الفصل السادس
كان ليوم الجمعة مراسم جامدة في بيت الشيخ سلطان لم تتغيَّر منذ وعى عباس أمره، ويُخيَّل إليه أنها لن تتغيَّر أبد الدهر؛ فإن الشيخ يستيقظ في الفجر ويُصلِّي الفجر جماعةً يؤمُّ أهل بيته جميعًا، ثم يتناولون فطورهم، ويخرج الشيخ سلطان إلى بيت رضوان أفندي فيصحبه إلى قهوة السيدة، فيظلَّان يلعبان النرد، ويشترك معهما مرقص أفندي. وكان مرقص أفندي إذا لعب يحس رائيه أنه ينظر إلى متعبِّدٍ راكع في معبده المقدَّس، لا شيء يتحرَّك فيه إلا يداه تُلقيان الزهر، وعيناه تتابعان أصابع غريمه. بينما كان رضوان أفندي والشيخ سلطان يزيطان كلما أصابا أملًا في النجاح. وما أسرع ما تجري على لسانيهما «العب سيجه»، «ما لك أنت وهذه المسائل المهمة يا عم مرقص؟»! وفي أغلب المرات يتغلَّب مرقص أفندي على هذا الزائط، ولم يكن مرقص أفندي حينئذٍ يهيج هياجهما ولا هو يسخر، وإنما يكتفي بنظرة لا بد أنه كان يعرف مدى ما تحمله من إيلام. وكان المغلوب منهما يُحس وقع النظرة المخترقة الهازئة فيتمتم: «زهر أعمى ابن كلب.» ولا يكتفي مرقص أفندي بالإخجال الذي ألقى إليه صاحبه، وإنما هو يمد إصبعه السبابة ويُحرِّكها يمنةً ويسرةً يُريد من المغلوب أن يقوم ليحل الآخر محله.
وكانت هذه الحركة الصامتة أشد إيلامًا من النظرة. وكان الشيخ سلطان ورضوان أفندي كلاهما يتقبَّل هذا الذي يحصل لهما في مقابل الزياط الذي يهذران به طوال اللعب. وقد كانت المباراة بين ثلاثتهم يوميةً لا تنقطع، وقد يكون لهم متفرِّجون احترفوا التفرُّج كما احترف الثلاثة اللعب. وقد كان المغلوب يدفع الطلبات، وكان الشيخ سلطان يُناقش نفسه في هذا الدفع: أليس هذا قمارًا؟! وتُجيبه نفسه الغاضبة لأنه دفع: إنه قمار. ولكن ما يلبث أن يتذكَّر الحديث الذي كان يقبل به أن يدفع له: إنما الأعمال بالنيات. وهو حين لعب لم يقصد القمار. كما أنهم الثلاثة أصدقاء، وأي واحد منهم يجوز أن يدفع عن الآخر بلا لعب، وإنما اللعب تسلية.
وتقتنع نفس الشيخ سلطان أنه ليس قمارًا؛ فيهدأ ضميره الديني، وإن كان ضميره المادي الذي يُحاسبه على صرف النقود فيما لا يُفيد يظل ثائرًا غير هادئ.
هكذا كان الحال مع الشيخ سلطان، أمَّا الشأن مع عباس فهو مرتبط بأبيه غاية الارتباط؛ فقد كان أبوه ينتظره في القهوة حتى موعد خطبة الجمعة. وكان عباس يذهب مصطحبًا صديقه الأثير شعبان نوار، وابن خالته لطفي الذي أخذ يُصلِّي منذ أراد من الصلاة أن تُشعره أنه كبيرٌ مثل الكبار، يضع المنديل على رأسه المبلَّل، وينتظم في الصف، له فيه مكان مثل مكان الرجل الكبير، ثم هو بعد ذلك يُؤدِّي من الحركات ما يُؤدُّون. وكان الثلاثة يقصدون إلى القهوة فيكون مجيئهم إيذانًا للشيخ سلطان ورضوان أفندي أن يُؤجِّلا العشرة مع مرقص أفندي إلى وقتٍ آخر.
وقد كانت وظيفة الشيخ سلطان في الوعظ والإرشاد، وقدمه في هذه الوظيفة، تجعل الأئمة في المساجد يتنحَّون عن منابرهم ليُلقي هو الخطبة. وقد كان فرحًا غاية الفرح بما يُتاح له من هذا التنحي، لم يُقلِّل من هذا الفرح تكرار السنوات بعد السنوات، ولم تنَل الفرحة ما تنال العادة وقدمها من كل فرحة فرحان. ولم ينسَ الشيخ سلطان في مرة من المرات أن يسأل ابنه وهو يلبس الحذاء خارجًا من الجامع: هيه يا عباس، ما رأيك؟
وكان عباس في أول الجمع التي سمع فيها أباه يتدفَّق بالمديح له، وكان مؤمنًا بما يقول فرحًا به، ثم أصبح يتدفَّق بالمديح منافقًا في بعضه صادقًا في بعضٍ منه آخر، ثم صار يتدفَّق به نفاقًا جميعًا، ثم ضاق بالتدفُّق فصار يقصر مديحه على كلمتَين أو ثلاث أصبحت واحدة، ثم صار يُدغمها فلا يسمعها أبوه وإنما يستنتجها. ولم تخفَ على الأب هذه التطوُّرات التي مرَّ بها مديح ابنه لخطبته، لكنه مع ذلك لم يُعفِ ابنه من السؤال، أو يُعفِ أذنه من تلمُّس هذه الكلمة المبهمة التي تنفرج عنها شفتا ابنه دون أسنانه.
أمَّا رضوان أفندي فقد كان في كل جمعة يمدح عديله بنفس الهمة التي سمعه بها عباس أول ما سمعه، لم يفتُر يومًا، ولم ينقص كيل مديحة شيئًا، هو هو منذ وعى عباس الصلاة. وقد كان عباس يعجب، كيف؟ والخطبة واحدة من عشر أو واحدة من عشرين لم يزِد عليها شيئًا منذ سمعها في الجمعات الأولى حتى هذه الجمعة التي يُشرف على بواكيرها.
استيقظ عباس في الفجرِ مرغمًا على ذلك إرغامًا، ووجد نفسَه يذهب ليتوضأ، وأحسَّ كأنه آلة، ثم وجد نفسَه واقفًا في الصفِّ خلفَ أبيه. وبدأت مراسمُ الصلاة، ومرةً أخرى أحسَّ أنه يتحرَّك حركاتٍ آلية. قرأ القرآن فوجده في فمه ولم يُحسَّ به في قلبه. وكان يُطرق بعينَيه إلى الأرض، ولكنه لم يكن يُحسُّ الخشوع. وانتهت الصلاة، وعاد إلى حجرته، وراح يُصلح الراديو الذي أحضره إليه صديقه شعبان. كان يفك المسامير ويربطها ممسكًا في يده بالمفك، وأحسَّ أن الصلة بينه وبين المسامير وبين قِطع الراديو التي يُصلحها قوية؛ فهو فرح أنه يلف المفك في يده فيربط المسمار، ويُمسك السلكَين ويلف أحدهما بالآخر فيرتبطان، وأنه يفتح زرًّا فيُوقد مصباحًا. أحسَّ وهو يقوم بهذه العمليات جميعًا أنه فرحان يستطيع أن يُسيطر على هذه الآلة التي يُصلحها، وأن يفعل بها ما يشاء. وأحسَّ في الوقت ذاته أنه في بعض الأحيان يكون مثل هذه الآلة التي بين يدَيه، غير أنه أحسَّ أيضًا أن اليد التي تتولى الفكَّ فيه والتركيب، لا تُصلحه، وإن كانت تظن أنها تُصلحه. داخله شعور أن هذه اليد تزيد نفسه تخريبًا وهدمًا وتدميرًا.
وحاول أن ينفض عن نفسه هذا الشعور ولكنه لم يستطع. وجاء نداء أبيه من البهو فوجد نفسه يقول في سرعة: حاضر.
ثم وجد نفسه يقوم إلى أبيه. وكانت مائدة الفطار معدةً فجلس إليها. وانتهى الطعام فقال أبوه وهو يفتح الباب الخارجي: لا تتأخَّر.
– حاضر.
ونزل أبوه وعاد هو إلى حجرته، ووضع ملابسه ومكث ينتظر صديقه شعبان، وما لبث الصديق أن جاء، ونزلا معًا وراحا يضربان في الطرقات الضيقة حتى بلغا حارة البابلي، وهناك رأى الصديقان أطفالًا يقفون أمام قراجوز وقد فغرت أفواههم لا ينطقون إلا بالضحك، وشخوص القراجوز منهمكةٌ في تمثيلها. ووقف عباس وشعبان، وحاول شعبان أن يسخر من هذا الذي يسرُّ الأطفال، ولكن عباس لم يستجِب لسخرية صديقه، بل ظل واجمًا. لقد أحسَّ أنه مثل هذه الدمى التي تتحرَّك، ووجد نفسه دون أن يُفكِّر يُحرِّك يدَيه في حركات كثيرة متباينة، يُريد الوثوق أن الخيوط التي تُحرِّك الدمى لا تمسك خيوطٌ مثلها بأذرعه ويدَيه، ولكن حركاته لم تستطع أن تُقنعه أنه حر.
وحاول أن ينفي عن ذهنه هذه الخواطر فخذله تفكيره، والتفت إلى شعبان فجأةً وقال له: سلام عليكم.
والتفت عنه وسار، وقال شعبان في دهشة: ماذا؟
ولم يُجب عباس، وعاد شعبان يقول في صوتٍ مرتفع: أين ستصلي الجمعة؟
وقال وهو سائر دون أن يقف: لن أصلي.
وعلا صوت شعبان: وماذا أقول لأبيك؟
ووقف عباس فجأة، ثم تابع مسيره دون أن يتكلَّم، وراح شعبان يُنادي في إلحاح فلم يلتفت إليه، حتى إذا يئس صديقه من عودته أخذ يضرب كفًّا بكفٍّ وهو يقول: لا بد أنه جُنَّ.
سار عباس دون أن يختار طريقًا، وراح يُسرع الخطو أحيانًا، ثم يعود فيتمهَّل محاولًا دائمًا أن يُؤكِّد لنفسه أنه يستطيع أن يسير بالسرعة التي يُريدها لنفسه، وأنه ليس دمية، لن يصلي الجمعة، وأنه حر، حر، حر!
ولم يخلُ طريق اختاره من جامع والناس تدخله أفواجًا، فكان يعرج عن الطريق إلى آخر، حتى يعترضه جامع آخر، لم يستطِع أن يهرب من الجوامع أبدًا. وأخيرًا علا صوت الأذان «الله أكبر». وأحسَّ لها صدًى عميقًا في نفسه؛ ما هذا الوجيب الذي يستقبل به الأذان؟ لماذا؟ ألأنه يُحس أن هذا الأذان قد شقَّ السنين، يُسلمه جيل إلى جيل، لم يهُن ولم يضعف على مدى الآلاف من الأيام، وما زال نديًّا جديدًا فيه حلاوة الشباب وجلال المشيب؟ ما هذا الرنين الذي يُحسه وهو يسمع «الله أكبر»؟ ألأنه أكبر فعلًا؟ وإن لم يكن فمن أكبر؟ ومرةً أخرى راح يُسرع الخطو محاولًا أن يبتعد عن الأذان، ولكن صوت الأذان ظلَّ يُلاحقه ويُلاحقه، يزداد كلما ابتعد عن المئذنة.
وبلغ شارع الترام فعَلا صوت الترام في أذنه حتى طغى على النداء الذي يُلاحقه، وحين خُيِّل إليه أنه تخلَّص من صوت الأذان وقف أمام الترام وراح يتطلَّع إليه في إعجاب.
عاد الشيخ إلى البيت ثائرًا ثورةً جامحة، ولقيتْه زوجته زكية، وراحت تُحاول تهدئته ولكن كيف له أن يهدأ؟! حتى عباس، أمَا يكفيه هؤلاء الناس جميعًا يخرجون عن الدين ولا يحتفون بأوامره ونواهيه حتى يفجعه ابنه، فلذة كبده؟! ابنه الوحيد لا يُصلِّي الجمعة! ويا ليته كان مريضًا إذن لهان الخطب! ولكن ابنه غير مريض، بل ها هو ذا حتى لم يعُد إلى البيت. أيكون قد أصابه حادث؟ لا؛ فلو كان لقصد إليه شعبان في القهوة وعرف النبأ في حينه. هو المروق والعصيان لا شيء آخر. إذن فالويل له ثم الويل! أيظن أن ذهابه إلى الجامعة مُعفيه من العقاب؟ إن حق الله فوق كل شيء. وهل الجامعة تُبعده عن يد الأبوة؟ ليعلمن أي جرم ارتكب، وليذوقن ويلًا وثبورًا.
ولم يطُل انتظار الشيخ وإن خُيِّل إليه أنه طال، وعاد عباس، ولقيه أبوه وقد اختلط احمرار وجهه باحمرار عينَيه، وذهب به إلى حجرته، وأغلقها بالمفتاح وعاجله: أين كنت؟!
– لم … لم أكن.
– لماذا لم تأتِ إلى الجامع؟
وصمت عباس وقال أبوه محنقًا: انطق.
– كنت … كنت …
– انطق … أين كنت؟
– كنت أسير في الطرقات.
– ماذا؟!
– أردتُ أن أسير في الطرقات.
– أردتَ ماذا؟!
– أليس هذا من حقِّي؟
– وحق الله يا كافر يا ملعون!
– لا بد أن أكون مقتنعًا بالصلاة حتى أُصلِّي.
– مقتنعًا؟!
– نعم، أليست الحرية هي أهم شيء في الوجود؟!
– فأنت غير مقتنع بالصلاة؟
– لا.
– أنا أُقنعك.
وقام الشيخ سلطان إلى عصاه وانهال على فتاه في عنفٍ مغيظ، ولكنه رأى عجبًا. كان الفتى إذا ما تعرَّض للعصا راح يذود عن نفسه بذراعَيه، ويتوسَّل إلى الكراسي والأثاث أن يحميه، ولكن عباس في هذه المرة ظلَّ واقفًا مكانه لم يتحرَّك، وترك العصا تنزل على كل مكان فيه وكأنما هي تضرب شيئًا لا أثر فيه من الحياة. وانتبه الشيخ إلى جمود ولده، فجمدت العصا في يده، وراح يحملق في عباس حائرًا بين الدهشة والغيظ. وقال عباس في جموده لا يزال: أتُريد شيئًا آخر يا أبي؟
وقال الشيخ سلطان في ثورة مشوبة بالدهش: اخرج، اخرج ولا ترني وجهك. اخرج يا كافر. اخرج، اخرج.
وظلَّ يُكرِّر الكلمة لم يسكت عنها حتى بعد أن غادر عباس الحجرة، وأغلق الباب من خلفه.