يقول بعض الفلاسفة: إن المادة ليست بذات وجود حقيقي، وإن العالم لا أثر له في الخارج،
وإنما هو وهم معكوس عن حس الإنسان وتصوره، وهذا لعمري إغراق في التجريد يقرب من الجنون.
ولكن مما لا ريب فيه أن للعالم في كل ذهن صورة تختلف عن صورته في سائر الأذهان، فليس
في هذه
الأمم رجلان يريانه على مثال فرد، وقد ترى الرجلين يجلسان في حجرة واحدة أحدهما يود لو
يبخع
نفسه لقبح الدنيا في عينيه، والثاني يود لو يعمر أبد الأبيد ليشتفَّ جمالها وبهجتها.
فهل
يقال في هذين إن عالمهما واحد؟ فمن هنا ساغ لنا أن نقول إن العالم تموت نسخة منه كلما
مات
إنسان، أو إن العالم كله يموت في النفس الخامدة الشقية، إذ كان لا يغني عن الإنسان شيئًا
بقاء العالم للناس إذا مات عالمه الذي يراه في خواطره وأحلامه، كذلك تعرض لنفس الإنسان
في
الحياة غمات تشوه صورة الدنيا عنده أو تكاد تقتلها، فيحق له أن يرثيها رثاءه الميت المفقود،
وهو لا يرثي في الحقيقة إلا نفسه التي فقدت لذة الشعور بجمال الحياة وحياة الدنيا
فيه:
أحبك حب الشمس فهي مضيئة
وأنت مضيء بالجمال منير
أحبك حب الزهر فالزهر ناضر
وأنت كما شاء الشباب نضير
أحبك حبي للحياة فإنها
شعور، وكم في القرب منك شعور
فهل في ابتغائي الشمس والزهر سبَّةٌ
وهل في ولوعي بالحياة نكير
وهل في الهوى معنى سوى أن مقلتي
تراك، وأن الحسن فيك طرير
١
وأنك تسبي الناظرين وأنني
بإحباب سابي الناظرين جدير
ألا لا تدعنا نلحظ الحسن أو أجِزْ
لنا الحب، فاللحظ اليسير يجور
وما من سبيل أن تراه عيوننا
وتُغمض عنه أنفس وصدور
فأمَّا وإعشاء النواظر مطلب
عسير، وقد يهوى الجمال ضرير
فدع ما يقول الناس واعلم بأننا
على غير ما سار الأنام نسير
لنا عالم طلق وللناس عالم
رهين بأغلال الظنون أسير
ووا أسفًا! ما أنت إلا نظيرهم
وإن لم يكن للحسن فيك نظير
وحاكيتهم ظنًّا، فليتك مثلهم
محيًا فلا يأسى عليك ضمير
ويا عجبًا منا نسائل أنفسًا
إذا سئلت حارت، وليس تُحير
٢
أنشقى بدنيانا لأن منعَّمًا
من الناس بسام الثُّغير غرير
أيذوي الصبا فينا لأنك ناشئ
ربيع الصبا في وجنتيه غضير
أتعشى مآقينا لأنك أحورٌ
بعينيه من ومض الملاحة نور
ألا نتملى
٣ الحسنَ والحسنُ جمة
مطالعه إلا وأنت سمير
فيا ضيعة الدنيا إذا لم يكن بها
غنًى عنك للمحزون حين يثور
ويا ضيعة النفس التي لا يجيرها
من البث والشكوى سواك مجير
إذا الشمس غابت لا نبالي غيابها
وإن غبتَ آض العيش وهو كدور
وليتك مثلُ الشمس ما فيك مطمع
فيهدأ قلب بالضلال نفور
قربت ولم يخطئ عطاش تلهفوا
على جدول في السمع منه خرير
وسرت على الأرض التي أنا سائر
عليها، ولم تُضرب عليك ستور
فلو لم نولِّ القلب شطرك لامنا
على الجهل كون بالجمال فخور
لديك مقاليد السرور وديعة
وما لمحب في سواك سرور
فإن تأذن الدنيا أباحت شوارها
٤
وغنت عصافير وفاح عبير
وإلا فما في الأرض حظ لناظر
ولا النجم في عُليا السماء يدور
فيا خازن الأفراح ما لقلوبنا
خواء وأفراح الحياة كثير
وما لك ضنَّانًا بما لو بذلته
لما ضاع منه بالعطاء نقير
تضن بشيء لست تعلم قدره
ونعلم ما نسخو به ونُعير
نجود بحبَّات القلوب وبالنهى
وليس لنا في النائلين شكور
وما الشيء مزهودًا وإن جل قدره
لدى الناس كالمطلوب وهو يسير
•••
عذيري وهل للناقمين عذير
وأين لمخذول الفؤاد نصير!
لقد ماتت الدنيا وقِدْمًا رأيتها
عروسًا حفا فيها عرائس حور
نعم ماتت الدنيا بنفسي ومن يعش
وقد ماتت الدنيا، فأين يصير؟
وأحنو على الدنيا ويا ربما حنَت
على الميِّت الثاوي بهنَّ قبور
بكائي عليها يوم أن كان أُفقها
وكانت يتيه اللب كيف بناؤها
فأمست يتيه اللب كيف تبور!
فما كان أسناها مدارة أنجم
ومنبت ريحان يكاد ينير
وأخصبَ مرعى اللهو في جنباتها
وما من جَنى إلا مُنًى وغرور
نعم ماتت الدنيا بنفسي فهل لها
بعطفك من بعد الممات نشور
فأحيِ بإحيائي فديتك عالمًا
عييت بحَمْلِه، فأنت قدير
ولا تسألنِّي: كيف أحييك؟ هازلًا
فأنت بإحياء النفوس خبير
ففي كل نفس عالم يرهب الردى
ومن كل حسن حين يَعْطِف صور
لك الحسن فامنعه ولكنَّ من يغُل
من الناس دنياهم فذاك مغير