عِلاجُ الشكِّ
مواجهة الحقيقة من أصعب المصاعب في هذه الدنيا.
- أولًا: لأننا في الغالب لا نعرف ما هي الحقيقة.
- وثانيًا: لأننا في الغالب لا نحب أن نعرفها إلا مضطرين، حين نيأس من قدرتنا على جهلها ونشك ثم نشك ثم نرى آخر الأمر أن الشك أصعب وأقسى من مواجهة الحقيقة والصبر عليها.
- وثالثًا: لأننا إذا عرفناه ففي الغالب — أيضًا — أنها تكلفنا تغيير عادة من العادات، وليس أصعب على النفس من تغيير ما اعتادت … فالموت نفسه لا صعوبة فيه لولا أنه يغير ما تعوَّدناه، وفراق الموتى لا يحزننا لولا أنه تغيير عادة أو عادات كثيرة.
وقد كانت الحقيقة أنهما — أي صاحبنا وصاحبتنا — قد تغيَّرا كثيرًا بعد أن مضت على صحبتهما برهة من الزمن، ولكنهما لبثا برهة أخرى من الزمن وهما لا يريدان أن يعترفا بهذا التغيير.
تغيَّرا فلا سرور لهما في اللقاء، وقد كان اللقاء عندهما أكبر سرور يشعر به الإنسان.
ولكنهما لَمْ يزالا يتلاقيان.
•••
تغيَّرا واشتد بهما التغيير، وهما لا يجسران على مواجهة الحقيقة … فلو سأل نفسه هل يريد اللقاء حقًّا أو يريد الفراق لما استطاع الجواب، أو لقال في نفسٍ واحدٍ أنه يريد اللقاء ويريد الفراق.
ولو سألتْ هي نفسها هذا السؤال لكان جوابها أنها لا تعلم لماذا تحضر في الموعد كل يومٍ، ولماذا لا تُفضِّل الانقطاع عن الحضور.
هو لَمْ يجزم بخيانتها كل الجزم؛ فلماذا يتركها؟ … ولكنه لا يسر بلقائها؛ فلماذا يلقاها؟
وهي لَمْ تيأس من صلاح شأنه معها، أو لعلها لَمْ تيأس من قدرتها على خداعه، ويعز عليها أن تتهم نفسها بهذا العجز وهي تفخر بذكائها؛ فلماذا تفقد الثقة بحيلتها وبراعتها واقتدراها؟ ولماذا لا تجرب كياستها مرةً بعد مرة حتى تنجح أو يستوي لديها الفشل والنجاح؟
وهكذا ظلَّا أشهرًا عديدة يمثِّلان سعادتهما الأولى، ويخرجان من مسرح التمثيل كل يوم راضيَيْن أو ساخِطَيْن، وخير ما وصلا إليه في تلك الفترة الطويلة أن يظفرا بالتصفيق من المتفرجين … وهما وحدهما المتفرجان والممثلان!
وكلما حان موعد اللقاء ذهبا إليه كما يذهب الممثل إلى حضور تجربة جديدة بعد أن فشلت تجربته السابقة، ولا بد له من الذهاب، ولا سرور له في القعود والإحجام والتسليم بينه وبين ضميره أن الذهاب لا يفيد.
لقد كانا يحضران إلى الموعد بحكم العادة التي لَمْ يجسرا بعدُ على تغييرها؛ لأنهما كانا يخافان من التفكير في التغيير، ويخافان من التفكير في ذلك الخواء الموحش الذي يستولي عليهما لا محالة بعد ذلك التغيير.
فهما يحضران لأنهما خائفان من الغياب، لا لأنهما راغبان في الحضور.
أما قبل ذلك فما أبعد الفرق وما أهول الاختلاف وما أَحَبَّ اللقاء بعد طول الانتظار! وإن أطول أمد لهذا الانتظار ما كان ليزيد على يومٍ واحدٍ، أو بعض يومٍ في بعض الأوقات.
كانت الساعة الخامسة كأنها علامة موسومة في مدار الفلك بالشُّهب والكواكب والهالات، وكان صاحبنا يتعجل الوقت قبل حلولها بربع ساعة فيلتزم مكانه وراء النافذة لينظر من ثقوبها إلى منعطف الطريق حيث يلوح القادم أول ما يُقبِل على الدار، وكثيرًا ما كانت الغيوم تكفهر والغيوث تنهمر والهواء يعصف باردًا قارسًا في صبَّارة الشتاء، وصاحبنا واقف وراء النافذة قبل الموعد بربع ساعة يوشك وهو وَجِل منقبض الصدر غائم الخاطر أن ييأس من وصول صاحبتنا في موعدها، ولها العذر كل العذر إذا هي تأخرت ساعات أو عدلت عن الخروج طوال ذلك اليوم، ولا يزال في مرقبه نهبًا لهذا الوسواس لمحة بعد لمحة، كأن الزمن قد استحال إلى أجزاءٍ تُعدُّ بالملايين وملايين الملايين لا بستين دقيقة في الساعة وستين ثانية في الدقيقة! وكلما تقدم جزء من هذه الملايين تضاعف الوجل وتفاقم الحذر واختلجت الهواجس المثيرة كما تختلج الذرات في قارورة يرجها الشلال الدافق أعنف ارتجاج، وبعد مليون جزء من أجزاء الزمن تقترب الساعة الخامسة فإذا هي الساعة الخامسة إلا عشر دقائق! وبعد مليون آخر ثم مليون ثم مليون تقترب ثم تقترب فإذا هي الساعة الخامسة والدقيقة الثانية … والويل له إذا تجاوزت هذا الحد ولو إلى دقائق معدودات؛ لأن الدقائق المعدودات لا بد أن تُترجَم في لغة الانتظار والهواجس بالملايين بعد الملايين التي لا يجمعها الحصر والإحصاء، وأنه ليطيل النظر إلى الطريق حتى يعتريه شبه غيبوبة لا يحقق الناظر فيها ما يراه تحت عينيه، فما رآها مرة بعد هذا الانتظار تهلُّ من مطلع الطريق إلا كما يرجع إلى النائم صحوه، أو كما يرجع إلى المذهول رشاده، وتتقدم وهي تتهادى في خطواتها التي كأنما تتهيأ كل خطوة منها لعناقٍ مشوقٍ، وينفتح الباب وينقسم العالم إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما في الذهن ولا في الخيال: قسمٌ فيه كل شيء، وقسمٌ ليس فيه من شيء … أو قسمٌ موجودٌ، وقسمٌ لا وجود له، والبيت هو القسم العامر الزاخر الحافل الوهَّاج، والدنيا هي القسم المهجور الذي تتسع قاراته وبحاره ومَن فيها وما فيها من السكان لأوسع من مكانها في خرائط الأطفال.
والذي يحدث في الشتاء قد كان يحدث مثله في الصيف أيام السموم والحرور، فلا تأخير ولا اعتذار، ولا سلامة مع ذلك من قلق الانتظار، حتى يحين الموعد ويستقر القرار.
في تلك الأيام كانت كل هنيهة لها شعورها المحبوب المتجدد البهيج: إذا انفتح الباب للقاء فذلك شعور القائد الذي يفتح باب حصنه ليتلقى نجدة الأمان والاطمئنان إلى زمنٍ طويلٍ، وليطرد المخاوف من وراء ذلك الباب إلى مهربٍ سحيقٍ، وإذا انفتح الباب للوداع فذلك شعور الشارب الذي استوفى نصيبه من العقار وبقي له نصيبه من النشوة والتذكار، ونصيبه من الشوق في الغد إلى مثل هذا اللقاء ومثل هذا الوداع ومثل هذا الانتظار، وبين لقاء كل يوم ووداعه ألف لقاء ووداع، وألف انتقال من حالٍ إلى حال، وألف سَكِينَة وألف ابتدار.
تلك أيام!
ثم جاءت بعدها أيام.
وشتَّان أيام وأيام.
نعم شَتَّان حقيقةً وتمثيل … وأي تمثيل؟! تمثيل اللاعب الذي يُسَاق إلى دوره سوقًا لأنه يخشى الفشل لا لأنه يأمل النجاح.
واستمرت المواعيد، واستمر اللقاء، واستمرت السآمة، واستمر الشقاق، واستمرت مع كل ذلك محاولات عقيمة مستميتة أن يعود ما لا سبيل إلى أن يعود.
وكانت هي تقلد نفسها في أيام الصفاء فتمد يدها إلى جيبه بعد عاصفةٍ من اللوم الجارح والملاحاة الموجعة كما كانت تمدها إلى جيبه بعد ساعات الرضى والدلال لتُخرِج منه المفكرة المعهودة وتكتب فيها أسطرًا أو كلمات تسجل بها ما كان في ذلك اليوم، فكتبتْ يومًا بعد مقابلة لَمْ يُسمَع فيها إلا جدال ومحال أو سكوت هو أثقل من الجدال والمحال: «نزهةٌ رسميةٌ في عربة، ثم مناقشة جدية، ثم مصافحة وتقبيل، ولا عجب في ذلك … فإن الحب يسهر!»
نعم، يسهر من الأرق لا من العناية!
وسهر الحب إلى اليوم التالي فالتقيا وتراضيا وتناولت هي المفكرة وكتبت فيها خمس كلمات: «سامحت من غير سبب، أحبك.»
ولكنها كانت آخر ما كتبتْ في مفكرة ذلك العام، وفيما بعده من أعوام.
ومن الناس مَن يستطيب أمثال هذه المقابلات ولو لَمْ يكن فيها إلا تمثيل ناجح أو تمثيل فاشل، وصاحبنا خليق أن يكون واحدًا من هؤلاء الناس لو اقتصر الأمر على الفتور والتكلف والمناقشة والملال، ولكن الشيء الذي لا يُطَاق هو أن تشك ثم لا تستطيع أن تصل إلى الحقيقة، ولا أن تكفَّ عن الشك ولا أن تستقر عليه، فإنها حالة لا يُطَاق لها دوام ولا بد لها من انتهاء.
فكيف هذا الانتهاء؟
أول ما اتفقا عليه أن يتفاهما على الفراق أسبوعًا أو أسبوعين ريثما يعرفان كيف يكون صبرهما على هذا الفراق القصير، ويعرفان من ثَمَّ كيف يكون صبرهما على الفراق الحاسم الذي لا لقاء بعده، فإن هان عليهما بعد هذه المحاولة أن ينفصلا بسلام فلينفصلا إذن بغير ندم ولا خصام، وإن عزَّت عليهما القطيعة فعسى أن يكون الاشتياق إلى اللقاء فاتحة الرغبة الصادقة من جديد، وعسى أن يفهم كلاهما من مكان صاحبه عنده ما ينهاه عن مطاوعة الهواجس ومجاراة الشكوك.
وقد استفادا من هذه المحاولة العسيرة فائدة لا يحتقرانها بعد طول السآمة وطول النزاع، فإن اللهفة الصادقة التي طغت عليهما يوم عادا إلى اللقاء قد عادت بهما إلى حنينٍ شبيهٍ بالحنين بالقديم، ونعما في ذلك اليوم بمتعةٍ هنيئةٍ لَمْ ينعما بها منذ عهدٍ طويلٍ.
ولما شيَّعها إلى الباب وهو يقول إلى اللقاء في الغد، قالت: لا … إن اللقاء بعد يومين أو ثلاثة أمتع وأشهى … وسأخبرك أو تخبرني عن الموعد متى طلبناه … ولا نتفق عليه الآن!
واستحسن منها هذا التسويف كما كان من قبل يستحسن منها نشاطها في تعجيل المواعيد، وود في خلده لو يتأجل اللقاء خمسة أيام أو ستة لا يومًا أو يومين، ففي ذلك فطام للهوى وشحذ للشوق والرغبة، وامتحان لقوى النفس يسبر غورها ويلذ فيه حب الاستطلاع.
إلا أنها محاولة قصيرة لَمْ يُكتب لها العمر المديد.
فما هو إلا موعد أو موعدان حتى أحس كما يحس كل رجل يفهم طباع المرأة التي يهواها أنها لَمْ تحافظ على وفائها ولم تعصم جسدها أيام الغياب، وأنها أصبحت ترحب بالتسويف؛ لأنها تريده وتستريح إليه … ورجع إلى ذاكرته يفتش لعله يذكر هل هي التي اقترحت في بادئ الأمر أن يعالج الشك بالتسويف والمباعدة بين المواعيد أو هو الذي بدأ بالاقتراح، فتذكر أنها كانت تحوم حول الاقتراح وتوحيه إليه وتهتم بأن توقع في ذهنه أنه هو صاحبه وموحيه … فقال لها متهكمًا: أرى أن الحل الأخير الذي اهتدينا إليه يرضي أكثر من اثنين!
قالت: ماذا تعني؟
قال: أعني أنه ربما أرضى ثلاثة بدلًا من اثنين، وربما أربعة … مَن يدري؟
قالت متهكمة: وربما خمسة أو ستة … زيادة خير … ولماذا تكره الرضى لعباد الله؟!
وتلا هذه المحاورة منظر من مناظر المسابقة في الإيلام والتبكيت والغضب والإغضاب، قال فيه وقالت، وتمادى فيه وتمادت، وباح فيه وباحت، وخرجت من المنزل حانقة لا تودع ولا تسلم ولا تعد بلقاءٍ مؤجَّلٍ ولا بلقاءٍ سريعٍ.
•••
أيتها الصديقة:
أيًّا كان رأيي فيكِ أو رأيكِ فيَّ فلا ضير في إرسال هذه الكلمة إليكِ، ولا خسارة عليَّ إن ضاعت عندك أو صادفت نصيبًا من الإصغاء … إن مسحة من الألم ألمحها على وجهكِ تُخيل إليَّ أنني أخاطبكِ منكِ مستمعًا، وأن موضعًا حيًّا في ضميرك لا يزال مفتوحًا لهذا الخطاب.
لا حاجة إلى البحث في تفاصيل حياتِك القديم منها أو الجديد، فحسبي ما سمعته من لسانِكِ، وحسبي أنَّكِ تعترفين لي أنا بعلاقاتٍ ماضيةٍ مع أكثر من رجلٍ واحدٍ، وفي هذا كفاية وفوق الكفاية!
فلو قيل لي إنني سأسمع هذا الخبر من إنسانٍ لَمَا خطر لي قط أنني أسمعه منكِ أنتِ باختيارك، ولو جاز أن تبوحي به لكل أذنٍ لكانت أذني هي الأذن الوحيدة التي يجمل بكِ أن تكتمي السر عنها؛ لأنني أنا الرجل الوحيد الذي يرى لكِ كرامةً غير كرامة جسدك، ويحب أن يعرف لكِ قيمةً أكبر من هذه القيمة.
ومع هذا بأي بساطةٍ كنتِ تتحدثين عن علاقاتك بالرجال وخلوتهم بكِ هنا وهناك! … لكأنما كنتِ تفخرين … أو كأنما كنتِ تشفقين من كتمان هذا الحظ السعيد … فيا صديقتي لشد ما ضللكِ الشقاء حتى جهلتِ ما تعرفه المرأة بالفطرة بغير حاجةٍ إلى تعليمٍ وتلقينٍ، وحتى نسيتِ أن المرأة تستطيع أن تكون لهذا ولذاك، ولكنها لا تستطيع أن تفخر بشيء لَمْ تعجز عنه امرأةٌ بين النساء، فهل أصدق حقًّا أنَّكِ تلك المرأة التي لَمْ يبقَ لها إلا هذا الفخر المخجل الأليم؟ وهل أنتِ حقًّا تلك المرأة التي تجد سعادتها في هذا المجال؟!
أظن — وأرجو أن يكون ظني صحيحًا — أنَّكِ تخدعين نفسكِ يا صديقتي الخادعة المخدوعة.
لستِ أنتِ التي تشعر بالسعادة في هذه العيشة الأسيفة.
غيركِ من النساء تنعم بها وتستطيبها، ولكن شقاءك أنتِ بها لا يعدله شقاء.
انظري إلى وجهكِ في المرآة، انظري إلى ألم ضميركِ الذي يبكيكِ كثيرًا ولا ريب في ساعات الوحدة والانفراد.
ثم اسألي نفسك: ما نهاية كل هذا وما العاقبة وما المصير؟ لو بقيتِ على هذه الحالة سنة واحدة لفقدتِ جمالكِ في عنفوان شبابكِ، وفقدتِ كل ثقتكِ واحترامكِ لشعور الأنوثة الذي لا سعادة لامرأةٍ بغيره. وماذا في الحياة بعد فقد الثقة وفقد احترام الشعور؟ أنتِ في تلك الحالة بين اثنتين: إما أن تألفي العيشة التي تؤلمكِ الآن، وهذا هو موت النفس الذي يموت به كل سرورٍ صحيحٍ.
وإما أن تتعذبي بها أبدًا بغير عزاءٍ يهوِّن عليكِ فقد الصحة والنضارة، وأنتِ إنما تفرين من العذاب وتطلبين الراحة والاطمئنان.
أنتِ تتألمين ولكنكِ تجهلين ما يدفع عنكِ هذا الألم المخيف … فاذكري نوبات الحيرة وتبكيت الضمير التي كانت تساورك حين تحضرين إليَّ، واذكري كيف كنا نفترق وقد هدأت نفسكِ بعض الهدوء واستراح ضميركِ بعض الراحة … كان اهتمامي بكِ حتى بالغضب عليكِ يفرج شيئًا من الضيق الذي يسد عليكِ منافذ الأمل؛ لأنه يعطيكِ فكرةً عاليةً في نفسكِ، فيعزيكِ ويقويكِ ويرفع عنكِ ذلك الصَّغار الذي يسمم كل شعورٍ وينغص كل نعيمٍ.
اذكري كيف كان وجهكِ يشرق بالبشاشة من عهدٍ قريبٍ، وكيف ظهر ذلك على صحتكِ وملامحكِ، فسألتِني في يومٍ من الأيام بين الجد والمزاح: أصحيح؟ أصحيح أن وجهي يمتلئ ويحلو؟ كان ذلك وأنتِ تشعرين إلى جانبكِ بنفسٍ إنسانيةٍ تحنو عليكِ وتفكر فيكِ وتجتهد في عذركِ ما استطاعت، وترعاكِ في الغيبة والحضور، وهذا أحوج ما تحتاج إليه المرأة خاصةً في هذه الحياة.
فكل امرأة — كل امرأة بلا استثناء — في وسعها أن تجد رجلًا يأخذها جسدًا ويطرحها سائمًا بعد حينٍ بلا أسف ولا شكر ولا احترام.
ولكن ليست كل امرأة واجدة تلك النفس العطوف التي تفهم الدنيا وتفهمها وتحب لها الخير لغير غايةٍ وتهتم بها وحدها بين جميع الناس، وتراها أهلًا للرضى والغضب والشكر والملام.
أنتِ أمٌّ فاذكري ذلك جيدًا.
أنتِ فتاةٌ ذكيةٌ متعلمةٌ حساسةٌ يقل بين الفتيات مثلكِ في هذه الصفات، فلا تنسي عزتكِ التي تليق بكِ ولا تنزلي قدركِ منزلًا لا ترضاه لقدرها كل فتاة، واسألي نفسكِ مرةً أخرى: هل وصلتْ امرأة إلى العاقبة المخيفة — إلى المرض والهوان — من غير هذه البداية؟ وهل وصلت امرأة إلى تلك العاقبة وهي تظن أنها واصلة إليها أو قريبة منها؟ كلا! … كلهن يا صديقتي يحسبن أن النهاية بعيدة، وأن الاحتراس كافٍ للأمان الدائم والنجاة من عاقبة غيرهن، والعاقبة واحدة على كل حال!
ولستِ أنتِ لسوء حظكِ كأولئك النساء اللواتي تحوطهن حمايات كثيرة وقرابات مشتبكة تستر العيوب وتضلل الشبهات.
فأنتِ في حياة التجرد والانفراد عرضة لكل شيء وفريسة رخيصة لكل واشٍ أثيم، وكم جنى عليكِ حرمانكِ من أنس القرابة الشفيقة وحنان الأم الرءوم ومعيشة الزوجية الهانئة، فخسرتِ السعادة وأفسد عليكِ اليأس عاطفة الرحمة والإخلاص.
ولكن هل من الضروري لكِ أن تجني أنتِ أيضًا على نفسكِ بيديكِ فتسلبيها حتى سلوة الألم الشريف وإباء الحرمان العفيف؟ وهل يبقى حرمان فوق حرمان المرأة التي لا تعرف السعادة ولا تعرف الألم الذي تحترمه هي ويحترمه الناس؟
أنا لا أيأس على الرغم من كل شيء … بي من عطفٍ عليكِ وعلم بحقيقة نفسكِ الضعيفة الطيبة و«ظروفكِ» السيئة ما يمنعني أن أنظر إليكِ نظرةً قاسيةً.
وما تمنيتُ ولا أتمنى شيئًا كما أتمنى أن أراكِ بعين الإعجاب والفخر والمحبة، ولكني أقول لكِ وأنا آسف: إن فقدك لَمْ يكن هينًا عليَّ في وقتٍ من الأوقات كما هو هين عليَّ الآن، فإذا كتبتُ إليكِ هذه الكلمة فإنما هي كلمة صديق يريح ضميره وواجب أخير لا بد من أدائه، وإذا أبيتِ إلا أن تفهمي لها معنًى من معاني الأنانية فافهمي إذن أنها كلمة إنسان يذكر برهة من حياته ويود أن يحتفظ بهذه الذكرى نظيفةً شريفةً إلى آخر أيام الحياة.
والوداع، والسلام.