الفصل الثالث
كانت وهيبة لا تدري ماذا تفعل بحياتها وبأيامها الطويلة إن لم يكن الله قد منَّ عليها بزيارات إيفون القليلة وبزيارات ابنة خالتها الكثيرة؛ فما كان لها من الصديقات غير هاتَين. وكان هناك الراديو أيضًا، ولكنه كان ممنوعًا عنها منذ يحلُّ أبوها بالبيت؛ فما كان يرضى أن يسمع منه غير القرآن، وإن تسامح فالأحاديث، أمَّا أن يسمع الغناء والتمثيليات وشتَّى أنواع الإذاعات الأخرى فذلك هو المستحيل؛ ولذلك كانت وهيبة ترجو صديقتَيها دائمًا ألَّا تكون زيارتهما في وجود أبيها بالبيت؛ حتى يُتاح لها أن تلتذ بالمتعتَين معًا؛ من الراديو والزيارة. ولو أن زيارة ليلى لوهيبة لم تكن زيارةً خالصة المتعة؛ فقد كانت ليلى دائمة اللوم لوهيبة أنها لا ترعى شئون أخيها عباس، وأنها وأمها تبذلان كل جهدهما لإرضاء الشيخ سلطان، بينما لا ينظران في أهم شئون عباس، فزِر ملابسه المقطوع هو من يخيطه، وطعامه باردٌ لا تهتم واحدة منهما بتجهيزه، وملابسه همل لا تهتم واحدة منهما بإحصائها وتنظيفها. وكانت وهيبة تُجيبها أنها بحسبها ما تقوم به من شئون أبيها وشئون المنزل، ولكن ليلى كانت ترى من عباس الألم المرير ممَّا يُعامل به في البيت.
وطالما شكا لليلى على مسمعٍ من أخته أن أباه وحده هو من يحظى بالخدمة والعناية، ويا طالما قال لها إنه يعرف أن أباها لا شك هو صاحب الحياة في البيت، وأن أي عناية تُبذل لإرضائه هي بذل في المكان الجدير به، ولكن عباس يطمع أن يجد عند أخته شيئًا ولو هيِّنًا من بعض رعاية. وكانت ليلى تلوم وهيبة، ولكن لم تكن وهيبة لتُنيل ليلى أذنًا مصغية؛ فقد كانت ترى أباها في البيت هو البيت، وكل ما تحويه جدران البيت إنما وُجد وصنع لا لشيءٍ إلا ليخدم أباها ويُهيِّئ له الراحة والدعة. وكانت ترى أن كل شيء يضمه هذا البيت إنما هو قطعة من آلة لا يبعث الروح فيها أو يمدها بالحياة إلا أوامر أبيها، فإن قال يمينًا فيمين، أو قال شمالًا فشمال. هي في البيت لا في المدرسة؛ لأن أباها يُريدها في البيت لا في المدرسة، وهي تقوم بالأعباء المنزلية؛ لأن أباها يُريد أن تقوم بالأعمال المنزلية، وهي تصلي لأن أباها يُريدها أن تُصلِّي، وتصوم لأن أباها يقتلها إن أفطرت. ولقد تُخفي عن أبيها إفطارها في الأيام التي أمر الله بها أن تفطر فيها، والتي لا يجوز لها فيها صيام. وكان يُخيَّل إليها أن أباها لو شاء فقال لها صومي في هذه الأيام لصامت، ولأحسَّت أن صيامها هذه الأيام شأنه شأن صيامها لأيام الشهر الأخرى، لا فارق بين الصيامَين، فكلاهما لأبيها.
فيمَ إذن تُلح عليها ليلى أن ترعى شأن أخيها؟! ألَا تدري ليلى ما هُم في هذا البيت؟ ولكن وهيبة مع ذلك كانت تُحب أن تزورها ليلى، وتُحب هذه الجلسة التي تجمع ثلاثتهم، بل وتحب أيضًا مجيء لطفي عجِلًا دائما يطلب إلى أخته أن تقوم، ثم يُهدِّدها ألَّا يأتي معها إذا هي لم تقُم. وكانت وهيبة تضحك من هذا النقاش الذي لا بد أن يدور بين ابنَي خالتها كلما زاراها وتسعد به.
وقد كانت خالة وهيبة الست حميدة زوجةً لمدرِّس إلزامي تزوَّجها في القرية ميت جحيش، ثم شاءت له ظروف سعيدة صاحبها سعي منه حثيثٌ أن يُنقل إلى الديوان العام بالوزارة، فقدم مع زوجته إلى القاهرة واصطحب معه عادات الريف لم يتركها، إلا أن القاهرة ما لبثت أن طغت عليه بعض الشيء؛ فلم يُخرج ابنته ليلى من المدرسة كما فعل عديله الشيخ سلطان. وهكذا بقيت ليلى تلميذةً تواصل تعليمها في المرحلة الثانوية، وتجد في هذه الصفة مثارًا لزهوها، فهي مقبلةٌ على التعليم إقبال محبٍّ راغب، يقف أبوها رضوان أفندي من ورائها فرحًا بها فخورًا، يجد من إقبالها على التعليم وسيلةً يُلهب بها ابنه الوحيد لطفي أن يُقبل هو أيضًا على المذاكرة إقبال أخته، إلا أن لطفي لم تكن تُغريه هذه الحيلة؛ فقد كان يجد في كرة أصدقائه بحارة البابلي إغراءً أشد، ولكنه مع ذلك كان يسير في دراسته في غير تعثُّر، وإن كان في غير نشاط؛ فما كان من المتأخِّرين وما كان من المتقدِّمين، وكان على كل حال من المنقولين في آخر العام. وما كان له في النجاح حيلة؛ فقد تعوَّد أبوه أن ينقطع لمذاكرته قُبيل الامتحان فلا يخرج من البيت، بل يظل ملازمًا إيَّاه، فيُضطر لطفي مع هذه المراقبة الشديدة أن ينجح وأمره إلى الله.
كانت ليلى تصحب أخاها لطفي كلما شاءت أن تذهب إلى ابنة خالتها وهيبة، وكان لطفي يضيق بهذه الصحبة أشد الضيق، ولكن رضوان أفندي كان يأبى أن تخرج ابنته بعد الظهر دون أخيها، وإن كانت لم تتجاوز الرابعة عشرة ولم يتجاوز أخوها الثالثة عشرة.
أمَّا الست حميدة فقد كانت ترى في مواصلة ليلى لدراستها عبثًا لا طائل تحته ولا داعي له؛ فهي لا تراها خارجةً في الصباح إلى مدرستها إلا مصَّت شفتَيها وقالت: عشنا وشفنا بنات آخر زمن.
لا تخطئ مرةً وتنساها أو تخطئ مرةً وتُغيِّرها. وكانت حُجتها أن ابنة أختها مكثت منذ أعوام في البيت لا تخطو عتبته؛ فتعلَّمت كيف تخدم البيت وتقوم بأعبائه، في حين لا تستطيع ليلى أن تُقيم وعاءً على النار. وكان يلذُّ لرضوان أفندي أن يسمع هذا الحديث فيضحك من جهل زوجته، ويطمئن إلى ذكائه هو وسعة أفقه. أمَّا ليلى فكانت تضيق بحديث أمها حينًا، أو تُقبِّلها وتُدغدغها حينًا آخر، ولكن الخوف كان يُداخلها دائمًا أن تستطيع أمها في يوم من الأيام أن تُؤثِّر على أبيها فيصرفها عن الدراسة كما صرف عمُّها الشيخ سلطان وهيبة عن المدرسة. ولا تجد لخوفها مكانًا تُفرغه فيه إلا المذاكرة الدائمة التي تُبقي عليها زهو أبيها بها، وتُمسكه بكمال تعليمها.
كانت ليلى فتاةً طلقة المحيَّا، صحبت من أصلها الريفي براءة السمات وإشراقة النفس وبساطة التعبير؛ فشعرها ضفيرتان كبيرتان من الذهب، وعيناها صفاء ومحبة للحياة وإقبال عليها، إقبال هادئٌ مطمئن واثق. والألوان فيهما نقية؛ فالسواد قاتم في الحدق محوط بدائرة من صافي العسل، والبياض بياضٌ صريح، والحديث يفيض منهما أنهما لا تُخفيان من ورائهما إلا نقاءً، أو تحجبان من دونهما إلا براءةً وطُهرًا.
وكانت ليلى ناصعة البشرة بيضاء، لا يكاد يشوب لونها حمرة أو سمرة. وقد بدأت منذ قليل تنظر إلى المرآة وتضيق بهذا اللون الواحد الذي يأبى أن يتلوَّن بحمرة عند خدَّيها، أو بسمرة عند عينَيها. وقد بدأت منذ قليل أيضًا تُمسك بخدَّيها في غيظٍ فتترك أصابعها حيث أمسكت بعض حمرة ما يلبث لونها الأبيض أن يمتصها. ولم تكن ليلى بالنحيلة ولا هي بالسمينة، كما لم تكن بالطويلة ولا هي القصيرة، إنما هي في قوامها من هؤلاء اللواتي لا تستطيع أن ترى فيهن شيئًا يدعو إلى العجب أو الإعجاب. أمَّا أطرافها فقد كانت أكبر ممَّا ينبغي لسنها؛ فيداها وقدماها أقرب إلى الضخامة منهما إلى الدقة التي كانت ترجوها هي، وإن كانت أصابع يدَيها تنتهي بأطرافٍ دقيقة فتستطيع بذلك أن تخدع عين الرائي فيظن بها ما لا تتمتَّع به من أناقة.
هكذا كانت ليلى. لم أترك من وصفها شيئًا إلا ذلك الفستان الأحمر الذي كانت تُكثر من لبسه، والذي كان يُدرك لطفي كلما رآها ترتديه أنها قد انتوت أن تخرج، وأنه مرغم على أن يقطع لعبه ويصحبها إلى زيارتها البغيضة. ولم يكن مخطئًا في إدراكه هذا؛ فها هي ذي تفتح الشباك وقد ظهر النصف الأعلى من الفستان اللعين. وما إن يرى لطفي الشباك يُفتح ويُطلُّ منه الفستان حتى يولي ظهره للبيت، وللكرة أيضًا التي كانت قادمةً في هذه اللحظة إلى أقدامه — وقد ظل ينتظرها منذ بدء اللعب — وتصيح: لطفي، يا لطفي.
ويسمع لطفي ولكنه يجري محاولًا أن يسبق الكرة ليُحقِّق أمنيته في الرمي بها إلى الهدف، ولكن الكرة تأبى أن تُحقِّق ما يصبو إليه، ويُعاجلها ظهير الفريق الآخر فيبعدها عن أقدام لطفي وعن آماله جميعًا، فلا يملك آخر الأمر إلا أن يُجيب هذا النداء المتلاحق الذي لم ينقطع طوال هذه المناورة: نعم يا ستي. الله يقطع لطفي وأيام لطفي. نعم. تفضلي انزلي، تفضلي، فما دمتِ لبستِ فستان الحصبة فهي الزيارة.
وتنزل ليلى، ويسير لطفي إلى جانبها وقد استبدلت قدمه الكرة بقطعةٍ كبيرة من الحصى راح يركلها بقدمه، منصرفًا إليها، مفكِّرًا فيما كان خليقًا أن يفعله في الملعب لو لم تُرغمه أخته على أن يصحبها في هذه الزيارة. ويلتفت إليها فجأةً ويسألها: أنا والله لا أعرف ما الذي يُعجبك في هذه الزيارات؟
– إنه أنا والله لا أعرف ما الذي يُعجبك في الكرة؟
– يا سلام! ألَا تعرفين؟ ولكن لا عليك فأنت معذورة؛ لو كنتِ تلعبين الكرة لعرفتِ لذَّتها.
– ألعب! ولماذا لا ألعب؟
– نعم هذا ما ينقصك، ألَا تكفي المدرسة التي تذهبين إليها وأنت بهذا الطول؟
– رجعنا إلى الغيرة.
– غيرة! من؟ أنا أغار منك؟!
– طبعًا. اجتهد يا أخي وأنت تُصبح مثلي.
– والله إن أبي جنى عليكِ وجعلكِ تفهمين أنك شيءٌ مهم.
– أنا شيء مهم طبعًا. أنا الأولى.
– يا بنتي الغرور ركبكِ وأصبح الكلام معكِ يحتاج إلى الصبر.
– بل قل إنك تجد كلامي صحيحًا ولا تعرف كيف تُجيب.
– لا بل أعرف، قولي لي، ماذا ستفعلين بالشهادة، إذا لا قدَّر الله ونلتِ الشهادة؟
– قل لي أنت ماذا ستفعل بها؟
– سأتوظَّف.
– وأنا أيضا، سأتوظَّف.
– يا عيني يا عيني، كملت. يا بنتي اعقلي.
– هذا هو العقل، ثم أنتَ ما شأنك؟ أطال الله عمر أبي، ما دام راضيًا فآراؤكم جميعًا لا قيمة لها.
– الله أكبر! آراؤكم هذه تقصدين بها أمك طبعًا؟!
– من جاء بسيرة أمي الآن؟
– أنت.
– أنا؟
– والله لأقول لها إنك لا تهتمين برأيها.
– عيب عليك يا لطفي لا تُدخل نينا في الموضوع.
– ما دامت آراؤنا كلها لا قيمة لها.
– وهل قلتُ نينا؟
– ومن كلنا؟! قال يا جحا عد غنمك، قال واحدة قائمة والأخرى نائمة. فمن كلنا إن لم يكن أنا ونينا؟
– اسمع سأعطيك قرشًا ولا تقل شيئًا لنينا.
– والله المسألة فيها نظر.
– لأجل خاطري يا لطفي.
– أنا لم أعِد بشيء.
– اعقل يا لطفي.
– وحين أعود إليكِ تنزلين مباشرة؟
– آه يا لئيم، وما الضرر في أن أجلس بعض الوقت مع وهيبة، وأنتَ تعرف أنها لا تخرج من البيت ولا تزور أحدًا ولا يزورها أحدٌ إلا أنا وإيفون؟
– هذه هي شروطي. اقعد قليلًا، انتظر خمس دقائق أخرى. كلمة من هذه أُبلغ نينا مباشرة.
– أمرك يا فرعون، وأنت أيضًا لا تُسرع بالعودة.
وانصرف لطفي وصعدت ليلى إلى وهيبة. كان عباس يسعد بجلسته إلى ليلى وكانت تسعد هي أيضًا بها، وكان الحديث بينهما ينساب رخيًّا يُحدِّثان وهيبة عن المدرسة وعن المدرِّسات وعن خلافاتهم مع الطلبة والطالبات، ووهيبة تسمع في لهفةٍ ووجيب؛ فقد كانت تتوق أن تواصل تعليمها وإن كانت تعتبر هذه الرغبة جرمًا لا يجوز لأبيها أن يتعرَّف عليها؛ فهي تُخفيها في نفسها لا تراها إلا نفسها.
وقد وجدت ليلى عباس جالسًا إلى أخته، واستقبلها حين قدمت في فرح: أهلًا. أين أنت؟ لم نرَك من زمان.
– مشغولة في المذاكرة.
وقالت وهيبة: تحتجِّين دائما بالمذاكرة، وأنا وحدي ولا تسألين عنِّي.
وقالت ليلى: لو عرفت العذاب الذي ألقاه من لطفي كلما فكرتُ في المجيء لعذرتني.
وقال عباس في سذاجة: يا ستي لا يُهمُّك لطفي، إذا أردتِ المجيء أرسلي لي سيدة وأنا أجيء إليك وأحضر معك.
وصعدت حمرة إلى وجه ليلى وأرتج عليها؛ فهي تعلم أن أباها لن يسمح أن تخرج مع عباس، وهي في نفس الوقت لا تستطيع أن تُخبر عباس بهذا. فتلعثمت واختلطت في فمها بعض حروف لا تُكمل لفظًا أو تؤدِّي معنًى، وفهم عباس حيرتها، وأدرك ما انزلق إليه لسانه. وسارعت وهيبة: لو قلتَ للطفي إننا سنعلب الكرة لجاء يجري.
واستطاع عباس بعد جهدٍ أن يجد لسانه فقال: ماذا أخذتم في الإنجليزي؟
قالت ليلى: أشياء كثيرة، إلا أننا ما زلنا لا نستطيع فهم المدرِّسة تمامًا.
– العجيبة أننا نتعلَّم الإنجليزي بسرعة، والمدرِّسون الإنجليز لا يتعلَّمون العربي أبدًا. لو رأيتِ المستر جودمان وهو يُحاول الكلام مع الفرَّاش لما استطعتِ أن تمنعي نفسكِ من الضحك.
– أمَّا المس بنيت فلا تُحاول حتى الكلام.
وتقول وهيبة وهي تُحاول أن تجذب طرفًا من الحديث: ماذا تفعل المس مع الخادمة في البيت؟
ويقول عباس: لا بد أنها تُكلِّمها بالإنجليزي.
وتضحك وهيبة وليلى، وتقول ليلى: تصوَّر لو تكلمَت المس بنيت مع سيدة أم متولي.
وعادت وهيبة تُحاول أن تجذب طرفًا من الحديث: من أكثر مدرِّس تُحِبه يا عباس؟
ويقول عباس بلا ريث وتفكير: مدرِّس الرياضة.
وفزعت ليلى قائلة: أعوذ بالله! الرياضة؟
ويقول عباس: نعم. ما لها الرياضة؟
وتقول ليلى: أتعرف يا عباس أنني لولا الرياضة لأصبحتُ الأولى على القطر.
ويقول عباس عابثًا: وهذا سببٌ جديد يجعلني أُحبُّ الرياضة.
وتقول ليلى بين الضحك والتعب: أنا لا أتصوَّر كلمة الرياضة تأتي مرادفةً للحب بحالٍ من الأحوال.
ويقول عباس في استعلاءٍ خفي: عقلكِ خيالي حالم. لو كنتِ تُجيدين التفكير لأحببتِ الرياضة. ثم إن الرياضة التي نتعلَّمها أهم بكثير من الرياضة التي تتعلَّمينها.
وتقول ليلى في سرعة وكأنها تُدافع عن كرامتها: الرياضة التي نتعلَّمها غاية في الصعوبة.
ويعود عباس إلى استعلائه وقد مازجه بعض سخرية: أُتسمِّين هذه رياضة؟! هذه لعب عيال.
وتقول ليلى غاضبة: على كل حال أنا لا أنوي أن أتعلَّم لعب الرجال الذي تتعلَّمه؛ فأنا سأدخل القسم الأدبي.
وقال عباس في نفس اللهجة المستعلية: طبعًا فأنتِ ما زلتِ خيالية، ولكنك حين تكبرين ستُفضِّلين الرياضة. وعلى كل حال أين أنت من الاختيار؟ ما زالت أمامك فترة طويلة.
وأجابت ليلى متحدية: ولكني الأولى يا شاطر، هل استطعتَ أن تكون الأول في عمرك؟
ووجدتْ وهيبة نفسها مقصاهً عن الحديث مرةً أخرى، كما وجدتْ أخاها قد بالغ في إغاظة ليلى، فقطعتْ عليهما التصارع قائلة: وأنتِ يا ليلى أي المدرِّسات أحب إليك؟
ونظرتْ ليلى إلى وهيبة التي كانت قد نسيتها في غمرة هذا الهجوم الذي شنَّه عليها عباس، وهمَّت أن تُجيب ولكن عباس سبقها: طبعًا ليست مدرِّسة الرياضة.
وقالت ليلى: لا. أعوذ بالله. أُحب مدرسة الديانة.
وقال عباس بسرعةٍ وبلا وعي: أعوذ بالله!
ووجمت ليلى، ودقَّت وهيبة صدرها في ذعر: أعوذ بالله من الديانة يا عباس! هل جننت؟!
وتلجلج عباس قليلًا، ثم قال في لعثمة: حصَّتها ثقيلة …
وظلَّت ليلى على وجومها، وقالت وهيبة في استنكار: الديانة؟!
وقال عباس وعقدة من تردُّد ما تزال آخذةً بلسانه: نعم الديانة، وماذا؟ كفرت! لو كنتِ رأيتِ الشيخ مدبولي الذي كان يُعلِّمنا الديانة في السنة الأولى الابتدائية لعرفتِ أنني معذور.
ولاحت في عينَي ليلى بوادر استفسار، ولكنها ظلت على وجومها، وقالت وهيبة في استنكارٍ لم يُفارقها: الشيخ مدبولي؟
ونظر عباس إلى ليلى التي لم تقُل كلمةً منذ بدأت هذا الحديث عن الديانة، ووجد علامات الجزع تُمازج علامات الاستنكار على وجهها، كما وجد طلائع السؤال في عينَيها أبت أن تُفرج عنها شفتَيها، مستأبيةً أن تُحادث هذا الذي سمع كلمة الديانة ثم استعاذ بالله منها. ووجَّه عباس حديثه إليها: كان الشيخ مدبولي يُمسك بأربع مساطر من حديد. أتعرفين المسطرة الحديد؟
ولم تُجِب ليلى، وأومأت وهيبة أن نعم. وواصل عباس حديثه: فمن لم يحفظ الآية منا راح يضربه بحد المساطر على عظام ظاهر اليد. أرأيتِ جبروتًا كهذا؟
واستراحت ليلى قليلًا حين وجدتْ كرهه للحصة لا للديانة. ولم تستطِع وهيبة أن تقبل في نفسها هذا التفريق فقالت: ولكن لا يصح لكَ أن تقول أعوذ بالله، وهي تقول إنها تُحب مدرِّسة الديانة.
وواصل عباس حديثه: كان الشيخ مدبولي هذا أقسى أستاذ شفته في حياتي؛ قلب من حجر، ويد من حديد. وكنتُ — وما زلت — أعجب أين الديانة في قلب هذا الرجل؟ وهل الديانة هي هذه القسوة وهذا الجبروت؟
وحين نُقلت من المدرسة الابتدائية كان أكثر فرحتي أنني سأترك الشيخ مدبولي، ولكن حين دخلتُ الفصل في مدرسة الخديوي إسماعيل في الحصة الأولى من اليوم الأول للسنة الأولى، وجدت الشيخ مدبولي هو مدرِّس العربي والديانة معًا. كان قد رُقِّي واستقرَّت الترقية على رأسي أنا.
وقالت ليلى وهي تُغالب الضحك: وهل ما زال الشيخ مدبولي في المدرسة؟
وقال عباس: لا.
وقالت ليلى ضاحكة: خسارة! وأين هو؟
وقال عباس: أترين ذهابه خسارة؟ ربنا يبلوكِ بمثله إن شاء الله.
وقالت وهيبة وقد غاظها أن أخاها يتجاهلها ويُوجِّه حديثه إلى ليلى وحدها: ألأنه يضربكَ من أجل الحفظ تكرهه هذا الكره؟ إذن فأنت تكره أبي، إنه ما زال يضربك حتى الآن.
وقال عباس في سخطٍ وتبرُّم: أنا؟! أنا أبي يضربني؟
وقالت وهيبة بعد أن أخرجت تهويمةً طويلة: أظن علقة الشهر الفائت ما زالت آثارها على جسمك. الخيزرانة يا عم وهات.
وقال عباس متلعثمًا: أنا … أنا.
وسارعت وهيبة: نعم أنت. ألم تكن أنتَ الذي لم تُصَلِّ الفجر حاضرًا، وعلم أبوك وسحب الخيزرانة و…
وقاطعتها ليلى وقد خفق قلبها بالعطف الشديد على عباس: وأين ذهب الشيخ مدبولي يا عباس؟
وقال عباس دون أن يلتفت إلى ليلى: طيب يا وهيبة، يا كذابة.
كان عباس يُحس الطعنة غائرةً في صميم كرامته، ولكن ليلى خفَّفتْ ألمه وهي تسأله في براءة وكأنها لم تسمع قصة ضربه: يا أخي قُل، أين ذهب الشيخ مدبولي؟
والتفت عباس إلى ليلى وكأنما يعود إليها من أعماق سحيقة: من؟ آه الشيخ مدبولي؟
وقالت ليلى: نعم الشيخ مدبولي، أين ذهب؟
– رُفت، لا أرجعه الله.
– رُفت؟
– نعم.
– لماذا؟
وتماوجتْ في عين عباس أضواء من بريق اللذة؛ فإنه يحب أن يُخبرها لماذا رُفت، ويخشى في الوقت ذاته أن يُخبرها؛ يخشى ألَّا تقبل منه هذا الحديث، ويخشى هذه الوهيبة التي تقعد له كالعقلة في الزور، ولكنه لمَّ شتات شجاعته آخر الأمر وقال: يبدو أنه لم يكن قاسيًا قسوةً كافيةً مع تلميذ معيَّن بالذات.
وقالت وهيبة: ماذا؟
وقالت ليلى: لا أفهم شيئًا.
وقال عباس: أتُريدين أن تعرفي؟
– نعم.
– على ألَّا تغضبي؟
وسكتت ليلى، وقالت وهيبة: قل يا عباس، قل والنبي.
وسكت عباس قليلًا وهو يرقب هذه الحمرة التي تزحف على وجه ليلى الأبيض الناصع البياض، وحين أومأت له أن يقول قال: أنا لا شأن لي.
وقالت وهيبة: قل يا عباس، شوقتنا يا أخي!
وقال عباس في سرعةٍ وكأنما يخشى أن تخذله شجاعته فلا يكمل جملته: لقد ضُبط الشيخ وهو يُقبِّل أحد التلاميذ.
واختلط الخجل بالوجوه المتوارية عن ضحك غريرٍ خبيث جاهل لا يخلو من علم، واستقبل جو الغرفة كلمات من الفتاتَين تُحاول أن تكون جادةً فيخذلها صوت من الهزل يكسر عنها حدة الجد. وتبتلع الألفاظ والابتسامة والخجل جميعًا قهقهةٌ عاليةٌ من عباس لهذه الحيرة التي أوقع فيها أخته وابنة خالته.
وقبل أن ينتهي الضحك يدخل لطفي عجِلًا كشأنه حين يزور. واستقبلته وهيبة: أهلًا. أين أنت يا أخي؟ اقعد.
وطالعه من وهيبة هذا الترحيب، وطالعه منها أيضًا وجه وضيء وابتسامة حلوة وجمال لم يلحظه قبل اليوم، ولكنه مع ذلك أصرَّ أن يُظهر تعجُّله وضيقه بمرافقته لأخته، فأطلق جملته التي كان أعدَّها منذ سمع الضحك العالي الذي سمعه على السُّلم أول ما سمع: عظيم يا ستي ليلى! ما دمتِ تضحكين فلن نقوم من هنا في ليلتنا.
واستمرَّ عباس في ضحكه، وسكتتْ ليلى والخجل ما يزال يغشى وجهها.
وقالت وهيبة: يا أخي اقعد، ألَا نراك إلَّا لتنصرف؟ اقعد. لنا زمان لم نرَك.
ووجد لطفي نفسه جالسًا! لماذا؟! إنه لا يدري، إلا أنه أحسَّ شيئًا جديدًا في صوت وهيبة يدعوه إلى الجلوس، وقد استجاب لهذا الجديد وقعد.
وطال الكلام، وراح لطفي يستعرض مهاراته جميعًا، ولكن ما أضأل الفرصة التي يتركها له عباس من الحديث؛ فهو يجتاح المجلس كله بنكاته. وإن ليلى لمستجيبة لهذا الحديث لا تبغي عنه حولًا، ووهيبة جالسة إلى ليلى وعباس فاغرة فاها، فرحة بهذه العوالم الحبيبة التي حرمها منها أبوها، ولطفي تائه في هذه المشاعر المتماوجة بين إقبال ليلى على حديث عباس، وإقبال عباس على الحديث إلى ليلى، وإقبال وهيبة على المتحدِّث والمستمعة جميعًا. تائه هو حائر ضائع في هذا الزحام من الأفكار والخلجات، لا يجد لنفسه مكانًا في المزدحَم الثلاثي الصغير، فما له إذن لا يهيب بأخته أن تقوم وهو من وضع لها الشروط، ويملك في يده السلاح القوي المتمكِّن الذي يستطيع به أن يُقيمها قبل أن يُكمل عباس لفظته التالية.
ما له لا يقوم؟ لقد أصبح لا يدري، أو هو يُخيَّل له أنه يدري، وهو في نفسه عاجب من هذا الذي يدريه ولا يدريه. أي جديدة تراوحه من هذا المجلس الذي تعوَّد أن يضيق به، والذي كان يخلق به أن يضيق منه الآن أكثر من أي وقتٍ مضى؟! ولكن ها هو ذا جالس يلتذ حيرته، لا يأبه بهذا الخذلان الذي يُلاقيه كلما وجد لنفسه ثغرةً لحديث لا تلبث أن تُقفل في وجهه إذا تحدَّث؛ فقد قطع جملته قبل أن تتم، أو تنزل جملته إذا اكتملت في مجال لا يرحب بها. وهو مع هذا مقيم، حائرًا أو غير حائر، داريًا أسباب إقامته أو غير داريها، فهو مقيم، مقيم، حتى يأتي الشيخ سلطان فيُشتِّت الشمل الجميع، وإن كان قد حيَّا ليلى ولطفي في ترحاب وإيناس.