عن عالم محمد جبريل
إدوار الخراط
من العلامات الفارقة للكاتب الحقيقي الموهوب أن يكون له عالمه الخاص، أن تكون له رؤاه المتفردة لهذا العالم.
محمد جبريل كاتب حقيقي موهوب.
عالمه يقع في إسكندرية الشمال الغربي، إسكندرية بحري والأنفوشي والسيالة ورأس التين وحلقة السمك، إسكندرية الصيادين والمراكبية، ليسوا فقط صيادي السمك أو مراكبية البحر، هم أيضًا وربما أساسًا صيادو الأقدار المتقلبة، مراكبية الرحلات المضطربة، ساجية أو جياشة، عبر شواطئ العمر وعبر سنوات الغربة والحنين.
نصوصه دائمًا نقلة متصلة إلى الشاطئ الآخر (ذلك عنوان إحدى رواياته الجميلة) لكن الشاطئ الآخر — كما أصبحنا نتوقع — ليس «جغرافيًّا» فحسب، هو شاطئ روحي آخر، أو شاطئُ رؤًى أخرى، تصل إليه — أو لا تصل — مراكب الحياة بين المد والجزر، على أمواج القُربَى العائلية أو قُربَى المشارب والمنازع والأهواء، تخوض إليه غمرات الخصومات والخلافات، أو تطفو على مُوَيجات التراحُم والحب المترقرقة.
ومن ثَم فإن من التيمات — أو الموضوعات الأساسية في عمله الروائي — تيمة الموت مرتبطًا بالشغف بالحياة وموصولًا بمُتعاتها، ترقُّب الموت، وترصُّده، أو اللامبالاة بانقضاضه، تيمة تسري في سردية محمد جبريل، أو تستبطن هذه السردية، سافرة حينًا ومضمرة حينًا، ولكنها ماثلة باستمرار، تستدعي تيمة لصيقة بها بل تكاد تكون مترادفة معها، هي تيمة الشيخوخة والوهن وتقاعس البدن المتهاوي الذي تحركه شهوات قديمة مُؤَرَّثة.
يقول بطل «حكايات الفصول الأربعة» بعد أن كتم ضحكة قصيرة: «أشعر أني شابٌّ لكنَّ حركةَ جسدي لا تُساعدُني على هذا الشعور.»
لعل موضوعةَ الشيخوخة، الموتَ التدريجيَّ للقدرات البدنية، صراعَ الجسدِ مع الموت الذي يؤذن بالمجيء، مما يشغلُ الكاتبَ في مجمل عمله الروائي، وخاصةً في هذه الرواية، لعل في عنوانها وحده — «حكايات الفصول الأربعة» — ما يشير إلى هذه الموضوعة، ليست تلك فقط فصول السنة الأربعة، بل هي أساسًا فصول العمر الأربعة، ليست، فقط، فصولًا تمر بها سنوات بطل أو شخص واحد — في غمار الرواية — بل هي أيضًا موزعة على شخوص الرواية بحذق وذكاء سردي ملحوظ، من ربيع الصبا، وعنفوان صيف العمر إلى خريف التهاوي والإيذان بالسقوط، ومنه إلى الشتاء الموحش القاحل.
تقلبات هذه الفصول تدور في إسكندرية محمد جبريل النصية التي تُخايل بواقعية تكاد تُشفي على الطبوغرافية الدقيقة، لكنها تجيش بحياةٍ تتجاوز مجرد محاكاة «الواقع» الظاهري، ذلك أن للكاتب ولعًا مشبوبًا بالأماكن، وأوصافها، وتحديدها وابتعاث أجوائها: القهوة التجارية، قهوة فرنسا، مقهى إيليت أو التريانون، أُتينيوس، فضلًا عن معالم إسكندرية الشمال الغربي، وهو ولع يُضفِي على هذه «الأماكن» حياة كأنها مستمدة من حياة أبطال أو شخوص العمل الروائي، ولعلها من وَهَج حياة الكاتب الروحية نفسها، وليس ذلك بالغريب عند معظم الروائيين الحقيقيين، إذ تتناوب عندهم وتكاد تندمج أماكن الروح بأماكن الواقع، وهو عند محمد جبريل شغف يكاد أن يكون فيتيشيًّا بتسمية الشوارع والمقاهي والجوامع والزوايا، ويكاد أن يقتصر على إسكندريته تلك، هي إسكندريةٌ قريبة إلى حدٍّ ما من إسكندرية الراحل صالح مرسي، على اختلاف الرؤى والموضوعات بينهما اختلافًا جذريًّا، ومختلفة أيضًا جد الاختلاف عن إسكندريتي، مثلًا إسكندرية الجنوب وراغب باشا وغيط العنب بالقرب من المَلَّاحة وترعة المحمودية (التي لم تأتِ سيرتها قط في عمله كله إن لم يخطئني الحصر والتقصِّي) حتى لو كان للبحر حضور ماثل بل مسيطر في كتابتي، وهي أيضًا تختلف بالتأكيد عن كاتب أراه من أكثر كتَّاب الإسكندرية موهبةً، هو حافظ رجب، إذ تقع إسكندريته الفانتازية في سرة المدينة، محطة الرمل حيث يجري الترام في رأس الرجل وحيث يشغل اليونانيون مكانًا روائيًّا لا يكاد يعرفه يونانيُّو محمد جبريل الذين لعلهم ينتمون إلى حقبة زمانية أحدث من الحقبة «الكوزموبوليتانية-الشعبية» التي عاش فيها «الإجريج» عند حافظ رجب، هم قريبون بشكل ما من جريج قسطنطين كافافي.
لا أحتاج أن أقول إن إسكندريةَ محمد جبريل أوقع وأقرب إلى صورة الإسكندرية البحرية المثلى من إسكندريةِ كاتبٍ مثل إبراهيم عبد المجيد، التي تكاد تقتصر، من حيث الموقع المكاني، ومن ثَم الموقع الروائي، على صحرائها الغربية المُفضِية إلى خط سكةِ حديدِ العلمين ومرسى مطروح. وهذا الجانب «الصحراوي» الأصيل من جوانب الإسكندرية، لم يهتم به — في حدود علمي — إلا كاتب إسكندراني آخر، هو أونجاريتي الإيطالي الذي عاش في محرم بك حتى العشرين من عمره (لعلَّني — أيضًا — قد عُنِيت بهذا الجانب الصحراوي من الإسكندرية.)
ولعل محمد جبريل لم يُعنَ كثيرًا — أو إطلاقًا — بهذا الجانب، فهل ثَم معنًى لاختياره «البحر»، أي الانفتاح على الآخر، وعلى الشاطئ الآخر؟ أم أن في إضفاء دلالة إثنوجرافية — وربما أيديولوجية — على «البحر» باعتباره الأفق الشمالي المفتوح على العالم الأوروبي، وعلى الرمال الصحراوية باعتبارها المعنى البدوي المنبثق من الخصوصية العربية المعلقة على ذاتها، ربما، من الشطح التأويلي ما لعله ينأى به عن المصداقية؟
هذه، على أي حال، أسئلة خصيبة (فيما أظن) تثيرها رواية «حكايات الفصول الأربعة» من بين ما تثيره من أسئلة.
تيمة الشيخوخة والموت لا تُضفي على عمل محمد جبريل الروائي قتامةً أو جهامةً عابسة، في مفرداته وفي رؤاه قدر من الرشاقة والسلاسة ينأى بها عن التشاؤم أو العدمية، على العكس، فإن اهتمام الكاتب بالقضايا ذات الشأن العام، من قبيل المسائل والأحداث والآراء السياسية، أو المشكلات والمجادلات الدينية، يُكسِب عملَه الروائي حَيوية، ومعاصرة، وراهنية مشغولة بالهموم والشئون العامة:
إن أحد أبطاله «يأخذ على المصريين أنهم يمتلكون موهبة صنع الطغاة. يحولون البشر العاديين إلى آلهة معصومة من الخطأ، ومحصَّنين ضد الحساب حتى لو كان إلهيًّا، يفدونهم بالروح والدم ويحسنون التغني بمآثرهم والتطبيل لإنجازاتهم ويحرقون البخور لذكراهم.»
(وبالمناسبة، فإن المصريين لا يجعلون من الساسة والزعماء، وحدهم، طغاةً، أو أشباه آلهة، بل هم يُحوِّلون مَن يسمونهم الرموز في الحياة الثقافية والعلمية أيضًا، إلى أشباه آلهة معصومين لا يجوز المساس بذواتهم العَلِيَّة.)
اهتمام النص عند محمد جبريل بالشئون العامة لا يقتصر على المسائل السياسية بل ينصبُّ كذلك على المسائل الدينية:
«الإسلام لا يعرف رجال الدين، مَن جعلوا الدين مِهنتهم، إنه يعرف العلماء والمجتهدين.»
قد يبدو هذا الاهتمام جانبيًّا، أو هامشيًّا، تتناوله حوارات عابرة، أقدر أنه اهتمام أساسي، يأتي بحذق ملحوظ، على هيئة إشارات سريعة في الحوار أو في السرد سواء، ضربات خفيفة ولكنها نافذة، موجزة ولكنها قاطعة، فهذه هي — في تقديري — تقنية رئيسية في عمله الروائي.
من الموضوعات التي يتناولها محمد جبريل مرة بعد مرة في عمله الروائي موضوعة الفجوة بين الأجيال.
النزعة نحو الرحيل، ليس فقط من شاطئ إلى شاطئ آخر، ليس فقط من عالم إلى عالم آخر (من الإسكندرية إلى اليونان مثلًا) بل هي أيضًا وربما أساسًا نزعة إلى الرحيل من جيل إلى جيل، ومن هموم مرحلة معنية من العمر إلى هموم مرحلة أخرى، تلك من «حكايات الفصول الأربعة»، هذه النزعة لا تتحقق فقط بركوب البحر، بل هو ركوب موج السنوات المضطرب المتلاطم.
لعل محمد جبريل من أبرع روائِيِّي ما بعد نجيب محفوظ، مع فرادة لغته ونعومة انسياب صياغاته، والصياغة بداهة لا تنفصل عن الرؤية ولا عن الموضوعة.
ذلك أن لغة محمد جبريل في إيجازها واقتصارها ونفاذها تتساوق مع رؤيته لعالمه الإسكندراني والنفسي أو الروحي على السواء؛ فهي رؤية ناصعة مضيئة ليس فيها تدفق هادر ولا صخب التزاحم، لا نكاد نقع عنده على محاولة للغوص في أغوار — وأكدار — الحياة الحلمية أو اضطراب ما تحت الوعي، لغته ورؤاه معًا صاحية صحو سماء الإسكندرية (عندما تصحو سماؤها وهو ما يحدث في أغلب الأحوال.)
وعندي أن الإيقاع الموسيقي في هذه اللغة — وهو إيقاع ملموس — ينبُع من تناغُم وتناسُق (لعله تنغيم أو تنسيق متدبر مقصود، أو لعله مُلهَم وعفوي، أو هُمَا معًا) في تسلسل السرد وتبادل الحوار والنأي عن محسنات — أحيانًا ضرورات — الاستعارة والكناية وكثافة اللغة، لغته مثل موضوعاته، صافية واضحة وسائغة السلاسة، بقدر ما هي ممتعة وشائقة.