الشُّكُوك
من النادر جدًّا أن يتواعد مُحبَّان على اللقاء بعد فراقٍ طويلٍ ثم لا يسرعان إلى موعد اللقاء بلهفةٍ شديدةٍ واشتياقٍ عظيمٍ، إن لَمْ يكن حُبًّا أو حنينًا أو رغبةً في المتعة والسرور، فعلى الأقل من قبيل الفضول والاستطلاع والرغبة المُلحَّة عند كلٍّ منهما في الوقوف على أخبار صاحبه وأحواله في الغياب الطويل: هل أَحَبَّت غيره؟ وهل أَحَبَّ غيرها؟ وهل سَلَتْ؟ وهل سلا؟ وبماذا يشعران في الحب الجديد؟ أو ماذا بقي عندهما من الحب القديم؟ وماذا تقول له حين تخلو به؟ وماذا يبدر من كلامه حين يخلو بها؟ وأشباه ذلك من الأسئلة التي يلقيها كلاهما على نفسه ويحسب أنه في أشد الحاجة إلى الوقوف على جوابها، فربما كان هذا الفضول من أقوى مظاهر الحب، ومِن أوثق روابط الاتصال بين كثيرٍ من الناس؛ محبين كانوا أو غير محبين.
فإذا حدث غير ذلك واجتهد أحد العاشِقَين أو كلاهما في اجتناب الموعد المنتظَر بعد طول العزلة والجفاء، فلا بد أن يكون بينهما شبحٌ قائمٌ من الآلام والأكدار يغطي على جميع المشوقات والمرغبات، ويعكس الفضول والاستطلاع؛ فيستحيل إلى صممٍ ونفورٍ، ويصبح كل شيء أهون من تجديد تلك الحالة المكروهة والعودة إلى ذلك الشبح المرهوب.
وهكذا كانت الشكوك التي تمثلت لصاحبنا؛ فانساق بغير وعي ولا إرادة إلى اجتناب الموعد، والفرار من المنزل، والهزء بكل إغراءٍ وتشويقٍ ينبعث في أعماق حِسِّه من شيطان ذلك الشغف القديم.
كانت شكوكًا مريرة لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض، وكل حلاوات الحياة، كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدًا رويدًا، ولا يزال ينطبق وينطبق وينطبق، حتى لا منفس ولا مهرب ولا قرار، وكثيرًا ما ينتزع ذلك السجن المظلم طبيعة الهرة اللئيمة في مداعبة الفريسة قبل التهامها، فينفرج وينفرج وينفرج حتى يتسع الفضاء بين الأرض والسماء، ثم ينطبق دفعةً واحدةً، حتى لا يمتد فيه طولٌ ولا عرضٌ ولا مكانٌ للتحول والانحراف، بطل المكان فلا مكان ولا أمل في المكان، ووجب البقاء حيث أنت في ذلك الضيق والظلام فلا انتقال ولا رجاء في الانتقال.
وكان صاحبنا كالمشدود بين حبلين يجذبه كلاهما جذبًا عنيفًا بمقدارٍ واحدٍ وقوةٍ واحدةٍ، فلا إلى اليمين، ولا إلى اليسار، ولا إلى البراءة، ولا إلى الاتهام … بل يتساوى جانب البراءة وجانب الاتهام فلا تنهض الحجة هنا حتى تنهض الحجة هناك، ولا تبطل التهمة في هذا الجانب، حتى تبطل التبرئة من ذلك الجانب، وهكذا إلى غير نهاية وإلى غير راحة ولا استقرار.
وضاعف هذه الحالة ذكاؤها من ناحيةٍ، وطبيعة ذهنه وتفكيره من ناحيةٍ أخرى؛ فهي من الذكاء بحيث لا تقدم على عملٍ واحدٍ أو حركةٍ واحدةٍ لا يختلف فيها وجهان، ولا تقبل التضليل والنكران، وهو في تفكيره وطبيعة ذهنه يخلق الاحتمالات الكثيرة، فلا يجوز عنده احتمال راجح إلا جاز عنده في اللحظة نفسها احتمال راجح في قوته ووزنه وجوازه، ولا يدفع هذا أو ذاك إلا بدافعٍ حاسمٍ لا تردد فيه.
ألمٌ لا نظير له في آلام النفوس والعقول، وحيرةٌ لا تضارعها حيرة في الإحساس والتخمين، وأقرب ما كان يُشبِّه به هذه الحيرة حالة الأب المستريب الذي يشك أفجع الشك في وليدٍ منسوبٍ إليه: هل هو ابنه أو هو ابن غيره؟ ومَن هو ذلك الطفل الصغير الذي يتقاضاه حقوق البنوة على الآباء؟ هل هو رمز الحب والعطف والصدق والوفاء، أو هو رمز الخداع والخيانة والاستغفال والاحتقار؟ هل هو مخدوع في عطفه عليه، أو هو مخدوع في نفوره منه؟ وكيف يفصل في هذين الخداعين؟ وكيف يطيق الصبر على واحدٍ منهما، وكلاهما لا يُطَاق.
بذلك كان يُشبِّه حيرته وهو يحاول الاستمتاع بعاطفته التي هو مستغرق فيها، ويحاول في اللحظة بعينها أن يبترها وينساها ولا يعود إليها، ثم لا يدري في أي المحاولتين هو مصيب، ولا بد أن يدري، وهيهات لا سبيل إلى الدراية بحال!
وإذا كان بعض الشكوك في العشق من وساوس الأوهام، فممَّا لا نزاع فيه أن العاشقَ أصدق الناس في شكوكه حينما يبنيها على أسبابٍ صحيحةٍ وحقائق ملموسة؛ لأنه يعرف صاحبته معرفةً لا يخفى معها عارض من عوارض التغير، ولا لمحة من لمحات العين، ولا همسة من همسات الضمير: يعرف نظراتها ويعرف كلماتها، ويعرف ما تقوله عن سجيَّةٍ وما تقوله بتكلُّفٍ واصطناع، ويعرف أن بعض الخشونة أدلُّ على الحب والإخلاص من بعض المجاملة، ويعرف نفسها وكيف تستتر فيها الخفايا، ويعرف جسدها وكيف تختلج فيه النوازع والشهوات.
وقد يسأله مَن يسأله كيف خامرتك الشكوك؟ فيضحك من نفسه أن يجيبه بما يلوح له أو يُطْلِعه على بعض تلك الأسباب، وقد يُؤْثِر في معظم الأحيان أن يكتمها ويموهها على أن يُفضِي بها إلى إنسانٍ كائنًا ما كان.
وبعدُ، فهل الغدر في الحب مستحيل؟
كلا، ليس هو بمستحيل ولا ممَّا يقارب المستحيل، وليس صاحبنا بالذي يصدق ولا صاحبتنا بالتي تصدقه وتدَّعيه.
لقد اعترفت له بعلاقتين سابقتين: إحداهما متينة مستحكمة طويلة، والأخرى هوجاء حامية سريعة، وإحداهما مع كهلٍ يقارب الأربعين، والأخرى مع فتًى في نحو الخامسة والعشرين، وإحداهما صِيدت فيها ولكن على غير كرهٍ منها، والأخرى كانت هي فيها الصائدة، وهي التي نصبت الشِّبَاك، فوقع الصيد على عجلٍ وأسرع الحراس الحانقون فأطاروه!
اعترفتْ له بما كانت تحتال به من الحِيَل البارعة لتلقى عشيقها الأول، وبما كانت تعمي به على مَن حولها حتى لا يرتابوا في أمرها، وإذا استرابوا لَمْ يجدوا عليها ما يثبت الريبة ويقطع اللسان.
واعترفت له بالردود المفحمة التي تدبرها لترغم المتهمين على السكوت.
واعترفت له بما تخجل منه المرأة المعتزة بجمالها ومكانتها، فقالت له إنها لَمْ تكن على يقينٍ من حب عاشقها الأول، ولم تكن تبالي أن يحبها اكتفاءً بعلمها أنها هي تحبه، وذهبت في امتهان كرامتها — وهي مغرورة بفتنتها وامتيازها — إلى حدٍّ من الخضوع لا يُحمَد إلا في التدين والإيمان، فقالت إنها لمحت منه مرة أنه يطيل النظر في مجلسها إلى امرأةٍ أخرى من صديقاتها … فخطر لها أن تناجي نفسها سائلةً: هل يجسر على أن يطلب منها الوساطة بينه وبين تلك المرأة في التقريب والتمهيد؟! … قالت: «فراعني هذا السؤال، ولكني، عدتُ فشعرتُ أني سأفرح بأن أسرَّه، وإن جاء سروره من هذا الطريق المهين!»
ثم انقطعت هذه العلاقة على الرغم منها وعلى الرغم منه، وتمادت بها الوحدة وهي في دهشةٍ مخيفةٍ، فجعلت تلتفت إلى شابٍّ وسيمٍ من الجيران، ثم تُمعن في الالتفات إليه حتى أصبح انتظاره وهو عائد إلى منزله في الهزيع الأخير من الليل شغلًا لها شاغلًا في اليقظة والمنام، وأخذت تحاسبه في طويتها على هذه السهرات وتتخيل مع مَن تكون وكيف تكون …! ويزيدها ذلك لجاجة في الولع ولجاجة في الانتظار، ولم يلبث هذا الالتفات منها أن أدى إلى الالتفات منه ثم إلى التحية ثم إلى لقاءٍ جنونيٍّ في المنزل الذي يحيطها فيه الآل والأقربون، وكانت هذه المغامرة العجيبة هي العلاج الباتر لذلك الجنون العجيب!
وراح صاحبنا يذكر كيف اجتمع بها أول مرة، ويذكر ما تحدثت به إليه في أول خلوة، لَمْ يطل بهما الجلوس يومئذٍ حتى استأذنت في الانصراف؛ لأنها ذاهبة إلى موعدٍ مع صديق، وأرته خطابًا من ذلك الصديق يقول لها فيه إنه يشتري في ذلك اليوم سيارة ويحب أن يستأنس برأيها وبذوقها في اختيار اللون والطراز، فأذن لها صاحبنا وهو يقول مازحًا: «هذا موعد يرشحك لصناعةٍ مفيدةٍ … فلا تهمليه …»
قالت له في أول لقاءٍ بعدها: «لشد ما كنتُ أترقب منك أن تستبقِني وتؤخرني عن ذلك الموعد، ولو قلت لي: لا تذهبي! لما ذهبت … ولو مزَّقتَ الخطاب أو خطفته من يدي لجزيتك على صنيعك أحسن الجزاء!»
وكانت تحب الضحك وتفطن إلى الفكاهة وتضحك أحيانًا حتى تشرق عيناها الواسعتان بالدموع، ولكن صاحبنا لا يذكر أنها ضحكت يومًا كما ضحكت أمامه وهي تمثل الصديق صاحب السيارة، وتروي ما جرى بينها وبينه حين اجترأ أول مرة على اقتراحٍ خطيرٍ، بعد تمهيدٍ وتحضيرٍ، وحذرٍ وتحذيرٍ.
وما هو الاقتراح الخطير؟
قبلة …!
نعم، قبلة، وأكدت الكلمة وهي تروي الحكاية مرتين.
قالت: إنه كان ينتظرني في طريق الزمالك، فلمحتُ أول ما وقع نظري عليه أنه مهمومٌ قَلِقٌ يخفي على أطراف شفتيه نيةً من النيات، وكان ذلك بعد أن التقينا عدة مرات وانفردنا في الخلوات ساعات، فلم يعسر عليَّ أن أستشف تلك النية، وراقني أن أستدرجه إلى الإفصاح عنها لأرى كيف يتدرج في الكلام، فأضجرني كثيرًا قبل أن يستجمع في قلبه القدرة على أن يقول: يا فلانة!
قلتُ: نعم يا فلان.
قال: إن لي أمنية أحب أن أفاتحك فيها، وأرجو ألَّا ترفضيها ولا تسيئي تأويلها.
قلتُ: إنني أحب أن أرى أمانيك كلها تتحقق، ولا سيما الأماني التي فيها لك الخير والنجاح.
قال: أشكرك … لكن هذه الأمنية في يديكِ أنتِ؟
قلتُ كالمستغربة: في يديَّ أنا؟ ما علمتُ قبل الآن أنني رئيسة عليك، ولا أنني قادرة على نفعك وتوفير ما تتمناه!
فأحجم قليلًا، وخشيتُ أن يعدل عن مجرى حديثه فعدتُ أقول: ومع هذا أسمع منك هذه الأمنية فلعلي أشير عليك بما يفيد.
وبعد جهدٍ جهيد صرَّح وهو يستغفر ويتلعثم بأنه يتمنى على الله أن أسمح له بقبلة!
فسكتُّ هنيهة لا أدري هل أضحك أم أتغاضب، وظن أنني أتجهم وأقطب وأنني أهِمُّ أن ألومه وأخاطبه بما يسوءه، فأسرع إلى الاعتذار، وأسرعتُ أنا إلى الكلام لئلا أضحك، قائلةً: أوَهذا يحسن بك يا فلان؟ لكأني بك غدًا تتمادى إلى أكثر من ذاك …
فصاح كمَن مسَّته نارٌ: أنا؟ أتظنين يا فلانة أنني من هؤلاء؟ معاذ الله يا فلانة! معاذ الله!
•••
لَمْ ينسَ صاحبنا كيف كانت تضحك وهي تحكي له هذه الحكاية، واستدل من ضحكها أكثر مما استدل من كلامها على مبلغ استخفافها بما يسمونه الصداقة بين النساء والرجال، فما الذي يمنعه أن يصدق أنها تستخف بالوفاء وتمضي مع أيسر الأهواء؟
لا، بل هي قد اعترفتْ له بما هو أدعى إلى الشك والريبة من جميع ما تَقدَّم … فقد غضب منها وغضبت منه قبل الغضبة الأخيرة مرات عديدات، بعضها يعقبه الصلح في يومها وبعضها يتجاوز الأيام وقد يتجاوز الأسابيع، ففي إحدى المرات افترقا بعد عراكٍ عنيفٍ بالغٍ في العنف والتهجم فوق ما تعوَّدا من عراكٍ وصدامٍ، وسافر إلى مصيفه وسافرت إلى مصيفها، ولا مطمع لهما في لقاءٍ، وبلغ من يقينه بالفراق الفاصل أنه عاد من سفره وهو لا يترقب منها سلامًا ولو سلام المجاملة والتكليف، ولكنه بعد أيامٍ قليلةٍ تلقَّى غلافًا فيه صور شمسية تمثلها إلى جانب بعض المشاهد الخارجية التي يرحل إليها المصطافون والسائحون، ومضت أيامٌ معدودات وإذا بجرس التليفون يدق، وإذا بالمتكلم ذلك الصوت الذي لا يلتبس عليه بين ألوف الأصوات: الحمد لله على السلامة!
– سلَّمكِ الله وعافاكِ!
– هل لي أن ألقاك اليوم؟
– نعم، تفضلي!
– أتفضل؟ لا، لستُ أتفضل، ولكني أزورك لألتمس الغفران … هل في وسعك أن تمثل دور الكاهن في الديانة المسيحية؟
قال: أخشى أن يكون دورك إذن هو دور الخاطئة؟
قالت: هو ذاك، فإلى اللقاء … فالتليفون لا يتسع لمثل هذا الحديث.
لَمْ يشعر ذلك اليوم وهو ينتظرها بخداعٍ ولا باستغفالٍ ولا احتقارٍ، ولكنه شعر بخسارةٍ وأسفٍ، وانتظرها كما ينتظر الطبيب مريضًا يلجأ إليه، واستقبلها عاطفًا عليها متطلعًا إلى ما وراء حديثها مستعدًّا للتسامح في الإصغاء إليها، فدخلت وهي تقول في غير احتجازٍ ولا امتناعٍ: لا قبلات ولا تحيات حتى تعرف قصتي وأعرف رأيك.
«اسمع يا فلان، إنني لا أؤمن بصداقة المرأة للمرأة ولا عزاء لي في معاشرة الصديقات المزعومات على الإطلاق، فإن لَمْ يكن إلى جانبي رجلٌ أهابه وأحبه وأعتمد على سنده فأنا في وَحْشَة الهالكين، وأنا ضعيفةٌ ضعيفةٌ ضعيفةُ لا طاقة لي على دفع الغواية، وقد افترقنا يائِسَين ليس لك حق عندي وليس لي حق عندك، وأنا لا أحاسبك على شطحاتك في مصيفك إن كانت لك شطحات، ولكني أسمح لك أن تحاسبني على الصغيرة والكبيرة وأبوح لك بأنني زللتُ في المصيف وانغمستُ في صلةٍ غراميةٍ ليس فيها غرامٌ في الحقيقة، ولم أحضر إليك اليوم، بل لَمْ أرسل إليك الصور إلا وقد قطعتُ تلك الصلة وهيأت نفسي لاستئناف مودتنا القديمة، هأنذا الساعة بين يديك فماذا أنت قائل؟ هل تقبلني؟»
فاستزادها من خبر تلك الصلة التي لا غرام فيها كما تقول، واسترسلت هي في تفصيلات لَمْ تستر فيها سرًّا ولم تصبغ فيها أمرًا بغير لونه، ولم تقف دون معرة أو نقيصة كأنها تفرغ قلبها بين يدي الكاهن على حسب «إنذارها» في حديث التليفون.
قال بعد أن أصغى إليها في صمتٍ وإبهامٍ: إنني يا فلانة لا أملك أن أجيبك هذه الليلة، إن أنا قبلتك فلستُ آمن أن أندم، وإن أنا رفضتك فلستُ آمن كذلك أن أندم، ولكن دعيني بضعة أيام ريثما أروض سريرتي على عزمٍ وثيقٍ وأخبرك بما صحَّت نيتي عليه، غير خائف من عواقب العجلة.
وما انقضت تلك الأيام حتى استقبلها صافحًا، وسألها أن تذكر أبدًا أنه قد يفهم عذرها من الضعف، ولن يفهم لها عذرًا من الختل والخداع، وحمد لها صراحتها، ولكنه في الواقع لَمْ يسلم من الاحتراس والتوجس منذ تلك الساعة، ولم يزل على تفاهمٍ دخيلٍ بينه وبين طواياه أنه لا يأوي إلى حصنٍ حصينٍ، وأنه مع ذلك هو حصنه الذي لا بد أن يأوي إليه!
فلمَّا ساورته شبهات الشك توالت أمامه الدلائل من فلتات اللسان وشوارد الخواطر وعلامات الزينة والحلي والملابس، وما إلى ذلك من علامات هي لمن يعهدها أثبت من البراهين وأصدق من الشهود، ورانت السآمة على كل لقاء، وتغلغلت اللواعج والأشجان في كل فراق، وغلبت الأكدار على كل صفاء وكل رجاء، ولم يبقَ إلا أن يقبلها على أن يستغرق هو في حبها، ويسمح لها هي أن تفرغ لغيره وهذا مستحيل، أو يقبلها على أن يلهو بها وتلهو به وهذا أيضًا مستحيل، أو يسوم نفسه قطيعتها، وهذا ما قد عوَّل عليه، وظن أنه استطاعه وقدر عليه خمسة أشهر.
وأنه لفي حسبانه هذا يوشك أن يودِّع القلق والأسر ويُقبِل على الطمأنينة والحرية، إذا به يهاجَم في الصميم، وإذا بالظواهر والبواطن كلها تضمن له وهي تتدفق عليه أنه عائد لا محالة إلى ما ودع من شقاءٍ وألمٍ، وليس بين تلك الظواهر والبواطن كلها ما يضمن له أقل ضمان أن يعود إلى ما ودَّع من ثقةٍ ونعيمٍ، فماذا عساه أن يصنع؟ لا تسل فكره ولا تسل قلبه ولا تسل ضميره، بل سَلْ كل وشيجة من وشائج لحمه ودمه وأعصابه التي عزمت عزمها بغير اكتراث لفكره أو لقلبه أو لضميره، واستقلت بإرادتها وهي لا تترجم عن تلك الإرادة إلا بالعمل الواقع دون التفكير ودون التعليل ودون التفسير، فطلبت النجاة بالبداهة المرتجلة وحملت الجسد الذي هي قوامه إلى خارج المنزل وهي لا تعي ولا تفقه إلى أين تسير، ولا لوم على مَن يطلب النجاة، فإنما هكذا تُطلَب النجاة!