذا فقدتك.
– نلتقي في السماء.
– أي سماء؟
– السماء، الحياة الثانية، اللقاء الذي لا انفصال له.
– كيف أومن به؟ كيف أضمن هذا اللقاء؟
– يجب أن تؤمن بالله لتؤمن بهذا اللقاء.
– أرجو أن أومن.
– حاول.
وهزَّ عباس رأسه وقد وضع يده على عينَيه: لا، لا، لا أُريد أن أُفكِّر في هذا! لا أُريد أن أفقدك! لا، أنا لن أفقدك! لن أفقدك أبدًا، أبدًا، أبدًا.
وارتمى على كرسيه باكيًا، واحتضنته ليلى وضمته إلى قلبها في حبٍّ وإعزاز كأنما تحتضن طفلًا، وراحت تربت ظهره قائلةً في تأثُّر وإيمان: لا تخَف، لا تخَف يا عباس. لن تفقدني، لن تفقدني أبدًا.
ملأ الخوف قلب عباس منذ ذلك اليوم، أصبح يترك عمله ويُسارع إلى البيت فيظل مقيمًا بجانب ليلى لا يتركها، وأحسَّت ليلى الهلع الذي يحيا فيه فحاذرت أن تُحادثه مرةً أخرى عن موتها، وكانت هي نفسها تعجب كيف لا تخشى على نفسها الموت مثلما يخشاه عليها عباس، ولم تكن تُحاول أن تُحلِّل السبب في اطمئنانها وذعره، وإنما كانت تكتفي بالتعجُّب لهذا التناقض في الشعور. أمَّا عباس فقد كان لا يستطيع أن يتصوَّر الحياة بدونها، وكأنما جعله حديثه يُفكِّر في يوم يفقدها فيه فهو في بحرَين من الخوف والقلق، يصبُّ غضبه حينًا على أمها التي سعت إلى هذا الحمل، وحينًا على هذا الجنين الذي يسعى طريقه إلى الحياة، وحينًا يصب كل غضبه على نفسه أن اشترك في هذه الجريمة التي توشك أن تقع. أصبح ميلاد ابنه يتمثَّل في نظره كارثةً وشيكة الوقوع لا يستطيع أن يذكرها إلا ويذكر هذا الحديث الذي ملأه رعبًا.
ولم يستطِع أن يفرغ لعمله كما تعوَّد أن يفرغ له، وبدأ رئيسه في العمل يُلاحظ عليه هذا التخلُّف فهو يُناديه ويستقبله في جمود: وبعدين يا أستاذ عباس؟
– فيمَ؟
– ألَا تدري؟ إن عليك واجبات لا بد أن تُؤديها.
وقال في نفسه: «قيد آخر، وعبودية أخرى.» وصمت وقال الرئيس: أهي فوضى؟! تخرج كما تشاء وتدخل كما تشاء! ألَا تدري أنها وظيفة أنت مقيَّد بها وملزم بقوانينها حتى تستحق ما تناله من مرتب آخر الشهر؟
وقال في نفسه: «مرتب آخر الشهر. عبودية أخرى. يبدو أن هذه الحياة لا تتم إلا بالعبودية.»
وصمت وقال الرئيس: لماذا لا تُجيب؟
وأطرق عباس وهو يقول: ظروفٌ عائلية.
وبدا على رئيسه شيء من العطف وقال له: اقعد.
وأحسَّ عباس وهو يجلس مزيجًا من العواطف المتضاربة. كان عطف الناس وتجاوبهم مع مشاعره يجعلانه يحس أن هذا المجتمع لا بأس به. ومن هذا الإحساس كان يُداخله خوف على إيمانه بكره المجتمع، فهو حيران بين شكرانه لهذه العواطف، وبين إحساسه بأن آراءه ليست جميعها سديدة.
وقال الرئيس: ما هي ظروفك؟
وأطرق عباس قليلًا، فقال الرجل: أنا هنا لست رئيسًا فحسب، بل إني أعتبر نفسي والدًا لكَ أيضًا. وقلبان في الأزمة أقدر على مواجهتها من قلب واحد. لعل ما تضيق به أستطيع أنا حلَّه. الناس بالناس يا بني.
وأحسَّ في رحمة الرجل ما يدعوه إلى الحديث فهو يقول في صوت واهن متعثِّر: زوجتي حامل في شهرها الأخير.
وقال الرئيس في بساطة وإشراق: شيءٌ عظيم! هذا أمر يدعو للفرح.
ولكنه بعد أن صمت هنيهة قال: أتكون محتاجًا لأجر الولادة؟
وقال عباس: لا … لا … أبدًا … إنما أخشى … أخشى …
فقال الرجل في طيبة: قل ماذا تخشى يا ابني.
– أخشى أن يُصيبها شيء في الولادة.
– وأي شيطان أوحى إليك بهذه الفكرة؟ ألَا تعرف أن تسعين في المائة من الأمهات يلدن بلا أي صعوبة؟
– ولكن هناك عشرة في المائة …
ولم يستطيع أن يُكمل الجلة فقال الرجل: ولماذا تحسب أن زوجتكَ بين العشرة في المائة وليست من التسعين في المائة؟ أظن التسعين في المائة أكثر.
وسكت عباس قليلًا وقال: إني خائف.
– أنت الذي تخلق الخوف في نفسك. ممَّ خوفك؟
– لا أدري.
– قل يا رب.
وسكت عباس قليلًا وظل مطرقًا. لقد كان يتمنَّى في لحظته تلك أن يستطيع إرسال هذه المناجاة إلى السماء، ولكنه يحس أن السماء مغلقة دونه. وعاد الرئيس يقول: قل يا رب، وقُبيل موعد الولادة خذ إجازةً لتستطيع أن تبقى إلى جوار زوجتك.
وقال عباس: أشكرك.
– لا، هذا واجبي، واجبي كوالد يا عباس، مع السلامة يا ابني.