الفصل الخامس
بكرت إيفون إلى المرآة وراحت تتطلَّع إلى وجهها؛ فهي اليوم على موعدٍ مع عباس أن يلتقيا بالعربة، شأنهما كلما جمع عباس أجر الركوب! وراحت إيفون تُمشِّط شعرها في تأمُّل غائب؛ فهي تُجري المشط في اتجاهات مختلفة غير منتظمة. وكلما أفاقت طالعتها المرآة بشعر لا يُرضيها؛ فهي تعود إلى التمشيط واعيةً أول الأمر، ثم ما هي إلا لحظة أو لحظات حتى تعود مرةً أخرى غائبةً غير واعية.
كانت إيفون سمراء سمرةً خفيفة. وكان شعرها أسود داكنًا منسابًا في سيولة وانسكاب. وكانت عيناها أجمل ما في وجهها؛ عينان كبيرتان يتعلَّق بهما سؤال عن مجهول من الأمر، فما كانت إيفون تدري ماذا تُريد أن تعرف، وإنما يحس الناظر إلى عينَيها أنها تسأل عن شيء لا تدريه ولا يدريه أحد. سؤال حائرٌ يبحث عن شيء دون أن يعرف كنه هذا الشيء الذي يبحث عنه. وكانت إيفون دقيقة الجسم، رقيقة الأطراف، سريعة الحركات والأفكار معًا، رشيقةً في حركاتها، حائرةً في فكرتها.
وقد أحبَّت عباس وإن حبها له ليطغى في كل يوم؛ فهو أول من أسمعها هذه اللفظة الساحرة «أحبك»، ولم تُفكِّر يومًا فيما سيُؤدِّي إليه هذا الحب، كل ما تدريه أنها تُحبه وأنه يُحبها، ولا شأن لها بأعقاب هذا الحب أو نتائجه، إنما هي تهفو إلى هذا اللقاء المختلس في العربة، وإلى هذه الكلمات الهامسة التي تُحاول أن تتخفَّى عن أذن عم جبر المتسمِّعة. وهي تفرح بهذا اللقاء وتضيق بانتهائه. وهي تُفكِّر كيف يمكنها أن تُطيل منه؟ لقد طالما سألها عباس وألحَّ في السؤال كيف يستطيع أن يلقاها بغير حذرٍ من جبر، وبغير خوف من شارع المدرسة الذي يتحتَّم عليه أن يتركها قبل أن تبلغ بهما العربة أوله؟ وطالما فكَّرت فكانت تعود من أفكارها بالفشل؛ فكَّرت أن يلتقيا في الحدائق، ولكن كيف تخرج؟ وفكَّرت أن يلتقيا فوق سطح المنزل، ولكن سطح المنزل مكان عام تقصد إليه ساكنات العمارة جميعًا، ولا تنتهي الخادمات عن الذهاب إليه. وفكَّرت وفكَّرت ولكن لم يعُد عليها التفكير بمكانِ واحد موفَّق يُخفيها عن العيون. ولقد كانت تُفكِّر أيضًا وهي تُمشِّط شعرها ولكن هيهات، وفجأةً فُتح باب حجرتها المؤدِّي إلى الشقة، وطالعتها أمها صائحة: ألم تلبسي بعد؟! والمسيحِ الحي إنك لن تفلحي عمرك، ماذا بك؟!
وكانت إيفون قد انتفضت في وقفتها فقد عادت بها أمها والباب الذي فُتح فجأةً إلى ما كانت غائبةً عنه من موعد المدرسة، بل من موعد عباس نفسه. وأفاقت إيفون وهي تقول: حالًا … حالًا يا ماما.
وقالت أمها وهي تخرج وتُغلق الباب من خلفها: أسرعي.
وسارعت إيفون إلى ملابسها فارتدتها، واختطفت حقيبتها، ومدَّت يدها إلى أُكرة الباب المؤدِّي إلى السُّلم تفتحه، وقبل أن ترفع يدها عن الأكرة أومضت في ذهنها فكرة: لماذا لا يأتي عباس إلى حجرتي هذه؟! لا! لا يصح! لماذا لا؟ لقد جعلوا لي هذه الحجرة بعد أن كانت حجرة الاستقبال لأتلقَّى فيها درس اللغة العربية من الشيخ عبد الوهاب؛ فقد كان أبي لا يُريد الشيخَ أن يخترق البيت إلى حجرتي القديمة. كان أبي لا يُريد أمي أن تتحرَّج كلما جاء الشيخ، وتقوم من مكانها لتُخلي له الطريق، فاقترح أن تكون حجرتي هي حجرة الجلوس هذه الواقعة على السُّلم. فما البأس أن أستقبل فيها عباس في الليل بعد أن ينام أبي وتنام أمي؟ ما البأس؟! في حجرة نومي؟ وهل هناك سبيل آخر؟ وما دمتُ ألقاه فما الفارق بين حجرة نومي والعربة أو أي مكان آخر؟ ماذا يقول عباس؟! وماذا تُراه يقول؟ أليس هو من يُلح عليَّ في أن أُهيئ مكانًا ألقاه فيه؟ ماذا تُراه يقول؟ لا بد أنه …
وكانت إيفون قد استقرَّت في العربة، وكان عباس بداخلها، وما أسرع ما قال: صباح الخير. لكَم اشتقتُ لك.
– صحيح؟!
– ألم تشتاقي لي؟
– جايز.
– إذن فأنت لم تشتاقي لي.
– من قال لك؟
– أنت.
– أنا؟!
– ما معنى جايز؟
– وماذا تُريدني أن أقول؟
– مثلما أقول أنا. لكم اشتقتُ لك يا عباس. إنكِ لم تقولي هذا أبدًا.
– وهل لا بد أن أقول حتى تعرف؟
– وكيف أعرف إن لم تقولي؟
– وهل أدري؟
– فكيف أدري أنا؟
– أنا أعرف أنكَ مشتاقٌ لي دون أن تقول.
– فأنتِ أذكى مني.
– لا … ولكن …
– ولكن ماذا؟
– ولكني أراكَ بقلبي.
– فكيف أراكِ أنا؟
– بعينَيك.
– الله يعلم كم أحبك، والله يعلم كيف أراك. إنِّي أراكِ بعينَي وبقلبي وبكل جارحة مني.
– فلماذا تُريدني أن أقول؟ ألم يُخبركَ قلبي؟
– أُريد لأذني أن تستمتع بما يستمتع به قلبي وعيني. قولي، قولي ولو مرةً واحدة، اشتقتُ لك، أو قولي أحبك، أو قولي أي شيء تطرب له أذني مثلما يطرب قلبي عند لقائك.
– كأنكَ سمعت.
ووقفت العربة وارتفع صوت عم جبر: اتفضل يا سي عباس أفندي.
وهمس عباس: ألم تجدي مكانًا؟
واصطنعت إيفون الجهل بالسؤال: مكان؟!
– نعم لنلتقي.
– ها نحن نلتقي.
– إيفون! أرجوك.
وضاق الأسطى جبر بالهمس الذي لا يسمع منه شيئًا فصاح: سي عباس!
فهمست إيفون: تستطيع أن تأتي إلينا في الساعة العاشرة؟
وفاجأَت الجملة عباس فصمت برهة، ثم قال: إليكم! في بيتكم؟!
– حجرة الجلوس القديمة أصبحت حجرتي الآن، ستجد بابها غير مغلق.
– إيفون!
وصاح جبر وقد ازداد ضيقه بهذا الحديث الذي لا يسمع منه شيئًا: سي عباس!
ولم يلتفت عباس إلى جبر بل همس: هل أنت جادةٌ يا إيفون؟
وأومأت إيفون وقد شملت الحمرة وجهها أن نعم.
وهمس عباس مرةً أخرى: أراكِ في العاشرة، العاشرة تمامًا.
ونزل من العربة وهو يقول: مع السلامة.
وساط الأسطى جبر خَيله فاندفعت إلى الطريق، وظلَّ عباس يرنو حائرًا فرحًا إلى العربة حتى أخفاها شارع المدرسة.
همس وهو يدخل: هل ناموا؟
وهمست دون أن تدري لماذا تهمس: نعم.
– فلماذا تهمسين؟
وضحكت وهي تقول: لا أدري، لقيتُك تهمس فهمستُ مثلك.
– أين ينامون؟
– في الناحية الأخرى من البيت. أنت تعرف حجرة أبي، ألَا تذكرها؟
– أنا لم أنسَ شيئًا هنا أبدًا. إذن فهم لن يسمعونا أبدًا.
– أبدًا.
– هل أنتِ خائفة؟
– أخائف أنت؟
– أنا … أبدًا … أبدًا.
– بل أنتَ خائف.
– ألَا يستيقظ أحدهما في المساء؟
– إذا ما دخلا حجرة النوم فإن أحدًا منهما لا يتركها إلا في الصباح.
– إذن فلا داعي للخوف.
– ولكنكَ خائف مع هذا.
– أبدًا.
– ها نحن التقينا على انفراد.
– نعم … نعم.
– هل كان عم الشيخ سلطان صاحيًا حين نزلت؟
– هه، نعم.
– ألم تخَف أن يراك؟
– وماذا لو رآني؟!
– يضربك.
– يضربني؟! يضربني أنا؟! لم يبقَ لي إلا بعض شهور وأُصبح في الجامعة ويضربني!
– ألم يضربك منذ قريبٍ لأنكَ لم تُصَل الفجر حاضرًا؟
وارتسمَت الدهشة على وجه عباس، وصمت، وأحسَّ بالخزي يسري في دمائه جميعًا، وانعقد لسانه، لم يدرِ ماذا يقول. وما لبث إحساس بالغيظ أن ملأ نفسه من أخته وهيبة، ثم ما لبث إحساس بالغيظ أن ملأ نفسه من الصلاة جميعًا، وأقسم في نفسه ألَّا يُصلِّي إلا إذا أجبره أبوه على الصلاة، ثم عاد إلى خزيه مرةً أخرى ووجد نفسه واقفًا إزاء إيفون في أول لقاء لهما بنجوة من العيون والآذان، ثم هو صامت ولكنه مع ذلك لم يجِد شيئًا يقوله. وأدركت إيفون ما يدور فيه من خزيٍ فقالت في بساطة: ماذا؟ هل زعلتَ لأنِّي قلتُ إن أباكَ ضربك؟
وأطرق عباس وهو يقول: لا أبدًا.
– وماذا يُهمك؟ أنا أعرف أنه يضربك كلما قصَّرت في الصلاة، ومع ذلك فأنا …
ورفع لها وجهًا مليئًا بالأمل أن يسمع منها ما لم تقله، وقال في لهفة: هيه.
– هيه ماذا؟
– فأنتِ ماذا؟
– ماذا تُريد أن تسمع؟
– ألَا تعرفين؟
– لا.
– قوليها، قوليها وحياة النبي.
وضحكت إيفون ضحكةً خبيثةً فيستدرك: وحياة … وحياة … وحياتي أنا.
– ماذا تُريدني أن أقول؟
– أحبك.
– وهل تُريد دليلًا؟
– أُريد أن أسمعها.
– أيهما أحسن عندك، أن أدعوك إلى حجرتي هنا، أم أن أقول لك؟
– هيه، قولي.
وهمست إيفون: أحبك.
واغرورقت عينا عباس بالدموع طفرت فجأة، ووجد نفسه وقد انتابه صمتٌ فرحان؛ فقلبه وجيب وعيناه ضياء ووجهه فرحة. أراد أن يقول شيئًا فلم يجد ما يقول، ثم التذَّ هذا الصمت الذي ما زال صدى الكلمة يرنُّ فيه، وكأنما أراد لهذا الصمت المندَّى بما سمع ألَّا يقطعه شيء، وتمنَّى أن يظل فيه لا يخرج منه، وأن يظل هذا الصدى يملأ حوله، كل ما حوله، ويملأ من نفسه كل نفسه، لا يشوبه شيءٌ من حديث يطمس ما أشاعته فيه «أحبك» من نغمٍ كان نشيدته منذ سنوات وسنوات.
وأحسَّت إيفون بالفرحة الكبيرة التي يحياها عباس، ووجدت نفسها تفرح معه فإذا فرحتها ابتسامة عريضة على فمها وهمسة مجنَّحة: استرحت؟
ولم يستطِع عباس أن يُجيب، وإنما كل ما استطاع هو أن يخطف يدها ويهوى عليها ليُقبِّلها في جنون فرحان، وانحنت عليه إيفون تربت كتفه، فرفع عينَيه إليها فوجد نفسه يلقفها بين أحضانه والتقت الشفاه في قبلة طويلة.
وحين أفاقت إيفون من حميَّا القبلة أخجلها أن تُقبِّله مثلما قبَّلها، فقالت في حزم: انزل!
وأطرق عباس بين إحساسٍ هيِّن من الدهشة، وإحساسٍ عميق بالخجل. وعادت إيفون تقول: انزل!
وقال عباس متلعثمًا: ومتى أجيء؟
– لا أدري، إنما يجب أن تنزل الآن.
– أجيء غدًا؟
– لا أدري … أرجوك … أرجوك … انزل.
– أمرك.
وتوجَّه عباس إلى باب الحجرة، وقبل أن يخرج همَّ أن يقول شيئًا، ولكنه عاد إلى طريقه من الباب وخرج.
وما إن أغلق عباس الباب من خلفه حتى ارتمت إيفون على سريرها وراحت تُحدِّق إلى سقف الحجرة مفكرةً في ذهول خجل حيران.