وُجُوهٌ
ذو الوجهين منافق، وذو الوجه الواحد ميت!
يعيب الإنسان أن يصنع له نفسًا غير نفسه ووجهًا غير وجهه، وأن يبدو للناس بوجهين يلعن أحدهما الآخر، ويعلم أنهما — كليهما — ملعونان.
ولا يعيبه أن يكون له مائة وجه ينم كل منها على سمةٍ من سماته ومعنى من معانيه، ويعرض لنا من ذهنه وسليقته وقلبه في ساعةٍ ما ليس يعرضه في ساعةٍ أخرى؛ لأن كل وجه من هذه الوجوه حق وليس بكذب، وجوهر وليس بطلاء، وصفحة من كتابٍ لا تتم قراءته إلا باستعراض جميع الصفحات.
ذو الوجهين في كل وجهٍ من وجهيه كذب وطلاء.
وذو الوجوه المنوعة السمات، المعددة الملامح، المفرقة المعاني، راوية صادق الخبر يرينا كل يومٍ بينةً جديدةً على صدقه، ولونًا جديدًا من تمامه ونقصه، ونفسًا جديدةً في تعبيرٍ جديدٍ.
والرجل الذي لا تختلف له صورة من صورة ولا تمثال من تمثال هو جماد يختلس عنوان الحياة.
والوجه الذي يصوره مائة مصور فيخرجون جميعًا بطابعٍ واحدٍ لا يتبدل هو جدار في هيئة إنسان، ولكنه جدار لا تختلف عليه الظلال والألوان.
لنابليون بونابرت مئات من الصور الشمسية والزيتية، ولا نذكر إلا صورة واحدة لنا حين نبصرها لأول وهلة، هذا وجه إيطالي لا مراء …! فلولا أننا نعلم أن نابليون إيطالي من شعبةٍ إيطاليةٍ لقلنا إن الصورة كاذبة، أو أن فراستنا هي التي كذبتنا ما رأيناه، ولكننا نعلم أنه إيطالي من شعبةٍ إيطاليةٍ؛ فالصورة إذن أصدق من جميع الصور التي خفيت فيها ملامحه الإيطالية ولم تبرز لنا البروز.
وجمال الدين الأفغاني يختلف المترجمون فيه؛ هل هو من الفُرس أو من الأفغان؟ ولكن صورة من صوره التي ترتسم فيها عيناه القلقتان الوامضتان وصدغاه الناتئان وشفتاه العصبيتان تفض الجدال وتقول فيه أصدق مقال؛ إن هذا الوجه لأفغانيٍّ ولو وُلِدَ في البلاد الفارسية، وإنه لأفغانيٍّ ولو نمَّاه إليهم قومٌ من الفرس، ونفاه عنهم قومٌ من الأفغان.
وليس منا إلا مَن يعرف صاحبًا يحاول أن يخفي بعض مثالبه أو بعض سيئاته ثم يلتقطه المصور التقاطًا فإذا هو حاسر الطبيعة بغير نقابٍ، على كرهٍ منه وعلى كرهٍ من المصور، ولعله هو نفسه يرى الصورة فلا يفطن لما كشفت من أمره؛ لأنه يفهم إفشاء الكلام ولا يفهم إفشاء السمات والقسمات.
وليس من اللازم اللازب أن يطول الزمن بين الصورتين المختلفتين للوجه الواحد، فإني لأذكر أني رأيتُ صورًا ثلاثًا لطفلٍ واحدٍ في السنة الأولى من عمره أُخِذَت في ساعةٍ واحدةٍ في مكانٍ واحدٍ تذكارًا ليوم ميلاده، ترى إحداها فلا تملك أن تقول: ما أشبه هذا الطفل بأبيه، وترى الثانية فلا تملك أن تقول: ما أشبه هذا الطفل بأمه، وترى الثالثة فتستطيع أن تقول إنه ليشبه أمه كما تستطيع أن تقول إنه ليشبه أباه.
ويصدق هذا على كبار السن كما يصدق على صغارها، فلا يندر أن يلتفت الإنسان التفاتةً خاطفةً على غير قصدٍ منه أمام المرآة فيلوح له شبه من عمومته أو شبه من خئولته لَمْ يكن قبل ذلك يلمحه في صفحة وجهه، وقد تنصرم السنون ولا يلمحه مرةً أخرى إلا في مثل تلك اللفتة الخاطفة.
وأعرف أبًا مشهورًا له خمسة من الأبناء الذكور يجلس كلٌّ منهم إلى جانبه فلا تخفى المشابهة بينهما أقل خفاء، ولا يحتاج الناظر إلى فراسة ثاقبة ليعلم من فوره أنهما ابن وأبوه، ثم يجتمع الإخوة الخمسة فلا يبدو بينهم هذا التشابه إلا بفراسة المتأمل، لتقارب الأصل وفروعه وتباعد الفروع متفرقات.
ومما لا ريب فيه أن سمات الأخلاق والأفهام شيء يستكن في النفس قبل أن يبدو على أسارير الوجوه، وأنها شيء لا يزول من النفس وإن زال أثره الظاهر في بعض الأحيان، وأنه على قدر معاني النفس يكون تعدد الملامح وتعدد الوجوه، وعلى قدر تعدد الوجوه يكون الأنس بالمنظر المتجدد والمحضر المتعدد، ويقل السأم ويعظم الشوق والنشاط إلى اللقاء.
وسارة كانت من ذوات الملامح والوجوه اللواتي لا يطالعنك بمنظرٍ واحدٍ في محضرين متواليين، تراها مرة فأنت مع طفلة لاهية تفتح عينيها البريئتين في دهشة الطفولة وسذاجة الفطرة بغير كلفة ولا رياء، وتراها بعد حينٍ — وقد تراها في يومها — فأنت مع عجوز ماكرة أفنت حياتها في مراس كيد النساء ودهاء الرجال، وتضحك ضحكةً فتعرض لك وجهًا لا يصلح لغير الشهوات، وضحكةً أخرى — وقد تكون على إثر الأولى — فذاك عقلٌ يضحك ولُبٌّ يسخر، كما تسخر عقول الفلاسفة وألباب الشيوخ المحنكين.
هي تارة أم رءوم تفيض بحنان الأمهات حتى ليوشك أن تسع به أطفال العالمين، وحسبك أن ترسمها هكذا ولا تضع في أحضانها طفلًا يرضع ولا إلى جانبها طفلًا يدرج، لتستحق الصورة عنوان الأمومة.
وهي تارة أخرى شريدة بوهيمية لَمْ تستقر قط في دارٍ ولا وطنٍ، وما استقرت قط مع عشيق.
لها صورة إلى جانب سرير لو نحيت عنها السرير جانبًا لمثلت لك راهبة خاشعة تهم بالصلاة، أو ضحية من ضحايا الآلهة تُسَاق إلى محراب القربان.
ولها صورة على سفح الهرم لو أخفيت منها الهرم لخلتها حورية مخمورة في أرض يونان القديمة تهم بالرقص في كروم باخوس.
وكان همام يراقب هذه الشخوص ويتصفح هذه الوجوه وهو مغتبط تارةً ومشفق تارةً أخرى، ويعزو تقلبها واطرادها إلى الفتوة الحية التي لَمْ تُحبَس في محابس الأفكار والعادات والتقاليد، فهي أبدًا في أيدي العواطف والنوازع كعجينة الخلق المهيأة للصوغ والتركيب في كل ساعة.
وخطر له أن يُنشِئ حولها رواية مسرحية هي جميع أبطالها، وهي البطل الوحيد فيها، تدور محاوراتها على المثال الآتي:
ثم يتقاربن ويتلاحمن ويتسربن كلهن في شخصٍ واحدٍ، يبقى على المسرح في ثياب الشرطة! ويصيح: أين المشاجرة وأين المتشاجرات …؟
•••
وقد تلا همام على سارة هذا الفُصَيل الصغير فاستملحت الفكرة وصفقت لها طويلًا.
قال همام: كفاية، لقد ظفرنا بتصفيق الممثلة الوحيدة للرواية.
•••
ولم تكن هي في بادئ الأمر تفطن لهذا الذي يلاحظه همام من غرائب شخصها وطرائف ملامحها، إنما كانت تعرف كيف تبدي بضاضتها في الثياب البيضاء، وكيف تخيل لك النحافة في الثياب الدكناء أو السوداء، وكيف تصفف طرتها بما يظهر من وجهها سمات الطفولة، وكيف تصففها بما يكشف منها جانب الذكاء ويزين القسمات بإشراف جبينها الوضاء، وتلك صناعة تحذقها كل امرأة تلتفت إلى محاسنها وتسمع رأي الرجال والنساء فيما يعجبهم من مرآها، لكنها لَمْ تكن تلتفت إلى ما وراء ذلك من تقلب المعاني وتعدد الشخوص.
فإنهما لفي يومٍ رائقٍ صافٍ جميل الأصيل وهمام يتأمل وجهها الذي تُبدل الأشعة والظلال من معانيه كل لحظة، وتبدل العواطف والخلجات من ملامحه كل فترة، إذا به يهتف فجأة بكلمات لا مقدمة لها ولا سابقة لتفسيرها.
– كم لكِ من وجوهٍ يا سارة؟
فانتفضت في ذراعه، وحسبت أنها مقدمة لاتهام وملاحاة، وهما يستمرآن نعيم ذلك اليوم الرائق الصافي الجميل، وقالت: ماذا تعني؟
قال: هدئي من روعكِ، إنما ثناءٌ أردتُ لا ملامة، وأخذ يشرح لها ما يعنيه كأنه يحدثها عن امرأةٍ غائبةٍ أو عن شخصٍ من شخوص الروايات، وهي تصغي إليه، ثم مستريحة، ثم مبتسمة ثم طروبًا متهللة، وهو يرى فيما يرى مصداق ما يلاحظه عليها ويحدثها عنه، حتى كان ختام الحديث اقتراب الشفاه بداهةً وطواعيةً، ثم نكتة من نكاتها التي لا تخذلها في أمثال هذه المواقف، ألقتها إليه وهي تتناءى عنه مرحة ضاحكة: احمد ربك، عندك من سارة المظلومة حريم كامل، فلا تشكر نفسك كثيرًا على الوفاء.