الفصل الثاني والعشرون
لم يكن نائمًا حين قالت له ليلى: أظن الوقت قد حان.
فقفز عن السرير وراح يُهرول ليوقظ خالته التي ألحَّ عليها أن تُلازم ابنتها قُبيل الولادة بأيام، ثم عاد يُهرول إلى الغرفة ويسألها: هيه، هل حصل شيء؟
وتضحك ليلى قائلة: ماذا يمكن أن يحصل في اللحظة غبتَها عني؟
– حسبت … خشيت …
وراح يضع على نفسه ملابسه في ارتباك وليلى تنظر إليه في ابتسامة هادئة لا تفارقها، وفجأةً قالت: ممَّ تخاف؟
– ألَا تعرفين؟
– إنني أنا مطمئنة، وكان عليكَ أيضًا أن تطمئن.
– من أين يأتي الاطمئنان؟ من أين يأتي؟ لو كنتُ أستطيع أن أطمئن مثلك، لو كنتُ أستطيع.
– أنا مطمئنة لأنني سأكون بين يدَي الله، وإنِّي لراضية بالمصير الذي يُريده لي من موت أو …
ويقاطعها عباس: أرجوك! قومي، قومي، أرجوك، ألم تقولي إن الوقت قد حان؟
– نعم، حان لنذهب إلى المستشفى، أمَّا الولادة فلا أظنها تتم قبل ساعات.
– إذن قومي.
– دعني أولًا أُتم حديثي. أنا مطمئنة لأنني سأكون بين يدَي الله، وأنتَ يجب أن تطمئن لأنني سأكون بين يدَي الإنسان العظيم الرائع الذي بلغ الفضاء ومزَّق السماء. ماذا؟! أيعجز هذا الإنسان المارد الجبَّار أن يستقبل طفلًا … مجرَّد طفل الحياة فيه معدة جاهزة، لا تحتاج إلى أي مجهود؟ كل ما على الإنسان العبقري أن يستقبل طفلي هذا بعلمه. ألَا يستطيع الإنسان الذي بلغ الفضاء أن يُخرج طفلًا من ظلمات الرحم إلى نور الدنيا التي اكتشف خوافيها؟
– أهذا وقته؟
– لو كنتَ مؤمنًا بالإنسان والآلة، وبالتقدُّم الذي شقَّ السماء إلى الفضاء لما خفتَ الآن. لماذا أنتَ خائف؟
وجلس عباس منهوك القوى: أتسخرين مني؟! يبدو أن لا حاجة بكِ إلى المستشفى الآن؟
– أنتَ لا تُجيب.
وكيف أستطيع أن أُفكِّر الآن؟
– أسمعتَ ما كنتُ أقوله؟
– نعم.
– فاذكره دائمًا، واذكره وأنا بين يدَي الله في رأيي، وبين يدَي الآلات والإنسان والعلم الحديث في رأيكَ أنت.
ودخلتْ أمها الحجرة، وحين رأتها جالسةً في هدوئها وابتسامتها المطمئنة قالت وهي تضحك: ماذا؟ هل أجَّل بسلامته موعد الوصول؟
وأحسَّت ليلى الألم يُعاودها، فمدَّت يدها إلى أمها التي سارعت إليها وأمسكت بها وهي تقول: لا، لقد حان موعده.
وقفز عباس خائفًا: ماذا؟! أتلد هنا؟! بلا أطباء ولا مستشفى ولا …
وقالت الأم الخبيرة: لا، لا، من قال هذا؟ ما زال أمامنا الوقت متسعًا.
– ولكنها تتألَّم.
– وهل تظن أنكم جئتُم إلى الدنيا إلا بآلامنا هذه؟
– هل أرسلتِ إلى أمي؟
– نعم.
ثم التفت إلى ليلى في اضطراب: هل أنت متعبة يا ليلى؟
وكان الألم قد زايل ليلى فافترَّت شفتاها عن ابتسامة واهنة وقالت: لا، هيا بنا.
وقاموا ولكن عباس يسأل: هل أحضرتْ سيدة سيارة؟
وقالت خالته: لقد طلبتُ منها أن تأتي بها قبل أن تذهب إلى بيتكم.
وفي السيارة قالت ليلى: عباس لن أراكَ إلا بعد الولادة، فإذا …
وأمسك عباس يدها في تشبُّث وقال: أرجوك! أتوسَّل إليك!
وواصلت ليلى حديثها: الولد، أُريده مسلمًا، وليس لي رجاء في الدنيا إلا أن يكون ابني مؤمنًا، مؤمنًا بقلبه وعقله وشعوره، رجاء أحاسبك عليه عندما نلتقي عند الله في السماء.
ودقَّت أمها صدرها وهي تقول: ما هذا الكلام الذي تقولينه؟!
وقال عباس: وهل أسمع غير هذا الكلام؟
وقالت الست حميدة: هل جننت؟
وواصلت ليلى حديثها دون أن تلتفت إلى كلام أمها أو زوجها: إذا كنتَ لا تستطيع هذا فأعطِه أمي.
وقال عباس في تخاذل: أرجوك، أنتِ التي ستربينه، وسيكون كما تُريدينه أن يكون، ولكن لا تذكري هذا الآن. أرجوكِ لا تذكريه!
– لا أريد منك غير هذا يا عباس.
وأطرق عباس صامتًا، وقالت الأم بعد أن مصَّت شفتَيها: له في ذلك حكم.
وتوقَّفت السيارة فجأة، ونظر عباس يرى ما أوقف ركبهم، فوجد الشرطي يعترض سبيلهم، وأوشك أن يقول للسائق امضِ، ولكنه كان يعلم أنه لن يُطيع؛ فيد الشرطي أقدس من أي أوامر. وأوشك أن ينزل إلى الشرطي يرجوه أن يسمح لهم بالمرور؛ فقد خُيِّل إليه أن امرأته ستلد في السيارة، ولكنه تذكَّر أن الشرطي لن يأبه برجائه؛ فالقانون أهم من زوجته والوليد المنتظر. وحين وجد أن لا سبيل له إلا أن يسكت، تضاءل أمام نفسه عاجزًا يرنو إلى زوجته وقد عادها الألم. وأمسك يدَ ليلى في تشبُّثٍ ملهوف يُردِّد النظر بين الشرطي ووجه زوجته الذي غضنه الألم المرير. وأخيرًا سمح الشرطي لهم أن يسيروا.
وبلغت السيارة المستشفى، وأُدخلت ليلى إلى غرفة الولادة، وصحبتها أمها، وظلَّ عباس وحده. أحاطت به الوحدة، وحدة كاملة، فراغ، فراغ كبير من حوله. أحسَّ كأنه هباءة في الهواء يبحث عن شيء يتعلَّق به، ولكن يده لا تُمسك بغير الفضاء. يقوم إلى باب الحجرة يُحاول أن يدخل ولكن أمر الطبيب الصارم يقذف به مرةً أخرى إلى الوحدة والفراغ والفضاء.
وجاءت أمه ومعها وهيبة ولطفي، وحاول أن يجد فيهم الشيء الذي يتعلَّق به. وتركته أمه ووهيبة ودخلتا إلى ليلى، وظلَّ هو مع لطفي. وأحسَّ أنه ما يزال يُمسك بالفضاء، وخيَّم عليهما الصمت، وطال. وخرجت وهيبة فزعةً من الحجرة، ولقفها عباس: ماذا؟! … ماذا يا وهيبة؟
– لا أدري. إنها متعبة … متعبة … الطبيب يُريد طبيبًا آخر. لطفي … نُريد … نُريد …
واندفع عباس إلى الحجرة، وحاول الطبيب أن يمنعه ولكنه لم يعبأ بأوامره، ووقف إلى جانب ليلى شاحبةً بلا لون ولا نأمة إلا صفرة وابتسامة تسلَّلت إلى شفتَيها حين رأته وهمست: لا تخف، لا تخف يا عباس، كفاكَ خوفًا.
– أُريد أن تعيشي، أُريد أن تظلي بجانبي؟
– سأكون بجانبك دائمًا، هنا أو هناك سأكون بجانبك.
وصرخ عباس: لا! لا!
وقال له الطبيب في حزم: حياتها في خطر، أي هزة قد تودي بها، أرجوك.
وأمسك بذراعه يقوده إلى خارج الغرفة فاستسلم له، ولكن قبل أن يصل إلى الباب وقف مرةً أخرى في إصرار: أراها ضعيفة، ولكن الأمل كبير، أليس كذلك يا دكتور؟
– أملنا في وجه الله، لا تُضِع هذا الأمل، أرجوك.
ونظر إلى الطبيب نظرةً داهشة، ثم استسلم له وخرج، ولكنه ظلَّ ملاصقًا لباب الغرفة يتحسَّسه في خوفٍ والدموع تملأ عينَيه، وفجأةً وجد نفسه يقول بلا وعي: يا رب.
وأحسَّ أنه وجد ما يُريد أن يتعلَّق به: يا رب. يا رب.
وظلَّ يقولها، ولا يقول شيئًا غيرها. يا رب. يارب. وربتت كتفَه يدٌ فاستدار ليجد أباه يسأله: خير يا عباس؟
وارتمى عباس بين أحضان أبيه باكيًا يقول: ادعُ لها الله يا أبي، إنها بين يدَي الله.
واحتوى الشيخ ابنه في حنان، وفجأةً ارتفع صراخ الطفل الوليد، فاندفع عباس إلى الحجرة وسأل الطبيب الذي كان ممسكًا بالطفل: وهي؟ هي؟
وقال الطبيب: ربنا معها.
وركع عباس إلى جانب سرير زوجته وسمعها تهمس: أُريده مؤمنًا يا عباس.
وقال عباس في ثقة وهدوء: سيكون.
وأشرق وجه ليلى وهي تسمع هذه النغمة الجديدة من الوثوق في صوت زوجها، وأحسَّت أنها بلغت أقصى آمالها، وقالت في راحة: الحمد لله.
وظلَّ عباس بجانب زوجته ممسكًا بيدها صامتًا، وراح الطبيب يبذل كل ما يستطيع لإنقاذها.
ولكن الله قد هيَّأ لها مكانًا في جواره.
وعند الفجر كانت ليلى قد صعدت إلى السماء، ورنا عباس إلى وجهها، وقال صامتًا في حبٍّ والدموع تنهمر على وجهه: إذن فهو كما قلتِ يا ليلى، لقاء هناك، في السماء.