لِماذا أشكُّ فيهَا؟
اثنان لا يشكان في المرأة التي يحبانها، وباب الشك فيها مغلق عندهما: شابُّ في مقتبل أيامه، مخدوع في أحلامه، مؤمن بقداسة الحبيبة على منوال عصور الفروسية يرتفع بها إلى سماء الطهر، ويكبرها أن تخون ويكبر نفسه في الحقيقة أن يُخَان، ويسمع منها أنها تمحضه الحب وتخلص له الولاء، فلا يدور بخلده أنه يسمع كلامًا يحتمل الصدق والكذب، ويجوز فيه الغلو والتزويق، ويتعاهدان على دوام الصفاء بقية العمر كله فلا يخيل إليه أنهما يتعاهدان على مستحيل؛ لأنه يتمنى، ولا يفرق بين ما سيكون وبين ما يتمنى أن يكون.
والآخر رجل مطموس البصيرة مملوء الخياشيم بالغرور والدعوى، يؤتى إليه أنه حَسْب المرأة من أمنيةٍ ومطمعٍ، فلا منصرف لها عنه، ولا معدى لها إلى غيره، وإلا فماذا عساها أن تبغي عند غيره؟ إنه رضى النساء من جمالٍ واعتدالٍ وقوةٍ ومالٍ، فإذا قنعت به فما هي بمظلومة، وإن تقنع به إنها إذن لظالمة!
حسنٌ، ولكن ألَّا يحدث في الدنيا أن تكون المرأة ظالمة؟
كلا؛ لأن ذلك لا يسرُّه! وكفى ألَّا يسرَّه شيء من الأشياء حتى لا يكون ولا يجوز أن يكون!
ولم يكن همام بهذا ولا بذاك.
لَمْ يكن شابًّا في مقتبل أيامه؛ لأنه جاوز الثلاثين وأوشك أن يصعد إلى الأربعين.
ولم يكن مخدوعًا بهذا الضرب من الغرور؛ لأنه موكول إلى ضروبٍ من غرور النفوس، مطبوع على أن لا يعلق قيمته في معارض الفخر والمباهاة على رأي إنسان من النساء، أو من الرجال.
وكان قد خبر من أحوال المرأة والرجل ما أقنعه أن الخيانة بينهما ليست من الصعوبة والامتناع بحيث يتوهمان، فما من رجلٍ كبر أو صغر إلا والمرأة واجدة بديلًا منه يغنيها عنه في جميع نواحيه أو بعض نواحيه. إن كان محبوبًا ففي الرجال مَن هو أَحَبُّ، وإن كان مهيبًا ففي الرجال مَن هو أهيب، وإن كان جميلًا أو سريًّا أو قويًّا ففي الرجال مَن هو أجمل وأسرى وأقوى، ولقد تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فليس من الضروري أن تفاضل المرأة بين الحسن والصالح والأصلح، وليس من الضروري — إن هي فاضلت — أن تكون مختارة مفتوحة العينين فيما تدع وفيما تأخذ، فقد تكون مخدوعة مسوقة ثم تستنيم إلى الخديعة، وقد تؤثر الرجل على الرجل شهوة طريق، كما يذهب الإنسان إلى غدائه فيلقاه مطعم يفعم أنفه ببعض روائحه، فيميل إليه وقد يعافه في غير تلك الساعة.
وكان همام يعتقد أن الغش عند المرأة كالعظمة عند فصائل الكلاب، يعضضها الكلب المدلل ويدخرها حيث يعود إليها وإن شبع جوفه من اللبن واللحم والأغذية المشتهاة؛ لأن ألوفًا من السنين قد ربت أسنانه وفكَّيه على قضم العظام وعرقها، فهو يطلبها ليجهد أسنانه وفكَّيه في القضم والعرق ولو لَمْ تكن به حاجة إلى أكلها.
وألوف من السنين قد غبرت على المرأة وهي تخاف وتحتال وتراوغ وترائي وتلعب بمواطن الضعف في الرجل، حتى أصبح بعض النساء ممَّن قويت فيهن عناصر الوراثة وبرزت في طباعهن عقابيل الرجعة ينشدن الغش التذاذًا به وشحذًا للأسنان القديمة التي نبتت عليه. ويسرُّهن أن يصنعن الشيء ويخفينه ولو لَمْ تكن بهن حاجة إلى صنعه ولا اخفائه؛ لأن المرأة من هؤلاء تشتهي العظمة بجوع عشرين ألف سنة، وتشتهي اللحم واللبن بجوع ساعات.
ولقد عرف همام سارة، فلماذا لا يعرفها غيره؟ ولِمَ يصعب عليه أن ينال عطفها، فلماذا يصعب على غيره أن يناله؟
إنه لَمْ يكن يستبعد الغش والخيانة، وليس بين الشيء الذي لا يستبعد والشيء الذي يُتوقع إلا خطوة وعلامة محسوسة، على أن الإنسان قد يتوقع الغش لفرط إشفاقه من الفقد والخسارة لا لفرط اتهامه وسوء ظنه.
فالخزانة التي تتركها فارغة هي بعينها الخزانة التي تملؤها بالذهب والفضة والجواهر الثمينة، لكنك تخشى على متانتها وهي حافلة عامرة ولا تخشى على متانتها وهي فارغة منسية.
وربما خرج الرجل الواحد من المنزل تنتظره فيه أم حنون وزوجة قالية، فإذا تأخر عن موعد الإياب فأول ما يخطر على بال الأم أن ابنها قد أصابه مكروه، وأول ما يخطر على بال الزوجة أن زوجها يعبث ويعربد، ولا يمكن أن يكون الرجل الواحد رجلين في الرشد والحصافة والقدرة على دفع الأخطار، وإنما اختلف التوقع باختلاف الشعور والخشية، فتتوقع الأم المكروه؛ لأنها تخشى المكروه ولا تبالي سواه، وتتوقع الزوجة العربدة؛ لأنها تخشى العربدة ولا تبالي سواها، ولا يسوءها أن يُصَاب زوجها البغيض كما يسوءها أن يصيبها في غيرتها وكرامتها الزوجية.
لهذا أصبح همام يحذر الخيانة حين أصبحت هذه الخيانة شيئًا يهمه ويشغل باله، ولم يتأهب لنفيها كما تأهب لقبولها، ولم يكبح خواطره عن التمادي في الظلم؛ لأنه علم أن ضمان العدل موجود لا يغفل! وضمان العدل أن سارة عزيزة عليه، فما هو بمستعد للتفريط فيها تجنيًا عليها ومطاوعةً لوهمٍ عارضٍ أو شبهةٍ طفيفةٍ، وما هو بقادرٍ على التفريط إلا وقد أصبح وأمسى وليس له عن التفريط محيد.
•••
خذوا أسرارهم من صغارهم … وسرُّ «سارة» إنما طرق مسامع همام — أول ما طرقها — من لسان طفلها الصغير.
كانا يتنزهان يومًا في أرباض القاهرة ومعها طفلها الصغير، فلعب الطفل ومرح وعدا وطفر ما شاء له من مرح الطفولة ومرح المكان … ثم اتجه — طفرة أيضًا — نحو أمه وهو لا يدري ماذا يصنع، فاتخذ منها موقف العاشق المدله وجعل يفوه بألفاظٍ من عبارت المناجاة والغزل والتحبب والتدليل لا تُسمَع إلا بين عاشقين في خلوة غرام، وانطلق يرصها رصًّا كأنما يتلقاها من ملقنٍ أو يتلوها من كتابٍ، فصحا همام من حلمه الذي كان سادرًا فيه على مهلٍ وتكاسلٍ كأنه لَمْ يتبين بعدُ معنى ما يسمع، وأسرعت هي فانتهرت الطفل انتهارًا شديدًا وعنَّفت عليه وهي تبالغ في نهيه أن يسترسل في تمثيل دوره، وأرادت أن توقع في روع همام بغير اكتراثٍ ظاهرٍ أنها إنما تزجر الطفل لبذاءة الكلام الذي يسرده لا لأنها تكتم سرًّا يوشك أن يفضحه بثرثرته وهذره، فقالت: تلك مصيبة العشرة السيئة والقدوة المرذولة … ما أدري والله ماذا صنع بهذا الطفل في سنه الصغيرة؛ فلا هو يصلح للمدرسة ولا هو يطيق الحبس والعزلة عن أنداده وأترابه، ولا هو يسلم من معاشرة الأنداد والأتراب.
قال همام: ولكنكِ تعرفين أنداده وأترابه، فمَن منهم تحسبينه خليقًا أن يعيد على مسمعه تلك العبارات؟
قالت: ومن أين لي أن أعلم؟ فقد يسمعونه من خادمةٍ أو خادمٍ في أكنان الحدائق وزوايا الطريق.
قال: أوَهذا كلام خدم؟ إن الخدم لا يصطنعون التدليل والغزل على هذا المنوال.
فسكتت وسكت، وما في ذهنه ذرة من الشك في أن بعضًا من ذلك الكلام الذي لغط به الطفل قد صدر من أمه … لأنه كلامها، فكيف تسرَّب إليه؟ ومن أين؟
إن همامًا ليذكر جد الذكر أنهما لا يتخاطبان في محضر الطفل إلا كما يتخاطب الرجل والمرأة في المجلس المشهود، وليس لسارة زوج يعيش معها، وليس من عادة الأزواج مع هذا أن يتغازلوا على هذا المنوال بمسمع الأطفال الصغار، فمن أين تسربت إليه المناجاة بطرفيها؟ من أين؟ نعم، من أين؟!
واقترنت تلك الظاهرة في حينها بظواهر مريبة مثلها … ﻓ «ماريانا» التي كانت لا تؤتمن على سر المعرفة بينهما ما بالها اليوم قد أصبحت مأمونة الجانب مغشية الدار حتى لا حذر من التواعد لديها على غير ضرورة؟ وتلك الزينة المعهودة بعطرها وشياتها ما بال سارة تحتفل بها في غير أيامها؟ ونوازع الغرائز التي لا سلطان عليها للمرأة ما بالها تتبدل؟ ووسائل الحيطة الخفية ما بالها تتعدد؟ وذلك التلطف المريب تلطف الآثم الذي يمسح حوبته بفرط المجاملة ويكفر عن خيانته الباطنة بفرط المصالحة الظاهرة، ماذا وراءها وماذا في أطوائها؟
علامات وقرائن لا يأخذ بها القاضي في قضائه بالإدانة، ولكنها كافية للتشكيك في خلوص النية.
والقضاء بعدُ مطالب بإقناع غيره محظور عليه أن يكتفي بإقناع نفسه … أما الرجل الذي ينشد الطمأنينة مع المرأة فلمَن يحكم إن لَمْ يحكم لنفسه؟ وبأي اقتناعٍ يدين إن لَمْ يَدِن باقتناعه؟
وراء الأكمة ما وراءها … تلك حقيقة لا ريب فيها، ولكن ماذا وراءها؟ قد يجهل الرجل ذلك على التحقيق والتفصيل، ولكن ألا يكفي أن تكون هناك أكمة وأن يكون هناك شيء مجهول وراءها ليقوم الحائل بين القلبين، ويكدر الجو بين الصَّفيَّيْن؟
وجائزٌ عند همام أن تنصرف سارة إلى غيره، ولكن ليس بالجائز أن تستغفله؛ لأنها تتوهم في دهائها القدرة على الجمع بينه وبين غيره!
جائزٌ أن يكون هو وهي ألعوبة واحدة في يد الطبيعة التي تسوقه وتسوقها، ولكن ليس بالجائز أن يكون هو ألعوبة في يدها وأن تكون هي اللاعبه بلُبِّه وولائه!
وقد نصب لقلبها الميزان الذي نصبه لقلبه في السر والعلانية، وأخذ عليها شبهات كثيرة ولم تأخذ عليه شبهة واحدة، واتهمها فلم يشاهد عليها عذاب المرأة التي تفجع في حب تقابله بحب مثله، بل كان كل ما شاهده عليها مجال المتهم الذي يجهد في تفنيد تهمة، ويود لو فاز بالغلبة ووقع على الأدلة الدامغة.
هل ظلمها؟
يجوز …!
وكلما أعاد همام هذا السؤال، وأعاد معه هذا الجواب لمس به أغوار فتنتها، واعتقد أنه يخدع عقله باختياره، ويساعدها على تضليل حسه ورأيه، وأنه لَمْ يظلمها ولا افترى عليها! ولولا ذلك لقد كانت شبهة أهون من هاتيك الشبهات كافية كل الكفاية للبت في أمرها وطي السؤال والجواب عنها.
وخير له أن يفارقها بغير جريرة قادرًا على آلام فراقها، صائمًا عن مسراتها، من أن يعاشرها عاجزًا عن فراقها، باذلًا كل ما عنده من اهتمام، مستحقًّا كل ما عندها من احتقار واستغفال.
لقد سلبته الطمأنينة وكفى!