الكون لا حدَّ له في زمان ولا مكان ولا قوة، والإنسان محدود في زمانه ومكانه وقوته؛
أيامه
معدودة وحواسه مقيدة، ومداركه على قدر أيامه وحواسه، والعلاقة بين هذين الكونين: الكبير
الذي لا نهاية له والصغير المحدود في كل جهة من جهاته هي الدين. فما دام الإنسان يشعر
بقوة
أكبر من قوته المخذولة ولا يشعر بها على تمامها، وما دام يدرك أبدية الزمان والمكان التي
يغرق فيها وجوده الضيق ولا يدركها على جليَّتها، وما دام هو أكبر من أن يجهل علاقة ما
بينه
وبين هذا الكون، وأصغر من أن يعلم كل علاقة، فهو مؤمن متدين عَلِمَ ذلك أو لم يعلم:
ظهر الدين في كل أمة وفي كل قبيلة كما ظهر الطعام؛ لأن النفس تطلب الإيمان كما يطلب
الجسد
الغذاء، فاتخذ الناس في الهمجية وفي المدنية أربابًا ومعبودات جسَّموا فيها شعورهم المبهم
باللانهاية، وتمثلوا فيها القوة التي لم يستطيعوا أن يجهلوها ولا يستطيعون أن يعلموها،
وبَنَوا الهياكل على الأرض فكان كل هيكل وضعوه لأربابهم تمثالًا صغيرًا للكون الكبير،
تدخله
فتبادرك روعته كما تبادرك روعة العظيم وأنت واقف أمام تمثاله. وقد حذق أجدادنا وسابقونا
في
وادي النيل صناعة هذه التماثيل: تماثيل الكون، فرفعوها ضخمة مكينة ترى في ضخامتها معنى
الخلود، وغشَّوا باطنها بالظلام الدامس فعكسوا على جدرانها ظلام الغيب المجهول، وأحاطوها
بالرموز والأسرار، فقال قوم: ذلك علم لا نعلمه، وقال آخرون: بل مفاتيح لما تحتها من
الكنوز!
ولا عجب! أليس في الناس اليوم من يحسب أن رموز الكون الكبير وأسراره إن هي إلا آلات
لاختراع البواخر والطواحين وقنص الدراهم والدنانير؟ أليس منا من يزعم أنه ذلل نواميس
الطبيعة وقبض على مقاليد الخليقة لأنه يدير للريح شراعه ويجر النور إلى أسلاكه؟! فما
الفرق
إذن بين هؤلاء الفلاسفة الأعلام وبين الزارع المصري الجاهل المسكين؟ الفرق بينهما أن
هذا
الزارع يُصغِر من قدر هيكل لا يجلُّه لأنه لم يؤمن به، ولكنه يؤمن بهيكل آخر يجلُّه ويخشع
له، وأما هؤلاء الفلاسفة فيُصغِرون من قدر الكون وليس لهم كون آخر يجلُّونه ويخشعون بين
يديه!
يقول العلم الحديث: «قد عرفتُ أسرار الحياة وكشفت حجب الغيب التي خنع لها الهمج
الأغبياء.» فليسمع أولئك الأغبياء في قبورهم وليحذروا أن يضحكوا! العلم الحديث قد علم
في
مائة سنة أسرار الأبد والأزل! اسمعوا أيها الأغبياء في قبوركم وإياكم أن تضحكوا، بروتس
يقول
ذلك، وبروتس كما تعرفون رجل صادق مجيد.
ويقول العلماء: «لا تؤمنوا بعد اليوم بشيء، فقد عرفتم كيف كان القدماء يؤمنون بالباطل.
أَمَا كانوا يؤمنون بالأشجار والأنهار والقطط والثيران والخنافس؟!» فمتى يقول لنا العلماء:
«لا تأكلوا بعد اليوم، فقد رأيتم كيف كان القدماء يأكل بعضهم بعضًا، وكيف كانوا يزدردون
اللحوم النيئة وأوراق الشجر الخضراء!» إنهم لن يقولوا ذلك لأن المعدة تعرِّفهم كيف يشعرون
بها إذا تجاهلوها، ولكن أي شيء يجعل قلوبهم تشعر بنفسها إذا كانت لا تشعر؟
وليس المتدينون الساخرون بأديان القدماء بأقل حمقًا وجهلًا من الكافرين الساخرين بالأديان
جمعاء؛ فإننا لنجد في بعض أديان الأقدمين حكمة نتفقَّدها في كثير من الأديان الحديثة
فلا
نجدها؛ لأن أديان الأقدمين نشأت قبل أن تصبح الأخلاق المتخيرة علمًا يدور على المباحث
الذهنية والفلسفة الكلامية، فاستحبوا من الأخلاق والعادات ما هو مستحب بالفطرة، ولم يشغلوا
أذهانهم بالتماس وجوه الخطأ فيما نبذوه من هذه الأخلاق والعادات. وأذكر أنني ذهبت مرة
إلى
هيكل «أنس الوجود» ومعي رجل تربى تربية دينية ولكنه يجهل حكمة دينه، فسأل عن صورة بطليموس
وهو يجلد أعداءه، فلما أجبته قال: أَمَا كان أولى بهياكل العبادة أن تُنزَّه عن مثل هذه
الصورة؟ قلت: ولِمَ؟ أكنت تريده على أن يعبد ربًّا لا يُرضيه أن ينتصر على أعدائه؟ إن
مشيئة
الوجود تقضي بأن تتغلب طائفة من الناس على طائفة، فأي عجب في أن يُسَرَّ المتغلبون بغلبهم
أو يشكروا عليه ربهم الذي يُمثلون فيه تلك المشيئة؟ وإذا هم لم يشكروه في المعبد فأين
يشكرونه؟ على أنه لا يتفق أن يعتقد الإنسان جد الاعتقاد أنه على الحق والصواب ثم يعتقد
أن
انتصاره على أعدائه ظلم لا يرضي ربه، فلا بد من إحدى اثنتين: إما عقيدة وعصبية، أو لا
عقيدة
ولا عصبية، والأمم الحية لا تتردد في الاختيار بين هاتين الحالتين، وهذا ما أردته
بقولي:
لا تعبدنَّ إذا أردت سيادة
ربًّا يعين الصيد والأنذالا
•••
دار البطالسة الكرام جلالًا
زالوا وهذا مجدهم ما زالا
هاتي امنحينا من خلودِك نفحة
فنقول فيك من الخلود مقالا
واستفتحي باب الرموز تمدنا
بالسحر لفظًا صادقًا وخيالا
إني وقفت لديك أرفع أخمصي
حذرًا وأخفض ناظري إجلالا
فحنيت رأسًا في وصيدك
١ ما انحنى
من قبلُ إلا للإله تعالى
وذكرت قومًا فيك لم يتهيبوا
إلا عروشًا ضخمة وظلالا
والغيب أحلكُ من ظلالك ظلمةً
أبدًا، وأبعد من ذَراكِ منالا
خلعوا — ولا عجبٌ — عليك سماته
أولست أنت للغزه تمثالا؟
لو لم يرعنا للمهيمن هيكل
باقٍ يُجدُّ بقاؤه الأحوالا
أخفى سرائره وأطلع فوقه
نورًا يزيد التائهين ضلالا
ما شيَّد البانون ركن عبادة
كلا ولا شدوا إليه رحالا
الدين باقٍ ما جهلنا سره
ولنبقينَّ بسره جُهالا
•••
عفَت المناسك في ذراك فجددي
نُسُكًا من الشعر الشريف حلالا
قد كنتِ بالوحي الكريم كريمة
حتى بخلتِ فما أجبت سؤالا
إلا رسومًا في الرسوم نواطقًا
بالنصر أبلج والفتوح توالى
رُفعتْ لبطليموس يبسط فوقها
كفًّا تحوك من الرءوس حبالا
٢
يطأ الملوك كأنما تيجانها
أرض وما يخشى لها زلزالا
وترى الجموع وهم ركوع تحته
قَصُروا من الخوف الذريع وطالا
شأن الأنام قديمهم وحديثهم
من عز فيهم بالسيادة صالا
•••
يا دار بطليموس حسبك رفعةً
وصيانة بين البنَى وجمالا
حرص الزمان عليك وهو موكَّل
بالشامخات يحيلها أطلالا
أبقاك في فك الزمان مصونة
جيلان يبنيك الملوك وِصالا
٤
لم يبصروا بك موضعًا لزيادة
إلا وزادوه علا وكمالا
غدروا ذوي القربى ودكوا دورهم
وتلاحقوا عمًّا إليك وخالا
واستنزلوا الأرباب فيك ليشهدوا
بين العباد تواثبًا ونزالا!
وضعوك أم رفعوك لما صوروا
فيك السلاح أسنة ونبالا
وتقحَّموا الحرم الجليل أم ابتغوا
زلفى لديه وقوة ونوالا؟
ضل الذين تطاولوا فتوهموا
أن الأوائل دونهم أفعالا
حسبوا المعابد أرضها وسماءها
كونين عن حكم الطبيعة حالا
٥
هبطت من الملأ العلي فأصبحت
فيها الذئاب الضاريات سخالا
ننسى العداوة والصداقة والهوى
فيها وننسى الخوف والآمالا
كذبوا فما تغني الأنام عبادةٌ
تذر القلوب فوارغًا أغفالا
لا ربَّ إلا من يمالئ شعبه
عند الكريهة إن جفا أو مالا
لا تعبدنَّ إذا أردت سيادة
ربًّا يعين الصيد والأنذالا
واعبد إلهًا يصطفيك بعونه
ويذيق خصمك ذلة ونكالا
من ظن أن ولاته كعِداته
عند الإله، فكيف يسعد حالا؟
•••
الناس يغتال القوي ضعيفهم
والدهر يغتال الفتى المغتالا
قهار كل القاهرين تقاصرت
عنه مكائد من طغى واحتالا
ذهبوا فما هوت الكواكب بعدهم
أسفًا وما نقص الثرى مثقالا
ملكَ الفراعنةُ الحماة وخلَّفوا
للملك أعلامًا بمصر طوالا
وخلا الأكاسرة البغاة كأنهم
عبروا بمدرجة الزمان رمالا
ومضى البطالسة الكماة وهذه
مصر يزيد شبابها إقبالا
تتقوض الأوطان وهي كدأبها
من عهد نوح تربة ورجالا
عهدٌ على الله القدير وذمة
ألا تُضيم لها الكوارث آلا
فتجنبوا فيها القنوط وأجزلوا
قسط البنين معارفًا وخصالا
إنا لنرجوها ونوقن أنه
ما كان يومًا لا يكون محالا
وستستقل فلا تقولوا إنها
صمد الهوان بها فلا استقلالا
بعد عام
كاد يمضي العام يا حلو التثني
أو تولَّى
ما اقتربنا منك إلا بالتمني
ليس إلا
•••
مذ عرفناك عرفنا كل حسن
وعذابِ
لهب في القلب، فردوس لعيني
في اقترابي
•••
غير أنا لا نرى الفردوس إلا
رسمَ راسمْ
وشربنا من جحيم الحب مُهلا
شرب هائم
•••
لا تلمني أن قلبي خانني
أو عشقتُكْ
لم يكن منِّي إلا أنني
قد رأيتُكْ
•••
كان في الدنيا جمال لا يُعَد
ثم لُحتا
فعددنا الحسن طرًّا فهو فرد
وهو أنتا
•••
أين حسنٌ كان يجلوه النهار
هل لبستَهْ؟
هل ورثت الصبح والصبح مُنار
أم قتلتَهْ؟
•••
تتهادى ويح قلبي في خطاك
لستَ تدري
لستَ تدري أي نار إذ أراك
ضِمنَ صدري
•••
ضاحكًا يفترُّ نور البشر عنكا
كيف تعلمْ
أن قلبًا دون قيد الرمح منكا
قد تحطمْ؟
•••
زده داءً لا شفى الله جواه
كم أساء
من دعاه للتصابي مَن دعاه؟
زده داء!
•••
أو فحسب القلب ما طمَّ وأربى
لا تُبِده
قد دعاه الله للحب فلبَّى
لا تزده
•••
نحن قوم يا حبيبي قد خلقنا
للجمالِ
إن أجاد الله في الخلق أجدنا
في المقالِ
•••
صاغنا الله لشدو وغناء
حيث كنا
ونهانا عن جمود وجفاء
فانتهينا
•••
قال غنوا وصفوا خلقي البديعْ
في القصيدِ
واطلبوا أجركم عند الربيع
والخدودِ
•••
ليس يُعلي آيَ فني غيركم
حين تعلو
شكرها منكم ومنها شكركم
ذاك عدل
•••
ما لكم أجر من الدنيا سواه
فاغنموه
يا ذوي الحسن بذا أوصى الإله
فاسمعوه
•••
قد وفَيْنَا دَيْنَنا فأوفوا الديونا
هل رضيتم؟
وشدونا فتعالوا أسعدونا
لا شقيتم
•••
ما أتم العيش لو تصفو القوافي
والغرامُ
شاعر يشدو ومحبوب يوافي
والسلامُ
الوقار المستعار
أتعبت نفسك بالوقار فأقصرِ
والعب كما لعب الصبا وتأطَّر
٦
يغنيك حسنٌ أنت لابس تاجه
عن هيبة السفاح والإسكندر
ما لي أراك وقد علمتك لاهيًا
حيران تخطر خطرة المتفكر؟
يعلوك من سِيَم الجلال مهابة
كالظبي يمرح في إهاب القَسْوَرِ
٧
جِدٌّ حديثك أم لعلك عابث
تلهو بتمثيل الأناة وتزدري
وإذا الفتى جهل الهموم فؤادُه
حسب الهموم ملاحة في المنظر
ارحم مجالسكَ الذي ألبسته
ثوب الوجوم لديك لبس المجبَر
هبه اقتدى بك في الوجوم فمن له
بالحسن فيك سَفَرْتَ أم لم تسفر
أو غاض ماء البشر منه فمن له
بمَعين بشر في الصبا متفجر
ظلمًا تحيل على معارف وجهه
مسخ التقبض فوق مسخ مُنكَر
عجبًا لمحسود الرشاقة حاسد
صرعى الخطوب على رزانة مُوقر
حببت لي الأحزان لما صغتها
حليًا على هذا الجبين النيِّر
فدع التجارب فحمها وغبارها
لذوي مناجمها وفُزْ بالجوهر
واخدع جليسك بالقطوب فإنني
أنا لا أُغر بضاحك متنكر
هيهات توليك الطبيعة مسحة
مما تروم من الوقار المفتري
أنتم مباسمها وفيكم تنجلي
للناس ضاحكة كأن لم تكدُرِ
ما للطبيعة حين يضحك ثغرها
ضحك سوى الوجه الصبوح المزهر
ومن العجائب أن يقطِّب عابسًا
ضحك، ويُظلم كوكب لم يستر
قل للملاحة تدعي ما تدعي
إلا الوقار، فذاك غير ميَسَّر
الشيب الباكر
ما أقبل الليل حتى طرتَ بالقمم
يا صبح جرت على الظلماء في القِسَم
وما انقضى شفق الأيام من عمري
فكيف لحت بفجر منك متهم؟
لو كنت تحسب أيامي لما خطرت
يداك يا شيبُ في مسودة اللمم
١٣
دون الثلاثين تعروني وما انصرمت
إلا كما تنقضي الأعوام في الحلم؟
مرت بقادمتي نسر موليةً
وكنت أعهد فيها ثِقلة الرخم
وما اعتدادُك بالأيام تحسبها
وإنما أنت خدن الويل والألم
إذا ألمَّا بإنسان صحبتهما
فانزل فقد نزلا في أعظمي ودمي
ما أنت طارق دار لا رفيق بها
ولستَ مُهرِم قلب ليس بالهرم
قد شبتُ والشعر مسودٌّ فما عجبي
من واضح الشيب بعد الشيب في القتَمِ
ما كان مسودٌّ شعري وهو مشتمل
عليك إلا كجلباب من الكتم
١٤
قل لابن تسعين لا تحزن فذا رجل
دون الثلاثين قد ساواك في الهرم
إذا ادَّكرت شبابًا في النعيم مضى
لم يدَّكر من شباب كان أو نِعم
وما انتفاعي وقد شاب الفؤاد سدى
أنْ لم تشِب أبدًا كفي ولا قدمي
وليس ما يخدع الفتيان يخدعني
كلا ولا شيم الفتيان من شيمي
يا شيب ضاقت بك الدنيا بأجمعها
فانزِل بلا ضائقٍ بالشيب أو برم
١٥
من لا يبالي أَفَخْرٌ أنت تنذره
بالصبح أم أنت ضوء النجم في الظلم
يا مرحبًا بصباح ليس يسلبني
صفوًا، وبُعدًا لليل فيه لم أنمِ