جَلاءُ الحقيقَة
انتهت مهمتي!
إي نعم، انتهت المهمة، وبطلت الرقابة، واستراح الرقيب!
وكان «أمين» موفقًا في هذه المرة كل التوفيق؛ لأنه زوَّد همامًا بالحُجَّة القاطعة التي يواجه بها غوايته ويُقمِع بها نكسات ضعفه، كلما ساوره الندم وعزَّت عليه السلوى.
ولم تأتِ هذه الحُجَّة إلا بعد استئناف الرقابة بزمنٍ غير قصير، وجهدٍ غير قليل.
ولكن علامَ الرقابة بعد القطيعة؟ ألم ينحسم كل ما بين ذلك الرجل وتلك المرأة من علاقةٍ؟ ألم يقصر همام عن ذكر سارة ووفاء سارة وخداع سارة؟ ألم يعول كل التعويل على أن يظن أسوأ الظنون ويفرض أشنع الفروض، ويوطِّن عزيمته على خيانتها ولا يغالط وهمه في شأنها ولو تفتحت له أبواب المغالطة؟
بلى، كان ذلك!
غير أنها كانت أحلامًا، ولم تصح الأحلام إلا بضعة أيام، وقد صحت الأحلام في الأيام الأولى بعد القطيعة، حتى ظن همام أنه قد سلا، واستقر على السلوى، فما يبالي بعدها مَن خان ووفى ومَن ضلَّ وغوى.
على أنها كانت راحة موقوتة أشبه براحة اللديغ حين ينقلب من جنبٍ إلى جنبٍ، وما به من نومٍ ولا غفوةٍ على هذا الجنب ولا على ذاك.
ثم خرج همام من هذه الراحة الموقوتة إلى شيء آخرٍ، إلى شيء غير الراحة وغير السلوى، إلى الشعور القاصم بالفراغ، وبالحرج والضيق ونفاد الحيلة كلها في ذلك الفراغ.
كل حاسة من حواسه فقدت شيئًا، وكل لحظة من لحظاته فقدت شيئًا، وكل مكانٍ يغشاه فقد شيئًا، وكل سرورٍ من مسرَّاته أو كل ألمٍ من آلامه فقد معناه وغايته ولبابه، وماذا عوضها جميعًا؟ … عوضها نقيضها الذي يلغيها عنها، فإما غمٌّ محبوس كظيم، وإما حيرة عمياء ليس لها اتجاه، وإما سكون موحش بعد حركةٍ وجيعةٍ، وكل أولئك في فراغٍ فارعٍ لا مبدأ له ولا نهاية ولا مهرب فيه ولا قرار.
خوى الجحيم الحي وهبط في مكانه الزمهرير الميت، وبئس هذا الموت وبئست تلك الحياة.
زمهرير لا يعيش فيه الأحياء، ولكنما هو زمهرير خاص للتعذيب لا لمأرب غير التعذيب، فلهذا يعيش فيه مَن يعيش من الأحياء!
وجرب السلوى، وما خامره الشك في أنها علاج مطلوب، وأنها علاج مستطاع.
ولِمَ لا يكون مستطاعًا أن يسلو الرجل امرأةً بامرأةٍ مثلها أو أفضل منها؟ ألا يسلو الجائع عن صفحةٍ من الطعام بصفحةٍ مثلها أو أشهى منها؟ فلماذا يعيبه أن يسلو عن المرأة بغيرها من بنات حواء؟
ونسي همام أنه ليس بجائعٍ وإنما هو عليل مسلوب الاشتهاء … فمن حاجته قبل أن ينظر في انتقاء طعامه أن يعيد ذوقه إلى اعتداله، وأن يجد هذه اللذة فيما يشتهيه، ويستوي عنده قبل ذلك أطيب الطعام وأخبث الطعام، كما يستوي الأكل والصيام.
بل نسي أن الرجل حين يحب المرأة فإنما يريدها ولا يريد ما هو أجمل منها، وإنما يحسها ويحس بها؛ لأنها هي هي لا لأنها امرأة لا فارق بينها وبين سائر النساء.
وكالنظارة التي تجلو العين؛ لأنها نظارتها تكون المعشوقة للعاشق الذي عاشرها وأَلِف محاسنها وعيوبها، وتمثل كل صفةٍ من صفاتها كأنها شخص مستقل «مخصوص» لا مشابهة بينه وبين الصفات عامة، فلا النظارة التي هي أبعد أمدًا وأنفس زجاجًا تغني العين التي تنظر بما دونها، ولا المرأة التي هي أجمل طلعة وأكرم سليقة تغني القلب الذي تعوَّد أن يخفق لها أو يخفق معها.
لا، بل تكون التسلية هنا أحجى بأن تنكأ الجرح وتضاعف الحسرة وتضرم لوعة الفقد والغيبة، فالمرأة المجهولة تغني عن المرأة المجهولة؛ لأنك لا تعرف لها صفةً تنكرها عند أختها … أما التي «تشخصت» في حسك كل صفة من صفاتها، فكيف ترى امرأة غيرها دون أن تشعر في كل لمحةٍ وكل لمسةٍ أن لها وجهًا غير وجه فلانة، وعينًا غير عينها، وصوتًا غير صوتها، وقوامًا غير قوامها، وأعطافًا غير أعطافها، وروحًا غير روحها، وكلامًا غير كلامها؟
وكيف تشعر بذلك دون أن تنقلب التسلية غصة، ودون أن ينقلب العوض المنشود ذريعة من ذرائع الفقد الدائم والحرمان المتجدد؟
كلا، لا تسلية عن «النظارة» المضبوطة بنظارةٍ أنفس منها وأقدر على التقريب والتوضيح.
ولا تسلية عن الابن الضائع بابنٍ من صُلب غيرك ولا من صُلبك، ولو كان أبرَّ الأبناء الذين ولد الآباء، ولا تسلية عن المرأة المعشوقة بامرأةٍ تفوقها ملاحةً وتبرعها ذكاء، وتبذها عندك وعند غيرك في بعض الخصال ولا في جميع الخصال.
وفي الحب كثير من بقايا الطفولة وتراث الغريزة، فلا بد للقلب من فترةٍ طويلةٍ يعاف فيها كل هوى غير هواه، كما يعاف الطفل كل ثديٍ غير ثديه، أو يعاف الطير كل أليف غير أليفه، أو يعاف الحيوان كل سكنٍ غير سكنه بين أمه وأبيه.
•••
في هذه الفترة عاد «أمين» إلى القاهرة في إجازةٍ طويلةٍ، ورأى من الأمسية الأولى التي قضاها مع همام أين تقف الأمور كما يقول، بغير حاجةٍ إلى إفاضة شرح وإطالة سؤال.
الحقيقة غير معروفة، والسلوى غير ميسورة، والوقت ثقيل كسيح لا يخف ولا يتحرك! وكل وسيلة يقطعانه بها لا تلبث أن تمسه قليلًا حتى تتثلم وتكل وترتد عن صفحته الكثيفة وجلده الصفيق؛ فالقراءة لا تنفع واللعب لا يمنع الذهن أن يشرد ويتيه، والسماع لا يُطاق، والرياضة مطلوبة مستحبة على أن تكون في غير الأماكن التي كان يطرقها همام وسارة، وهل من مكانٍ لَمْ يطرقاه؟
وكثر التحدث عن الجنون والمجانين وبوادر الهوى التي تصيب العقلاء من حيث لا يعلمون ولا يعلم أصحابهم المقربون، فكان همام يقول: ما أحسب إلا أنني سأكون بين الناس في بعض الأيام فأخلط بالحديث عن سارة وظنون سارة، ثم يسأل أمينًا: ترى كيف تقع هذه المفاجأة في فلانٍ وفلانٍ؟ وكيف يكون هذا الخلط لو كان؟
ثم يأخذان في التمثيل والمحاكاة كأنهما يتلهيان ويتفكهان، وإنهما لفي مرارةٍ سقيمةٍ تفسد جميع الطعوم!
هذا أو يعمد أمين إلى فنونٍ من الألاعيب الصبيانية ينفي بها الملل ويموه بها الكآبة، فيدق التليفون ويجيبه الرجل المقصود أو غير المقصود، فيجري بينهما حديثٌ كهذا الحديث: هل أنت فلان؟
– نعم، أنا هو.
– أواثق أنت مما تقول؟
– عجبًا، ما معنى هذا السؤال؟
– عفوًا يا سيدي عفوًا … إنما أردتُ أن أتحقق من صواب عاملات التليفون، فهل عندك الرقم المطلوب بعينه؟
– نعم يا سيدي، هل من خدمة؟
– بل سؤال صغير إن سمحت!
– تفضل.
– أرجو أن تجيبني ولا تستغرب، هل قرأت صهاريج اللؤلؤ؟
– صهاريج اللؤلؤ؟ ما هذا؟
– أي نعم، صهاريج اللؤلؤ للسيد توفيق البكري، ظننتك قد سمعتَ به … أما سمعتَ به؟ أما قرأته؟
– بلى، قرأته، فما هذه الأسئلة العجيبة؟
– إذن، تقرءه مرةً ثانيةً!
ثم يلقي السماعة، ويمضي في تخيل فلان هذا وهو يغضب ويصخب، وينعي على مصر والمصريين هذه الفصول التي لا تحدث في باريس ولا لندن ولا برلين!
صبيانيات من هذا القبيل تشغل الوقت، ويندر جدًّا أن تغصب همامًا على ضحكةٍ أو ابتسامةٍ، إلى أن كانت ليلة من هذه الليالي المتشابهات طال فيها السأم ونزر فيها الكلام ورانت فيها الكآبة، فقال أمين: ما الرأي في استئناف الرقابة؟
ولعله قالها لفتح باب من أبواب السمر، أو لعله قالها لدفع السآمة، أو لعله قالها شوقًا إلى إتمام عملٍ بدأ فيه وكبر عليه أن يتركه بغير نتيجة … إلا أن همامًا رحب باقتراحه وحاول أن يجدَّ في معارضته كي يمهد لأمين طريق التراجع إن كان قد تعجل أو بدر منه ذلك الاقتراح تزجيةً للوقت وجذبًا لأطراف الحديث، فلم تسعفه أسباب المعارضة ولم يسعه إلا الموافقة، وهو لا يدري من فائدةٍ لاستئناف الرقابة إلا أنه عمل لن يزيده تعبًا على تعبه، وقد يريح.
وبدأت الرقابة بكرةً وقد تدرب عليها أمين من جهةٍ، وتهيأت دواعيها من جهةٍ أخرى، وعاونتها المصادفات من جهةٍ ثالثةٍ فنجحت بعد محاولةٍ طويلةٍ نجاحًا كان جديرًا بعناء المحاولة؛ لأنه أراح همامًا وأراح أمينًا وصوَّب الضربة إلى رأس الأوهام واللواعج والمعاذير فقضى عليها.
عاد أمين من رحلته ذات يوم متهللًا مسرعًا يتكلف الحزن والأسف تكلُّف الناعي الذي ينقل أخبار الوفاة إلى وارث مدين يتنازعه الحزن والسرور.
قال همام: خير.
قال أمين: خير، كل الخير.
ولولا احتراسه أن يصدم صديقه بالنبأ السعيد المشئوم لصاح صيحة «أرخميد» … وجدتها، وجدتها … وحق له أن يصيح؛ فقد كان يمتحن زيفًا دقيقًا لا يقل عن الزيف الذي امتحنه الرياضي العظيم.
وسرد القصة بتفصيلاتها عملًا بالوصية الأولى، إن لَمْ يكن همام بالحريص في هذه المرة على التفصيلات، بعد أن نجحت الرقابة وظهرت النتيجة.
وفحوى القصة أنه تبع سارة من منزلها حتى نزلت في ميدان باب الحديد، فمشت أمام ومشى وراء، ودارت بعينيها فيما حولها تروز الطريق وتتوقى الأنظار، فأطل رجلٌ من سيارةٍ وكانت واقفة بالانتظار وأشار إليها، فانفتلت إلى السيارة في سرعة البرق، وتبيَّن أمين الرجل بثيابه وسيماه.
قال همام: وهل تبعتَ السيارة؟
قال أمين: لا، فقد غابت عن النظر قبل أن أدركها بسيارةٍ أخرى.
قال همام مستضحكًا جذلًا ليصرف عنه أسفه المصطنع ويسري عنه ندامة هذا الفشل الصغير، ويسرُّه بنتيجة تعبه: أحسنتَ يا سيد أمين، أحسنتَ، قد وصلنا، وصلنا وإن لَمْ نصل إلى باب الدار، فاستمر على بركة كيوبيد.
•••
وانقضت أيام في مثل حالة المفجوعين الذي اطمأنوا إلى موت فقيدهم في ديار الغربة، ولم يبقَ إلا أن تصل الجثة إلى مقرها الأخير بعد سنوات من وقوع المصاب، لا حدة ولا حداد ولا حرارة في الانتظار، بل مسايرة للأيام والحوادث إلى أن تنتهي حيث يروقها الانتهاء.
ففي بعض هذه الأيام كان همام يركب الترام قبل الموعد بنحو الساعة إلى حيث يلقى أمينًا — عشاء كل يوم — بعد رحلته اليومية المعهودة، فإذا بأمين يقفز إلى جانبه والترام سائر على أقصى سرعة.
فنسي همام ما كانا فيه ولم يذكر إلا نوادر أمين في الخوف من ركوب الترام والنزول منه وهو سائر، فليس أظرف من سهواته المحفوظة إلا نوادره في خوف الترام والمركبات والزوارق وكل ما يسير ويخشى من سيره الهلاك، فقد ولع به أصحابه من جراء ذلك وتعقبوه بالمناوأة والمحاورة عسى أن يقلع عن خوفه فما أقلع … وآخر نوادره في هذا الباب كان في خلال ذلك الأسبوع، وكان هو وأصحابه يغادرون حديقة الحيوان وهم يوهمونه أنهم سيركبون الترام الذي يهم بالمسير، ويتباطئون لقلة اكتراثهم أن يركبوه وهو سائر، فأسرع قبلهم ليدركه قبل أن يتحرك، فتركوه ووقفوا ينظرون إليه وينظر إليهم وهو لا يجسر على النزول!
وأبى أمين أن يقنع بهذا في أضاحيك يوم، فزاد عليه أضحوكةً أخرى من سهواته وبدواته: مضى مع الترام إلى آخر الخط ثم قضى في البحث عن أصحابه بقية الظهيرة، وقد كان في وسعه أن ينزل في المحطة التالية ويركب معهم القطار الذي ركبوه … ولكن الرجل سخي بسهواته ومخاوفه لا ينفق منها بحسابٍ!
ذكر همام هذا حين رأى المعجزة التي ما رآها قط ولا توقعها … وعلم أن أمرًا خطيرًا لا بد قد جرى في الدنيا وقفز بأمين تلك القفزة النادرة، بل تلك القفزة المقطوعة النظير! ولا شك أن الضحك الذي سرى تلك الساعة إلى خاطر همام قد كان بطانةً ناعمةً وثيرةً نسجتها المقادير ليتلقى عليها الخبر المشئوم الميمون، المترقب بنافد الصبر ونافد الحيلة منذ شهور، وقد كان له شأن أي شأن في تهوين المسألة كلها وتلطيفها وإفراغها في مرحلتها الأخيرة في قالب السخر والفكاهة.
فلما جلس أمين إلى جانب همام لَمْ ينتظر سؤالًا ولم يأبه للضحك الذي كان يلوح على عيني همام، وقال في رصانةٍ وتؤدةٍ: انتهت مهمتي.
قال همام: لا ريب في ذلك، فإن قفزتك وحدها لدليل أقوى من كل دليل، فأوجِز يا صاح، أوجز ولا ضرورة للتفصيل.
قال أمين: الآن هي في مخدعٍ مريبٍ في بيتٍ قريبٍ، تبعتها إليه وعرفته وعرفت اسم صاحبه الذي يستأجره، وعرفت أنها تغشاه من حينٍ إلى حين.
فلم يزد همام على أن أغمض عينيه هنيهة، أغمضهما كأنه يتحاشى النظر إلى سبة شائنة، أو كأنه يتهيأ للراحة بعد سهادٍ طويلٍ في ارتقاب خبرٍ مكتومٍ مضنون به عليه، ثم أسرع فصافح أمينًا وهز يده هزة الشكر والرضى والابتهاج، وقال له: صدقت، صدقت، لقد انتهت المهمة، فهلم نحتفل بتشييعها!
ونشط كلاهما نشاطًا لَمْ يدريا ماذا يصنعان به وكيف يجريانه في مجراه، فانطلقا إلى أطراف المدينة يمشيان بل يغذان السير على غير هدى، وطفقا يطوفان ويعودان إلى حيث كانا حتى صادفا اثنين من أصحابهما الأدباء يلتمسان السهر ولا يتفقان على مكان، فانساقوا جميعًا إلى نادٍ متطرفٍ على هامش الصحراء، وكانت الليلة مقمرةً والجو رائقًا والسيارات ذاهبة آيبة في خفةٍ وطربٍ واشتياقٍ.
ويتم التوفيق فيكون أحد الأديبين صاحبنا الذي كان أمين يختلق له الأسئلة في التليفون، ويتم التوفيق مرةً أخرى فيجري الحديث في الأدب وفي النثر البليغ وفي صهاريج اللؤلؤ … أي نعم، في صهاريج اللؤلؤ بعينها، ويقول صاحبنا: لقد قرأته مرتين، ويوشك أمين وهمام أن يسألا: أكان ذلك بعد نصيحة التليفون؟ ولكنهما يكتفيان بالإيماء ويحبسان الضحك، ويضيفانه إلى حساب السرور الخفي الذي يحتويانه منفردين.
فيمَ كان ذلك السرور؟
لعله كان سرورًا بتقليم مخالب العذاب التي كانت تنوشه من كل جانبٍ وهو ملقى بينها عاجز عن النجاة منها.
ولعله كان سرور الرضى بتحقيق الظنون وانقطاع الشكوك.
ولعله كان سرور القدرة على التفريط في سارة بغير لاعجةٍ من حسرةٍ ولا خالجةٍ من ندمٍ … أوَلَمْ تعد مرأة من النساء بعد أن كانت المرأة «المخصوصة» بعاشقٍ واحدٍ دون سائر الرجال؟ ألم تنقشع عنها سرابيل الحب الأثير التي كانت تغليها وتعلو بها في ضمير همام؟ ألم يسقط عنها «سحر» الانفراد الذي جعلها محبوبة لا تغني عنها واحدة ممن يحملن عنوان النساء؟
بلي! كان ذلك أكبر ما سرَّ همامًا في تلك الليلة بما سمع من «بشارة» أمين، وظل على سروره هذا أيامًا يترشفه ويكرع منه ولا يروي منه بالجرعة والجرعتين، وصفا له شعور الراحة والسَّكينَة برهة لا ينساها بقية أيامه، فلم يرنقها عليه كدر ولا ألم من نكسات الداء القديم، ولم يكد يشعر أن للداء القديم رسيسًا باقيًا إلا حين انقضت إجازة أمين وودعه صباح يومٍ للذهاب إلى عمله، فقد كانا معًا كالسائحين في طريقٍ واحدٍ معروف المعالم والأنحاء لهما على السواء، فلما افترقا أحس همام كأنه قد ضل الطريق، وألح عليه هذا الإحساس المبهم بضعة أيام، ثم تراجع رويدًا رويدًا إلى رضوان صحيح، أو رضوان يقنع نفسه بأنه صحيح.
إلا أن كوبيد شيطان مريد له لؤم الشياطين ونزعاتهم ومكائدهم وكراهتهم أن يتركوا الناس هادئين وادعين، فمن حينٍ إلى حينٍ كان همام يسمعه يهجس له ويوسوس في صدره ليسلبه ارتياحه إلى فراق سارة وقدرته على تناسيها، فلا يفتأ يعاوده أبدًا بهذا السؤال: أليس من الجائز أنها وفت لك في أيام عشرتها واستحقت وفاءك لها وصيانتك إياها وغيرتك عليها؟ أليس من الجائز أنها يئست منك فزلت بعد الفراق …؟!